في القرآن الكريم تلاحظ اهتماماً بمن سماهم الله عز وجل بأولي الألباب، الذين تكرر ذكرهم ست عشرة مرة في مواضع وسياقات مختلفة، وكذلك تكرار لفعل العقل في تسعة وأربعين موضعاً، للدلالة على أهمية العقل والتفكر عند الإنسان، إذ أنه بميزة العقل أو التفكر، اختلف عن باقي الأحياء في هذا الكون، وأي مساس بهذا العقل أو تلك الميزة، عبر تسطيحه أو دفعه للعمل خارج النطاقات البشرية، فإنما مساس بكينونة صاحبه وآدميته. ما نراه اليوم من شيوع عملية تسطيح للعقول واضحة المعالم في كثير من المجتمعات، عبر وسائل متنوعة، إعلامية وثقافية، إنما هي جريمة يجب ألا تُترك دون ردع أو كشفها وبيان خطورتها على كيان واستقرار المجتمعات، وذلك أضعف الإيمان. حين ترى ذاك الاهتمام، الرسمي منه أو الخاص المتمكن، بالقشور أو هوامش الموضوعات والقضايا، ودفع الجماهير للنظر إليها بشكل سطحي وترك اللب أو الغوص في الأعماق، فاعلم أنك أمام جريمة مكتملة الأركان، يُراد من ورائها صناعة ما اصطلحنا على تسميته في البداية بعملية تسطيح العقول، أي جعلها لا تفارق سطح أي موضوع، بحيث تبقيها ترعى في تلك البقعة وتستهلك ما فيها من حقائق ومعارف، هي في النهاية لا تسمن ولا تغني من جوع، مع الحرص على أن تبقى تلك الجماهير في تلك البقعة، والحيلولة دون وصول ما يعين أو يدعم تلك الجماهير المغلوبة على أمرها، بما يكفي لأن تكون على دراية أو إلمام أو جرأة للغوص بعض الوقت والنظر تحت السطح، ومعرفة خبايا وخفايا الحقائق وعظائم الأمور. صارت عملية تسطيح العقول اليوم في كثير من المجتمعات، أشبه بثقافة يقوم عليها كثيرون، ممن لهم مصلحة أو مجموعة مصالح في استمرارها وأهمية تعزيزها، ومحاربة كل من يحاول الاقتراب من تلك الصناعة الجارية، أو حتى التأثير على أن تتحرر تلك العقول من عقال التسطيح، لتبدأ تعي ما يدور حولها وعليها. .. ثقافة قديمة هذه الثقافة أو الصناعة – إن صح التعبير – ليست حديثة عهد، بل هي قديمة قدم ظهور الكيانات البشرية، وما يلحق بها من مسائل الإدارة والصراع على النفوذ والمصالح. فلقد راجت هذه الثقافة وانتشرت في مجتمعات القمع والإرهاب أو التصفيق والتطبيل، وقام على نشرها والتأكيد عليها زعماء وحكام أو من على شاكلتهم، أرادوا من نشر ثقافة التسطيح تلك، تغييب الوعي العام عن عظائم الأمور والقضايا المهمة، فكانت جل معارف شعوب أولئك الزعماء عبارة عن معلومات غاية في السطحية للكثير من القضايا الحياتية، حتى لم يعد كثيرون قادرون على معرفة الحق من الباطل أو تمييز الصواب من الخطأ. صناعة تسطيح العقول هي واحدة من عشر استراتيجيات تحدث عنها المفكر الأمريكي “تشومسكي ” في معرض إجابته على سؤال: كيف يؤثر الإعلام علينا نفسياً، فكانت إجابته عبارة عن عشر استراتيجيات يسلكها الإعلام الموجّه، من أجل إحداث تأثيرات نفسية وفكرية على الجمهور الأعظم المتابع لتلك الوسائل، وكانت صناعة تسطيح العقول إحداها. اليوم وبفعل وسائل الاتصال والتواصل من فضائيات وإنترنت وغيرها، تسارعت عجلات ثقافة التسطيح بين البشر، حيث تقوم وسائل