نحن اليوم في الدُّورِ والقصور، وغدًا سنكون من سكان اللحود والقبور، ووالله ليبيتنَّ أحدنا في القبر وحده، وليباشرنَّ التراب خدَّه، وليبقينَّ رهين عمله، فاعتبروا بمن مات قبلكم، فكم من مغرور خرج من دنياه بالكفن، فذهب به إلى بيت البِلَى والدود والعفن، فاه لو رأيتَه قد حلت به المحن، وتغيَّر ذلك الوجه الحسن، ليت شعري بعد الموت أين تذهب؟! رحم الله من اعتبر وتأهب، أين كثير المال وطويل الأمل؟ أما خلا كلٌّ في لحدِهِ مع العمل؟! أين من تنعَّم في قصره؟! أليس قد نزل في قبره؟! آهِ لو تعلم كيف غدا وصار؟! لقد سال في اللحد صديده، وبلي في القبر جديده، وهجره حبيبه ووديده، أين تلك المجالس العالية؟ أين تلك العيشة الصافية؟ خلا والله بما صنع، وما أنقذه الندم وما نفع، فانتبهوا من رقادكم قبل الردى، ﴿ أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى ﴾ [القيامة: 36]، إنما هي جنة أو نار، ﴿ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ ﴾ [الحشر: 2][1]، واعملوا لهذه الحفرة الضيقة الموحشة المظلمة. فعن هانئ مولى عثمان بن عفان قال: ((كان عثمان رضى الله عنه إذا وقف على قبرٍ بكى حتى يبلَّ لحيته، قال: فيُقال له: تذكُرُ الجنة والنار فلا تبكي، وتبكي من هذا، فقال: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن القبر أول منازل الآخرة، فمن نجا منه فما بعده أيسر منه، ومن لم ينجُ منه فما بعده أشد منه، قال: وقال عثمان: ما رأيت منظرًا قط إلا والقبر أفظع منه))[2]، واعلموا أن للقبر ضمَّةً لا ينجو منها أحد؛ كبيرًا كان أو صغيرًا، صالحًا أو طالحًا؛ فقد جاء في الأحاديث أن القبر ضمَّ سعد بن معاذ، وهو الذي تحرك لموته العرش، وفُتحت له أبواب السماء، وشهِدَهُ سبعون ألفًا من الملائكة؛ فعن ابن عمر رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((هذا الذي تحرك له العرش، وفتحت له أبواب السماء، وشهده سبعون ألفًا من الملائكة، لقد ضُمَّ ضمةً ثم فُرج عنه))[3]. إن من أجمل الأحاديث أثرًا في القلوب هذا الحديث الذي بيَّن فيه النبي صلى الله عليه وسلم النعيمَ البرزخيَّ لرجل من الأنصار، وقد جلس النبي على شفير القبر يأمر الحافر أن يوسع للميت من قِبَلِ رأسه ومن قبل رجليه؛ لأن له عذق في قبره من الجنة؛ فعن عاصم بن كليب عن أبيه عن رجل من الأنصار قال: ((خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في جنازة رجل من الأنصار وأنا غلام مع أبي، فجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم على حفرة القبر، فجعل يوصي الحافر ويقول: أوسِعْ من قِبَلِ الرأس وأوسع من قِبَلِ الرجلين؛ لرُبَّ عِذقٍ له في الجنة))[4]. ومن أسباب النعيم في القبور الإيمان بالله تعالى فهو سبيل للنعيم في القبر؛ وثبت في صحيح ابن حبان أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إن المؤمن في قبره لفي روضةٍ خضراءَ، ويُرحَبُ له قبره سبعون ذراعًا، ويُنوَّرُ له كالقمر ليلة البدر، أتدرون فيما أُنزلت هذه الآية: ﴿ فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى ﴾ [طه: 124]، أتدرون ما المعيشة الضنكة؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: عذاب الكافر في قبره، والذي نفسي بيده، إنه يُسلَّط عليه تسعة وتسعون تنِّينًا، أتدرون ما التنين؟ سبعون حيةً لكل حية سبع رؤوس، يلسعونه ويخدشونه إلى يوم القيامة))[5]. والثبات عند سؤال الملكين من أسباب النعيم في القبور؛ قال الله تعالى: ﴿ يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ ﴾ [إبراهيم: 27]، ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((… فتُعادُ روحه في جسده فيأتيه ملكان فيجلسانه، فيقولان له: من ربك؟ فيقول: ربيَ الله، فيقولان له: ما دينك؟ فيقول: ديني الإسلام، فيقولان له: ما هذا الرجل الذي بُعث فيكم؟ فيقول: هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيقولان له: وما علمك؟ فيقول: قرأتُ كتاب الله فآمنت به وصدقت، فذلك قول الله عز وجل: ﴿ يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا ﴾ [إبراهيم: 27] الآية، فينادي منادٍ في السماء أن صدق عبدي، فأفرشوه من الجنة، وألبسوه من الجنة، وافتحوا له بابًا إلى الجنة، قال: فيأتيه من روحِها وطِيبها، ويُفسَحُ له في قبره مدَّ بصره …))[6]. والأعمال الصالحة سبيل للنعيم في القبور؛ قال الله تعالى: ﴿ حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ ﴾ [المؤمنون: 99، 100]، وصح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((… ويأتيه رجل حسن الوجه حسن الثياب طيب الريح، فيقول: أبشر بالذي يسرك، هذا يومك الذي كنتَ تُوعد، فيقول له: من أنت؟ فوجهك الوجه الذي يجيء بالخير، فيقول: أنا عملك الصالح، فيقول: ربِّ أقِمِ الساعة؛ حتى أرجع إلى أهلي ومالي …؛ الحديث))[7]. والصلاة والصيام وفعل الخيرات سبيل للنعيم في القبور؛ فقد ثبت في صحيح ابن حبان عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إن الميت إذا وُضع في قبره إنه يسمع خَفْقَ نعالهم حين يولُّون عنه، فإن كان مؤمنًا، كانت الصلاة عند رأسه، وكان الصيام عن يمينه، وكانت الزكاة عن شماله، وكان فعل الخيرات من الصدقة والصلة والمعروف والإحسان إلى الناس عند رجليه، فيُؤتى من قِبَلِ رأسه، فتقول الصلاة: ما قِبَلي مدخلٌ، ثم يُؤتى عن يمينه، فيقول الصيام: ما قبلي مدخل، ثم يُؤتى عن يساره، فتقول الزكاة: ما قبلي مدخل، ثم يؤتى من قبل رجليه، فتقول فعل الخيرات من الصدقة والصلة والمعروف والإحسان إلى الناس: ما قبلي مدخل، فيُقال له: اجلس فيجلس وقد مُثِّلَتْ له الشمسُ وقد أُدنيت للغروب، فيُقال له: أرأيتَك هذا الرجل الذي كان فيكم، ما تقول فيه وماذا تشهد به عليه؟ فيقول: دعوني حتى أصلي، فيقولون: إنك ستفعل، أخبرني عما نسألك عنه، أرأيتك هذا الرجل الذي كان فيكم، ما تقول فيه وماذا تشهد عليه؟ قال: فيقول: محمدٌ أشهد أنه رسول الله، وأنه جاء بالحق من عند الله، فيُقال له: على ذلك حييتَ، وعلى ذلك مِتَّ، وعلى ذلك تُبعث إن شاء الله، ثم يُفتَح له باب من أبواب الجنة، فيُقال له: هذا مقعدك منها وما أعد الله لك فيها؛ فيزداد غبطةً وسرورًا، ثم يُفتَح له باب من أبواب النار فيُقال له: هذا مقعدك منها وما أعد الله لك فيها لو عصيته؛ فيزداد غبطةً وسرورًا، ثم يُفسَح له في قبره سبعون ذراعًا، وينوَّر له فيه، ويُعاد الجسد لما بدأ منه، فتُجعل نسمته في النَّسمِ الطيب، وهي طير يعلُقُ في شجر الجنة؛ قال: فذلك قوله تعالى: ﴿ يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ ﴾ [إبراهيم: 27] …))[8]. والصدقات سبيل للنعيم في القبور؛ قال الله تعالى: ﴿ وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ * وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ﴾ [المنافقون: 10، 11]، وعن عقبة بن عامر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إن الصدقة لتطفئ عن أهلها حرَّ القبور، وإنما يستظل المؤمن يوم القيامة في ظل صدقته))[9]. ومن أسباب النعيم في القبور قراءةُ سورة الملك؛ فعن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه قال: ((يُؤتى الرجل في قبره، فيؤتى رجلاه، فتقول: ليس لكم على ما قِبَلي سبيل؛ كان يقرأ سورة الملك، ثم يؤتى من قِبَلِ صدره – أو قال: بطنه – فيقول: ليس لكم على ما قبلي سبيل؛ كان يقرأ سورة الملك، ثم يؤتى من قِبَلِ رأسه، فيقول: ليس لكم على ما قبلي سبيل؛ كان يقرأ سورة الملك، فهي المانعةُ تمنع عذاب القبر، وهي في التوراة سورة الملك، من قرأها في ليلة فقد أكثر وأطيب))[10]. والموت في يوم الجمعة أو في ليلتها من أسباب النعيم في القبر؛ فعن عبدالله بن عمرو رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما من مسلم يموت يوم الجمعة أو ليلة الجمعة، إلا وقاه الله فتنة القبر))[11]. والموت بِداءِ البطن من أسباب النعيم في القبور؛ فقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث يرويه عبدالله بن يسار، قال: ((كنتُ جالسًا وسليمان بن صرد وخالد بن عرفطة، فذكروا أن رجلًا توفي مات ببطنه، فإذا هما يشتهيان أن يكونا شهداء جنازته، فقال أحدهما للآخر: ألم يقل رسول الله صلى الله عليه وسلم: من يقتله بطنه فلن يُعذَّب في قبره))، فقال الآخر: بلى، وفي رواية:صدقت))[12]. فالبِدارَ البدار قبل مجيء هادم اللذات، والحذار الحذار من يوم الحسرات، قبل أن يقول المذنب: ﴿ رَبِّ ارْجِعُونِ ﴾، فيُقال له: فات.