لم يحدث في التاريخ البشري برمته أن أسهمت كرة القدم في حل المشاكل الاقتصادية لبلد ما، ومنها البرازيل والأورغواي والشيلي وإنجلترا وألمانيا، كمعاقل لهذه اللعبة المخدرة التي لا تختلف عن دين قوامه الأقدام. كما لم تسهم في ترقية الهندسة والفيزياء والطب والنفس والمدرسة وعلم الفلك ومختلف العلوم الاجتماعية والإنسانية التي تحتاج إليها الأمم لقراءة واقعها وصناعة ذائقتها للهرب من الجهل والعنف والفوضى ومختلف الفتن والانحرافات التي تعصف باستقرارها ومقوماتها. هناك أمور أكثر أهمية في حياة الشعوب المتحضرة التي تعي ما تفعله، أو تلك التي تسعى لبلوغ مصاف الأمم المتقدمة، وهي ذات أولوية قصوى، ومنها الثقافة والبحث، وكل ما يمكن أن يرتبط بهما من معارف مختلفة، وأما كرة القدم فتأتي في مرحلة لاحقة كرياضة مسلية، أو كنوع من الكماليات التي لها علاقة بالفرجة، مع أنها لا ترقى إلى مستوى فرجة المسرح من حيث إنه مؤهل للتوعية والتثقيف والتهذيب والتغيير. في حين أن كرة القدم تنتهي مباشرة بانتهاء المقابلة، وكل ما يليها لا يتعدى حدود التعليقات التي لا تفيد المجتمع في شيء. الشعوب الواعية تستثمر في العقل المنتج لأنها تدرك أن عليها بناء نفسها اقتصاديا وثقافيا وسياسيا وأخلاقيا وحضاريا، في حين يكون الاهتمام بالأقدام عندما تحقق استقلاليتها وتضمن قوتها وسلامتها الأمنية وحضورها الدولي كقوى محترمة. أما الشعوب المتخلفة فتسعى لتعطيل الذكاء وجعل الأقدام تتبوأ عرش الأمة وانشغالاتها، على حساب العقل الذي يأتي في الدرجة الأخيرة لأنه خلاق ومناوئ للجهل والغباء والفساد والخطاب السطحي الذي عادة ما يعتمد في خطته الكلاسيكية على تجييش الجماهير والغوغاء وجعل الأمور الثانوية قضايا مركزية ومصيرية، ومن ذلك الإعلاء من شأن الكرة إلى درجة العبادة، أو اتخاذها منطلقا نوويا لصناعة السعادة العابرة، ومن ثم محاولة تفادي الانفجارات الاجتماعية، أو استباق الفوضى والانكسارات بحلول ترقيعية غير مجدية. الميزانية الضخمة التي تخصصها لهذه اللعبة بعض الدول المستهترة بكيانها ومستقبلها، ومنها الجزائر، تجعلنا نقتنع بأن عقولنا نزلت إلى أقدامنا، ولا يمكن أن تتعداها إلى الرأس من أجل التفكير الجدي في الآليات الحقيقية التي يجب توفيرها لصناعة المعرفة والثقافة والمدرسة والإنسان المحصن المنتج، ومن ثم التخلص من التبعية الكلية للجهد الغيري الذي يوفر لنا حاجاتنا اليومية كلها، بداية من الخبز، مرورا بالحليب والقلم والحبر والورق والدواء والخشب والتربية والابتكار، وكل ما له علاقة بحياتنا المتدنية التي تعتمد على جهد الآخرين ومنتجهم. وهي أشياء لا يمكن أن توفرها كرة القدم مهما كان تطورها. السلطات المتعاقبة توفر لجماعة كرة القدم كل ما تحتاج إليه من بهرجة وبذخ واحترام وتبجيل وقداسة، إلى درجة التشبع والفساد، وذلك بالاتكاء على أموال الريع التي تجود بها شركة المحروقات في الجنوب البائس على كافة الأصعدة. ويمكن، للتأكد من ذلك، مراجعة رواتب اللاعبين والمسيرين والمدربين في مختلف الأندية، وما دفعه البلد من أجل المشاركة الرمزية، ومن أجل شراء حق البث التلفزيوني لبعض مباريات كأس العالم المقامة في البرازيل، وهي مبالغ كافية لبناء مئات