احتفى العدد الثاني لمجلة “انزياحات” الثقافية التي أصدرتها مؤخرا وزارة الثقافة بالتشكيلي الفرنسي الإستشراقي إيتيان دينيه الذي أحب الجزائر وعاش بها وخصص أغلب أعماله لها. وخصصت المجلة – الناطقة بالعربية- ريبورتاجا حول حياة ومسار دينيه (1861- 1929) وعشقه للجزائر واعتناقه للإسلام بها وأيضا علاقته بمدينة بوسعادة التي استقر بها بعد أن سحرته بجمال واحاتها وصحرائها وبساطة أهلها وأيضا روحانيتها وغرائبيتها وهو القادم من أعماق أوروبا. وقدم أيضا هذا العدد الجديد -الصادر في 110 صفحات- مواضيع متنوعة حول أهمية القيم الروحية والخلقية في حياة الإنسان على غرار نص عبد الرزاق بلعقروز “العقل الروحي” الذي أكد فيه على أهمية المعنى الروحي والديني في حياة الإنسان المعاصر وعلاقته التوافقية مع العقل الحديث, وتأثيره خصوصا في الجانب الأخلاقي. وفي فصل بعنوان “روح المكان” قدم مصعب غربي نصا حول الجامع الأخضر بقسنطينة, التحفة المعمارية التي بناها الباي حسن بن حسين والمنارة الشاهدة على روعة وأبهة وثراء مدينة الجسور المعلقة خلال العهد العثماني، وهو أيضا المسجد الذي درّس فيه العلامة المجدد عبد الحميد بن باديس علوم التفسير والحديث والفقه لسنين طويلة وجعله مركزا لمشروعه الإصلاحي الكبير، ورغم الإهمال الذي عانى ومازال يعاني منه هذا الجامع إلا أنه “من المنتظر أن يسترجع بريقه وتألقه خصوصا مع الأوامر التي أصدرها مؤخرا رئيس الجمهورية عبد المجيد تبون والقاضية بترميم جميع المساجد العتيقة وفي مقدمتها الجامع الأخضر, يقول الكاتب. وتميز العدد أيضا بتخصيص موضوع حول الآذان -في المنطقة المغاربية- كذائقة إسلامية رفيعة حيث يرى صاحب النص عبد الرزاق بعلي أن الأسلوب الإلقائي المغاربي تميز لقرون بالبساطة مع الانعدام الكلي تقريبا للتلحين والتنغيم بالنظر إلى تشدد المذهب المالكي -الذي يتبعه المغاربيون- في هذا الإطار مضيفا أن الحضور العثماني في المنطقة باستثناء المغرب ترك بصمته على الآذان المحلي وخصوصا عبر المقامات التركية التي وصفها بالتقليد العريق والذائقة الرفيعة. وحمل العدد من جهة أخرى مقالات حول حياة الكتاب والمثقفين في شهر رمضان ومواضيع أخرى عن الفن الرابع على غرار البعد الديني في المسرح الجزائري من خلال قراءة للدكتور و الأكاديمي لأحسن تليلاني في مسرحية “المولد” لعبد الرحمان الجيلالي، ومن المواضيع التي تناولها أيضا هذا الإصدار الجديد الرواية والسينما وكذا الأعمال التلفزيونية المعروضة خلال رمضان الفائت بالإضافة إلى عدد من المسائل الثقافية والتقديمات الأدبية, ومواضيع أخرى حول البيئة. وتضمن كذلك هذا العدد نصوصا لكتاب ومثقفين من مختلف البلدان العربية على غرار أحمد مجدي همام من مصر الذي كتب حول المبادرات الثقافية الفردية في بلاده وعباس الحايك من السعودية الذي شارك بموضوع حول المسرح السعودي، وكرم الإصدار أيضا عددا من الفنانين الجزائريين الذين وافتهم المنية مؤخرا وهم كل من مغني الأندلسي قدور درسوني والمغني حميد شريت المعروف باسم “إيدير” والممثل والمسرحي