لقد كان للبعد الجغرافي والثروات التي تمتلكها الجزائر محل أطماع كثيرة، ولدت بمرور الزمن حركية متواصلة من التحدي الهائل في جوانب متعددة، كان الإعلام فصلا من فصول هذا التحدي، فأرض مشى على ترابها العلامة الكبير ابن خلدون لا بد لها أن تشتاق نحو عروبته الكتابية وفكره الأخاذ، والأرض التي أنجبت زعيما وقائدا على شاكلة الأمير عبد القادر مؤسس الدولة الجزائرية سياسيا وإداريا وعسكريا واقتصاديا لا بد لها أن ترتوي من ظله الذي لا يرتفع، وهو القائد والشاعر. * وحيث التحدي لم يتوقف منذ دخول الاستدمار الفرنسي، وانتقل نضال البندقية والسيف والخنجر إلى نضال الكلمة، ومن بين أيدي تجربة المبشرين الفرنسيين ليس تأطيرا ولم يكن، وإنما أخذ كسلاح لمواجهة ذاك السلاح. * وكانت يومها المواقف المشرفة والفاعلة والمنبعثة بروائح حبر الجرائد تنادي كل صباح ومساء ودقيقة: شعب الجزائر مسلم *** وإلى العروبة ينتسب * رغم اختلاف الآراء والتسميات، ورغم كل الضغوط والهجمات والمضايقات، كانت الصحافة الجزائرية تؤدي نضالها التربوي التثقيفي التوجيهي المطلبي، أو هكذا كانت النخبة الجزائرية تقاوم الاحتلال. * لينتهي عهد الكلمة في المخاطبة، وتنطلق لغة الرصاص والبندقية والخنجر العربي في حديث متواصل يزفه الأثير عبر صوت الجزائر المجاهدة وصوت الجزائر وصوت العرب تقاطعا مع صوت الرصاص في جبال الاوراس وكل شبر من الجزائر. * وكان العهد هو العهد بعد الاستقلال، وفي حقيقة الأمر يجب أن لا نتوقف عند بعض السلبيات في تلك المرحلة، فلا يمكن أن نطلب من دولة فتية ذات عهد بالاستقلال بالانفتاح الإعلامي المتعدد، والأمية تضرب أطنابها والمستعمر لا يزال يحوم حول الحمى. * وبتاريخ 1962 رفع العلم الوطني فوق مبنى الإذاعة والتلفزيون بعد انسحاب الفرنسيين منها، حيث عمدت السلطات الفرنسية إلى سحب كل الموظفين من فنيين وتقنيين وإداريين ومهندسين من الإذاعة جملة واحدة، ظنا منهما أن هذا الانسحاب سيوقف البث الإذاعي، بل ستنتهي الإذاعة بتاتا. * إلا أن الجهات الرسمية في الدولة الجزائرية الفتية سارعت إلى الاتصال بشلة من الاعلاميين المتميزين الذين كانوا يسهرون على "صوت الجزائر"، وفي مطلعهم المرحوم عيسى مسعودي الذي عُيّن كأول مدير للإذاعة في عهد الجزائر المستقلة، ولم يتوقف البث كما اعتقد الفرنسيون بل تواصل بكل قوة وإصرار وتحد، خاصة بعد دستور 1989 وقانون الإعلام لسنة 1990 حيث أصبح جهاز الإعلام التلفزيوني منبر، يضرب به المثل في تعدد الآراء والمواقف وحتى في التغطيات، وكانت أحداث الخليج الأولى نموذجا حيا سارت عليه فيما بعد عدة قنوات ك "الجزيرة" و"العربية" وغيرهما كثر. * وبعد التعددية الإعلامية والسياسية تراجع الأداء بفعل حالة الطوارئ وتعنت الساسة، سلطة ومعارضة، فانطفأ البريق بفضل تلك التراكمات، وسقط من سقط كما سقط مئات الجزائريين. * ففي المجال السمعي البصري فإن الاكتفاء بالقناة الوطنية رغم اختلاف التسميات 1-2-3- فضائية أرضية... إلخ، فإن الأمر غير