المدارس، ولتشغيل آلاف البطالين الذين لن تطعمهم المقابلات، ولن تؤويهم، ولن تعلمهم كيف يركبون جملة صحيحة يتباهون بها أمام الأمم التي تركز على ثقافة الرأس، وليس على ثقافة الأقدام التي لا مردودية لها من الناحية النفعية البحتة، ما عدا ما توفره من فرح ظرفي، ومن أموال طائلة لهذه الجماعات المتخصصة في ابتكار الهرج وتدعيمه بكل الإمكانيات المشبوهة. التفكير بالقدم هو شكل الذكاء المهيمن على الساحة الوطنية، مع ما يمكن أن ينجر عنه من عنف واختلاس وانحراف وتسطيح للعقل والسلوك والخطاب الجاد المبني على المعرفة والإدراك. لم تعد كرة القدم مسألة ترفيهية بالنسبة إلينا، بل غدت قضية وطنية شبيهة بتحرير البلد من الغزاة والكفار، أو شبيهة بفتوحات جديدة، إن لم تحل محل الدين والله. في حين تقهقرت المعرفة إلى درجة دنيا، واختزل التفكير في الطبل والمزمار والهتاف والتجاوزات، مع أن المعرفة، باتفاق الجميع، هي إحدى الوسائل القاعدية لأي تطور فعلي. بيد أن كرة القدم أصبحت هي المعرفة ذاتها، أو إحدى ركائز العقل الملهم في مجتمع عاجز عن النطق بشكل سليم لافتقاره إلى الآليات الجوهرية الكفيلة بترقيته. كرة القدم هي الكتاب والبحث والمخبر والشهادة والتقدم والتفكير السليم، لكنه تفكير بالقدم. الجامعات الجزائرية كلها أصبحت تفكر بالأقدام، شأنها شأن الشارع والمؤسسات التربوية التي تتعامل مع الكرة، أكثر من تعاملها مع البرامج واللغات والقرآن والمعلمين التعساء الذين يعيشون بصعوبة، مقارنة باللاعبين والمسيرين والمختلسين والمتورطين في سفسفة المجتمع بجعله يؤمن بالكرة، أكثر من إيمانه بالله وبمستقبله ومستقبل بلده. لقد غدت كرة القدم في هذه المؤسسات هي المصدر والمرجع، أما الكتاب والمفكر والعالم ورجل الدين فقد نزلوا إلى الحضيض. لذا، لا يمكن الحديث في هذا السياق عن الفشل والتسرب المدرسي والقضايا التعليمية والعنف والانحراف وتمزق الأسرة والمجتمع، المهم أن ينتصر الفريق الوطني والفرق الفاشلة التي نناصرها، وذلك هو أهم إنجاز. يجب أن نعرف بأن الطالب الجامعي الجزائري الحالي يعرف كل شيء عن حياة اللاعبين، ويحفظ ذلك عن ظهر قلب بالنظر إلى الأهمية القصوى التي أوليناها له، إلا أنه يجهل، وبشهادة الجميع، كل شيء عن المرجعيات الثقافية والعلمية والجمالية والدينية والأدبية والأكاديمية. لقد غدا أي لاعب أكثر قيمة وحضورا من أية مرجعية راقية ومؤكدة في ظل الاستهتار بالقيم والأفعال التي بمقدورها أن تكون أساسيات، وليست هوامش عندما يحضر الخطاب الكروي الذي يتم تسويقه من قبل بعضهم، ومن قبل أجهزة الإعلام المختلفة التي لها، هي الأخرى، منافع من وراء التركيز على السفاسف والكماليات. إننا نعرف، بحكم التاريخ والواقع والتبعية والعقد وانمحاء الشخصية، أن أغلب الجزائريين يتخذون فرنسا إحالة مؤكدة ومتكأ لا مفر منه، ونموذج تفكير وحياة، من القمة إلى القاعدة، من الراعي إلى الرعية. لكنني لا أتصور فرنسيا واحدا من الذين دخلوا المدرسة لا يعرف كورناي وباستور وجان جاك روسو وفولتير وبالزاك وفيكتور هيجو وألبير كامو وجان بول سارتر. كما لا أتصور إنجليزيا واحدا لم يسمع بمسرحيات شكسبير، ويمكن تطبيق المثل على الروس والصينيين والأقوام