إعلامية بدور عظيم وغاية في الخطورة في نشر تلك الثقافة، وتناول الكثير من القضايا السياسية والاقتصادية والاجتماعية بصورة سطحية هزيلة. وعلى رغم القوة الهائلة لشبكة الإنترنت للقيام بدور الضد لهذه الثقافة وبيان الحقائق أولاً بأول، إلا أن الملاحظ هو تزايد أعداد من تتسطح ثقافتهم أو عقولهم يوماً بعد يوم، لا سيما في القضايا المصيرية العظيمة، وشواهد ذلك كثيرة. أبرز ما يمكن الاستشهاد به حالياً، هو ما يجري من قبل ” صهاينة العرب ” حول ما تسمى بصفقة القرن، والترويج لها بكل الطرق، لجعلها أمراً طبيعياً بين الشعوب العربية المحيطة بدولة الاحتلال الإسرائيلي وبعض الجوار الأبعدين كدول الخليج مثلاً؛ بحيث يتم تهيئة البيئات والأجواء لتمرير الصفقة، دون أن يحرك ذلك النفوس والمشاعر. مثال آخر على عملية التسطيح يمكن رؤيته عبر قيام مؤسسات رسمية ووسائل إعلامية تساندها، بنشر الثقافة الضحلة الهزيلة، والاحتفاء بأقلام وكتّاب ضحلين وتسليط الأضواء عليها، وتجاهل أصحاب الفكر والعقل وبُعد النظر، لكي ينشأ بعد حين من الدهر قصير، جيل تكون قدوته تلك العقول الهزيلة.. وأمثلة أخرى أكثر من أن نحصيها هاهنا في مساحة محدودة. ولقد ساعدت وسائل التواصل المتنوعة، على ظهور فقاعات إعلامية بشرية، صارت هي الأخرى تلعب دوراً في عملية التسطيح هذه، وما يزيد الطين بلّة، أنها تنشط وتتمدد بمباركات ومتابعات شعبية غوغائية وأحياناً رسمية مرتبة مُحكمة! .. ما المطلوب لمواجهة التسطيح ؟ نشر الوعي بشكل عام، الفكري والسياسي ومن قبلهما الإعلامي، هو أفضل أدوات مقاومة حملات التسطيح والتغييب، لا سيما من قبل من تبقى من النخب المثقفة، صاحبة الضمائر الحية أو الواعية ببواطن الأمور وحقائق الأشياء؛ ذلك أنّ ترك بعض وسائل الإعلام أو مواقع إنترنتية أو وسائل التواصل المختلفة من تلك التي يقوم عليها صهاينة عرب وفقاقيع إعلامية ملونة هنا وهناك، يسرحون ويمرحون في تشكيل وتسطيح عقول الشعوب، هو أمرٌ لا شك أنه غير مقبول البتة. صار من الواجب على كل صاحب ضمير حي يقظ، العمل على تفعيل الضد وتوعية الشعوب وتعميق الفكر لديهم، واستثمار الوسائل ذاتها أو الأسلحة المستخدمة في التسطيح والتجهيل، من أجل صناعة ثقافة التدبر والتفكر والتأمل، التي لا شك نتاجاتها ستكون عظيمة الأثر، لا سيما في وجود عشرات من القضايا التي تتعرض للتسطيح والتشويه كل يوم، وقضية الأقصى والتطبيع أبرزها، ثم فقدان الهوية تاليها، وبينهما ثورات الربيع العربي التي تعرضت وما زالت تتعرض لمحن واختبارات وتحديات قاسية وتشوهات هنا وهناك، وغيرها كثير كثير. عملية بناء العقول ونيل مسمى المصطلح القرآني العظيم – أولي الألباب – ليست سهلة، بل صعوبتها لا تختلف عن صعوبة قيام أي بناء أو كيان، على عكس الهدم والتشويه والتخريب. فكلما كان البنيان محكماً رصيناً راسخاً، استطاع الصمود أمام حملات التشويه والتخريب والتسطيح. فهكذا هي قوانين هندسة البناء والتعمير والإنشاء.. ثم إن الله، أولاً وآخراً، غالب ٌ على أمره، ولكن أكثر الناس لا يعلمون. الشرق القطرية