كاف، لأن الأمر لم يعد يرتبط بالجانب السياسي لتعدد القنوات وإنما أصبح بعلاقة الجمهور الجزائري بالقنوات الأجنبية الأخرى. ومن ثم تشكيل الوعي السياسي والأخلاقي والفكري... إلخ. * وتعجبت كيف تطالب وزارة الشؤون الدينية مثلا الجزائريين بالالتزام مثلا بالمذهب المالكي، وهم يسمعون ويتداولون يوميا فتاوى القنوات العربية على مدار الساعة بمذاهب أخرى، بما فيها الشيعية، ودون فهم حقيقي وغربلة. * فإن كانت السلطة الآن في المرحلة الراهنة غير قادرة لأسباب مجهولة على فتح المجال السمعي البصري للخواص، فإنها مدعوة إلى تنويع البرامج كما ونوعا وفتح القطاع ولو في طابعه العمومي على الانشغالات الحقيقية للمواطن الجزائري، كفتح قناة خاصة بالشباب، بالمرأة، بالأسرة، بالرياضة، بالطفولة، بالاقتصاد بالتعليم... إلخ. هذا أمر لا بد منه، فبنية المجتمع وتشكيلته في خطر، فآخر دراسة عربية أثبتت أن ما نسبته 50٪ من العرب يشاهدون القنوات الفضائية الأجنبية؛ بمعدل على الأقل (03) ساعات، وأن 35٪ يشاهدون ساعتين (02)، وأن نسبة 90٪ ممن يشاهدون قنوات فضائية إباحية إجرامية ترجموا تلك الصور على أرض الواقع. و50٪ من شاهدوا تلك القنوات الإباحية فكروا في تطبيق ما شاهدوه. * أما القنوات العادية في بعض الفضائيات فأداؤها مبرمج بهدف معين في كثير من الحالات لا يتوقف واهتمامات الشعب الجزائري، ويمكن أن يؤدي هذا إلى اضطراب اجتماعي وعدم استقرار العلاقات الاجتماعية التقليدية... فضلا عن ظهور معتقدات غير ثابتة، خاصة وأن بعض القنوات لا تقدم سوى المعلومات المثبطة للعزائم والمحبطة للآمال والمشوهة للعقول والنفوس؛ كونها برامج تعتمد على الإثارة والعنف وتحريف الأخبار وتشويه صور الدول الصغرى وترويج كل ما هو تافه في القنوات والآداب حتى تتشكل عقول الجيل القادم على هذا اللون. * إن عدم استخدامنا للتقنية في القطاع السمعي البصري وفق الاحتياجات الحقيقية للجمهور المتلقي من خلال تعدد القنوات وتعدد البرامج والمحتويات كما ونوعا يجعل الجمهور ينصرف، وبدون شك، إلى القنوات أخرى، خاصة تلك التي تقدم عملا إعلاميا محترفا ولكنها وفق أهداف واستراتيجيات خاصة بها، ولأجلها لا يمكن قياس أثرها الآن ولكن بعد سنوات على المواطن الجزائري. * ثم إن غياب فضائيات جزائرية في المستوى يفتح المجال واسعا، أكثر مما نتصور، لهجرة الكفاءات الوطنية للخارج، واليوم توجد خيرة الإطارات الإعلامية الجزائرية في كبريات القنوات الإعلامية الكبرى مثل الجزيرة، العربية، أبو ظبي، BBC البريطانية، صوت ألمانيا... إلخ. * أليس مكان هؤلاء بالجزائر التي أصبحت تنتج الإطارات الإعلامية وتصدرها إلى الخارج وتستورد المواد الإعلامية المتنوعة وموجات البث لقنوات أصبحت تتنافس بشكل مكشوف على جمهور متعطش في فضاء كبير اقتصادي واجتماعي، كفتح "الجزيرة" لمكتب المغرب العربي بالرباط سابقا، وهو الذي كان المفروض أن يكون بالجزائر لعدة عوامل، وقد لاحظ الكثير من المتتبعين كيف أن المعالجة الإعلامية لقناة "الجزيرة" تغيرت بفضل دفتر الشروط الذي فرضته الرباط على القناة، يأتي قي مقدمة هذا الدفتر عدم تسويق نظرية تقرير المصير للصحراء الغربية، وعندما حاولت القناة ان تتحايل على دفتر الشروط غير المعلن اعلن عن توقيف بثها من الرباط بدعوة ما عرف بقضية الطائرة المغربية وقادة الثورة، في الوقت الذي اصبحت فيه مؤسسة الاذاعة والتلفزيون الجزائرية وللاسف مرادفة ل: * - تحقيقات صحافية بعضها سطحي، هش الموضوعات، وركيك الأسلوب، وضعيف اللغة. * - بعض مقدمي ومعدي برامج في الإذاعة المسموعة يشبعون "سيبويه" رفسا وركلا، وخلفياتهم الثقافية ضحلة. * - قراء نشرات أخبار بعضهم مخارج حروفهم غير واضحة، وأداؤهم لا يتسق مع قواعد الأداء الصحيح والسليم. * - مخرجون إذاعيون، بعضهم كل همه "فاصل من الموسيقى" كيفما اتفق. * - محررو أخبار جلهم بينهم وبين مدارس الصياغة الحديثة أمد بعيد. * - مراسلون معظمهم غير مؤهلين أساسا للعمل الإعلامي. * - تدريب إعلامي ناقص وتأهيل منقوص. * - تحليل إخباري غائب في الإذاعة والتلفزيون. * - عدم شمولية النظرة للحدث الإعلامي. * * إحتكار التلفزيون * * ووضع التلفزيون في خدمة الرئيس حصريا منذ انتخابه الأول، وراح هذا الأخير بعد أسابيع فقط من تقلده الرئاسة يتفاخر باعتبار نفسه رئيس التحرير الحقيقي للإعلام العمومي. * وقد أصبح احتكار هذه الوسيلة عاملا حاسما في أيدي جماعة الرئيس للفوز في المعركة الانتخابية، وبوصفه علبة سحرية حقيقية تسلب عيون الشعب، وقد سخر كل قوة لهذا الهدف، وتحولت كل إشارة وكل خطاب وكل زيارة أو تنقل يقوم به الرئيس إلى عرض تلفزيوني حقيقي. * وتجدر الإشارة إلى التأثير الكبير لهذه الوسيلة الإعلامية في نفوس الكثير من الجماهير، خاصة أهل الريف وسكان الجنوب الذين لن يقدر لهم أن يعرفوا من الحياة السياسية الوطنية إلا في صورة الرئيس وحركته وكلامه. * وقد منع التلفزيون عن المعارضة بمن فيهم المرشحون للرئاسة للتعبير عن مواقفهم إلا بمناسبة برنامج الحملة الانتخابية التي قررت اللجنة الوطنية السياسية المكلفة بمراقبة الانتخابات الرئاسية والتشريعية والمحلية أن تكون لفترة قصيرة مدتها 15 يوما. * إن حماية الذوق العام تتطلب أن يكون المتلقي لوسائل الإعلام في مأمن من السقوط في مستنقع المساس بقيمه الاجتماعية، وصياغة رسائل إعلامية تألف العقل، والحوار والمناقشة، وتتسم بالتسامح، والمخالفة في الرأي، والتوافق بين المخالفين في الرأي والمعارضين، وليس من خلال الاعتداء على الذوق العام؛ فالحرية ليست مطلقة، ولكنها تحمل في بذورها القيود التي تحكمها، والحرية المطلقة حرية مدمرة، فإن قيدت فلمصلحة الفرد والمجتمع. * ان النجاح الحقيقي والفعلي لبرنامج رئيس الجمهورية يكمن في تعدد القنوات وتفاعلها مع بعضها البعض وفق قيم مشتركة وبرامج متعددة وآراء متغيرة ومتلونة تعكس تطلعات الجماهير كالمرآة العاكسة حتى يحسن الرئيس التقييم والتقويم، ذاك ان الحضور اليومي والمكثف وغير المضبوط يجعل صورته الإعلامية باهتة لدى