الأخرى. من المتعذر أن نتصور روسيا واحدا لا يعرف تولستوي ودوستويفسكي وبوشكين، ولا يوجد في ألمانيا من لا يقرأ لهيجل وكارل ماركس. الرئيس الأمريكي باراك أوباما نفسه حزن لموت الأديب الكولومبي غابريال غارسيا ماركيز لأنه أحد المعجبين بكتاباته. أما الحالة الجزائرية فتدخل في باب الغرابة والعجب، إذ أن هناك في الجامعة من لم يسمع بمحي الدين باشطارزي، ولم يقرأ لرشيد بوجدرة وبن هدوقة وكاتب ياسين والأمير وأبوليوس، لكنه يعرف حياة اللاعبين تفصيلا تفصيلا، من الملابس إلى تسريحة الشعر ولونه، إلى الراتب ومقر الإقامة والتمريرة والهدف وتاريخ إصابته بالحمى. أما الشارع فلا داعي للحديث عنه، قد يهتم هذا الشارع بكل لاعبي فريق البارصا أو ريال مدريد، لكنه لا يهتم بالعقل، لأننا أسأنا إلى العقل وخربناه أحسن تخريب. لنتصور أن الجزائر استطاعت الحصول على كأس العالم لكرة القدم بقدرة قادر. هناك أسئلة كثيرة وجب طرحها عندئذ بموضوعية كبيرة، من دون أي تحيز أو ذاتية، ومن دون أي تجييش لمشاعر الناس المرتبطين باللحظة الحماسية هربا من الإحباط اليومي وبؤس الإدارات والخطاب السطحي والحياة القاسية والتخلف والوسخ المحيط بنا من كل الجهات: من أي شيء سيستفيد البلد؟ ومن هم الناس الذين سيستفيدون من الكأس، سواء بشكل مباشر أو غير مباشر؟ وهل بإمكان الانتصار الافتراضي أن يسهم في تقدم البلد والناس؟ المؤكد، من الناحية المنطقية، أن حياة المواطن ستظل كما هي، وأن المشاكل ستبقى قائمة، وأن المستوى العام للعقل سيظل في مكانه، وقد يزداد تدهورا لأن أولي الأمر لا يعيرونه أهمية، وقد لا يحتاجون إليه، إن لم يعتبروه عدوا وجب محاربته، على عكس كرة القدم التي لا تفكر سوى بالأقدام كمادة حية تحل محل المخ. التخطيط لجعل كرة القدم من الأولويات الملحة ليس أمرا صحيحا بالضرورة، أما إذا حلت محل العقل، وأصبح المواطن يفكر بقدميه، فتلك مسألة قابلة للمراجعة والنقض لأننا نتحمل كلنا آثار الخراب المحتمل. هناك خلل كبير في التصور وفي طريقة مفهمة القضايا الحساسة. إذ أن حلول الأقدام محل المخ، كما هو حاصل، بالعودة إلى الممارسات الراهنة وطريقة التفكير السائدة، ليس سوى تكريس للتخلف وحضارة الدف والمزمار والرقص والهتاف والصخب البائس. كرة القدم هي لعبة جميلة عندما لا تقف وراءها جماعات الضغط والمصالح. لكنها ستظل لعبة، وليس بمقدورها أن تتحول إلى مشاريع مجتمعات وبرامج تخلص الأوطان من تخلفها وتبعيتها، ولأن الجزائر وطن ككل الأوطان الأخرى، فعليها أن تدرك بأن كرة القدم ليست مؤهلة لتثقيف الأمة وتنشئتها تنشئة حسنة، كما لا يمكنها أن تصنع فردا قادرا على المساهمة في ترقية البلد، لأن الكرة تتعامل مع الأقدام والمعدة والأمعاء والمصالح الشخصية، ولم يحدث أن تعاملت خارج الأقدام. إن الأمة التي تفكر بالأقدام هي أمة فاشلة لا تستطيع ضمان قوت يومها، كما لا يمكنها أن تصبح قوة اقتصادية وثقافية لأنها تهتم بالسطحي والهامشي أكثر من اهتمامها بالجوهر، وهي، فوق هذا وذاك، أمة لا مستقبل لها، وقد لا تستحق الحياة إلا كمجموعة من الموالين والعبيد الذين ذكرهم الأديب جورج أورويل في روايته الموسومة 1984. ربما كان يتحدث عن هذه الأمم التي امتلأت رؤوسها بالأقدام.