عبد الحميد حباطي, كما سلط الضوء على الخبير البيئي والزراعي الفرنسي ذي الأصول الجزائرية بيار رابحي. …“مساءلة الكولونيالية” كتاب جماعي حول فكر الهيمنة في العقل الغربي كما تميز العدد الثاني لمجلة “انزياحات” بصدور كتاب جماعي مرافق تحت عنوان “مساءلة الكولونيالية” سلط المشاركون فيه الضوء على أسلوب الهيمنة المعرفية الذي ينتهجه العقل الغربي ضد ثقافات المستعمرات السابقة. وشارك في هذا الإصدار عدد من الكتاب بينهم الجامعي وحيد بن بوعزيز الذي قدم قراءة في كتاب اللساني والفيلسوف الباكستاني الماركسي إعجاز أحمد “في النظرية .. طبقات, أمم, آداب الذي يعده عدد من الكتاب العرب امتدادا للمؤلفات الناقدة لكتاب الإستشراق للساني الأمريكي من أصل فلسطيني إدوارد سعيد. وعاد بن بوعزيز إلى عدة مواضيع -تناولها إعجاز في كتابه- بينها تحكم الغرب في مسار آداب ما يسمى ب “العالم الثالث” حيث يرى أن الغرب عمل على تكريس معتمد مؤدلج من النصوص التي تخدم مصالحه أكثر مما تخدم مصالح العالم الثالث, مضيفا في هذا الإطار أن احتفاءه ببعض الكتاب المحليين الآتين من المستعمرات القديمة يمر عبر عملية فلترة دقيقة تخدم أيديولوجيات متمركزة غربيا تساهم في إعادة إنتاج السيطرة الثقافية وفق قانون المحاكاة الذي يؤكد الفوقية الغربية. ويشدد الكاتب على أن تكريس هذا المعتمد يحجب كثيرا الآداب المحلية التي تكتب بلغات غير أوروبية كما هو حاصل مع الأدب الجزائري حيث أن ما يعرفه الغرب عنه هو فقط المكتوب بالفرنسية في حين أن ما هو مكتوب بالعربية مسكوت عنه. ويضم الإصدار من جهة أخرى نصا حول الكاتبة والرحالة الفرنسية إيزابيل إيبرهارت للكاتب عبد الرحمن وغليسي الذي يرى -من خلال قراءة نقدية لقصتها “ياسمينة”- أنه من السذاجة اعتبار أعمالها بريئة ونقية وخارج اللعبة الاستعمارية، مؤكدا أنه لا يمكن إدراجها إلا في سياق الكتابة الإمبراطورية الساعية إلى تفعيل استراتيجيات الإمبريالية العالمية بقصد احتواء واختزال وتشويه تاريخ الشعوب المستعمرة كي تسهل عملية الهيمنة والإخضاع فيما بعد …ويستشهد وغليسي في هذا الإطار بأفكار إدوارد سعيد حول الاستشراق -التي تحاط عادة بهالة من “القداسة” في الأوساط الأكاديمية العربية- مضيفا أن البعد الجمالي يتواشج مع البعد الامبريالي في الخطاب الاستشراقي الذي يوظف ويستفيد من المعرفة للهيمنة على الآخر وبسط سلطته وكلمته عليه، مشددا على أن أعمال إيبرهارت -وكغيرها من الاستشراقيين- تحمل ولاء استعماريا إلى جانب نزعتها الإنسانية. وجاءت المواضيع المتبقية للكتاب حول قضايا الاستعمار وما بعد الاستعمار بما فيها إدانة الإبادات التي تسبب فيها العقل الغربي في العالم, بالإضافة إلى نصوص أخرى حول ماهية الرواية الجزائرية المعاصرة وكذا قراءة في كتاب “مذكرات جزائرية” للصحفي والحقوقي الفرنسي المناهض للاستعمار هنري علاق، وإضافة إلى هذا الكتاب النقدي النخبوي ضمت المجلة أيضا ملحقا أدبيا بعنوان “المناص الأدبي” تضمن العديد من النصوص الأدبية -الشعرية منها والقصصية- لكتاب جزائريين وعرب.