المتلقي، ويصبح رجع الصدى ضعيفا حين نطلب من الجمهور التفاعل مع قضية ما. * * التخوف المشروط * * أكيد من حق الجميع ان يتخوف من فضائيات جهوية او حزبية او فئوية، ولكن لنضع دفتر شروط وأسس وقواعد تكون فيها التجربة الإعلامية والسياسية الماضية ركيزة لبناء المستقبل، * غير أن التخوف من هذه القنوات الفضائية ينبغي أن يتحول إلى استبشار بمقدرة وسائل إعلامنا على مزيد من العطاء في ظل الفضاء المفتوح الذي أتاحه البث المباشر بإمكانات التقنية المعاصرة وقدراتها الهائلة على الوصول مباشرة إلى المشاهدين في شتى أنحاء العالم، مما يساعد في فهم واقعنا المشرف وتعريف غيرنا بما نحن عليه من تنمية في ميادين الحياة المتعددة، وتلك النهضة التي نعيشها، كما يعرفهم بالحضارة المشرفة والتراث الإنساني النبيل الذي نملك في حقوله الخصبة ما هو محل فخر واعتزاز. * إن هذه القنوات الفضائية الخاصة لها دورها في كشف الحقائق عبر الأثير لمختلف بقاع العالم؛ ليقف على الوجوه المشرفة لأبناء هذا الوطن في مختلف ميادين العطاء. * وهذا في حد ذاته جهد مشكور يساعد وسائل إعلامنا الرسمي في أداء مهامها ومسؤولياتها في عالم أصبح الإعلام فيه مصدر قوة للدول والشعوب. * وإذا كان هذا شأن القنوات الفضائية الخاصة في فضاء العالم الخارجي، فإنها في داخل الوطن أولى بالعطاء والتميز فيه والتنوع في ميادينه، مما يتطلب منا تشجيعها للقيام بوظائفها وتقديم خدماتها المتميزة في تعريف أبناء الجزائر وأصدقائها وكل المتعاملين معها بمختلف مناطق هذا الوطن وما يزخر به من تراث وثقافة وآثار ومناطق سياحية ونهضة معاصرة في ميادين التعليم والصحة والمواصلات والطرق والاتصالات وغير ذلك من الميادين التي هي في حاجة ليعرفها من لهم اهتمام استثماري أو سياحي أو علمي ثقافي. * إن تلك القنوات يمكنها أن تصبح رافدا مهما من روافد الثقافة لأبناء الوطن، بما تتيحه لهم من ثقافة وطنية تقف سدا منيعا ضد محاولات النيل من الوطن، كما تقف وقفة واعية ضد ألاعيب بعض القنوات الفضائية المغرضة التي تحركها دوافع الحقد والحسد والضغينة؛ مما يجعلها متفوقة في فضاء الكذب والزور والتضليل والافتراء. * في ضوء التجارب الدولية المعاصرة التي يشهدها الفضاء المفتوح والحافلة بالعديد من القنوات الإقليمية داخل الدولة الواحدة، لم تكن تلك القنوات في يوم من الأيام مثار خوف أو موضع شك أو اتهام؛ لأنها تعمل في منظومة إعلامية لها ضوابطها ومحددات العمل فيها التي تلتزم بها في برامجها وفي أدائها، وهذا هو الدور الكبير المطلوب لوزارة الثقافة والإعلام عند الترخيص لهذه القنوات أو التعامل معها. * فلا خوف من قنوات فضائية تعمل في إطار من الثوابت والرواسخ إلا إذا قام دليل على ذلك من خلال المتابعة الواعية، أو إذا كنا نخشى المنافسة من هذه القنوات الوليدة، أو إذا كنا ننسى طبيعة أبناء هذا الوطن المعطاء في جميع المجالات. * * *أستاذ بقسم الإعلام - جامعة الجزائر * مدير مركز التدريب الإعلامي * [email protected] *