الدول الفاشلة في احتواء فيروس كورونا تتحول تدريجيا إلى قنبلة موقوتة تهدد العالم كله بزيادة معدل انتشار العدوى بالفيروس، والمساعدة على تحوله إلى مرض متوطن. هذا الخطر الشديد الذي يهدد العالم قد يمكن الحد منه، أو محاصرته خلال الفترة من الآن وحتى بداية فصل الخريف. أما إذا استمر الفيروس طليقا يعبث بحياة الناس في الدول المصابة، فإن الحياة لن تعود إلى طبيعتها، لا في الدول التي نجحت في احتواء الفيروس، ولا في غيرها، كما أن احتمال التعرض لموجة ثانية أشد فتكا سيكون مرجحا، مع انتهاء فصل الصيف، خصوصا أن احتمالات إنتاج مصل أو دواء ما تزال أضعف من احتمالات انتشار الفيروس. وتجدر الإشارة هنا إلى أن الدول الفاشلة في احتواء الفيروس لا تقتصر على الدول النامية، ذات الأنظمة الصحية الضعيفة والمتهالكة مثل الهندوالبرازيل، وإنما تضم دولا صناعية متقدمة مثل الولاياتالمتحدة، ولذلك فإن المدير العام لمنظمة الصحة العالمية الدكتور تادرس أدهانوم غيبريسوس، سارع في 20 يونيو إلى إصدار بيان تحذيري إلى العالم كله، ينبه فيه إلى خطورة التهاون في مكافحة فيروس كورونا، ودعا إلى الحذر عند التخلي عن الإجراءات الاحترازية. وقد أظهرت إحصاءات انتشار العدوى منذ بدء تخفيف الإجراءات الاحترازية زيادة انتشار الفيروس في دول كانت قد أبلت بلاء حسنا في مواجهته مثل ألمانيا. وطبقا لدراسة تحليلية قام بها كاتب هذا المقال، فإن انتشار فيروس كورونا اعتمد في النصف الأول من العام الحالي على التركز في دولة واحدة، أو في دول متجاورة في قارة واحدة، ليواصل منها الانتشار في بقية أنحاء العالم. في الربع الأول من عام 2020 تركز فيروس كورونا المستجد في الصين، ومنها انتقل للعالم كله، مقترنا مع ظهور سلالات مختلفة في قارات العالم. وبعد نجاح الصين، أصبحت أوروبا هي المركز الجديد لانتشار الفيروس في العالم، حيث تمكن من إحداث خسائر بشرية واقتصادية باهظة في إيطاليا وإسبانيا وفرنسا وبريطانيا. وبعد أن نجحت أوروبا نسبيا في احتواء خطر الفيروس، أصبحت الولاياتالمتحدة هي المركز العالمي الجديد لانتشار الفيروس، وساعد على ذلك تهاون الإدارة الأمريكية، وتقليلها من خطورة انتشار الوباء، والتضارب بين توصيات العلماء والأطباء، والسياسة الرسمية للبيت الأبيض. وتجب الإشارة إلى أن هناك عوامل أخرى لعبت دورا كبيرا في تحول الولاياتالمتحدة إلى قاعدة عالمية لانتشار فيروس كورونا المستجد، منها نظام الرعاية الصحية الخاص المتحيز وغير العادل، وزيادة حدة التفاوت الاجتماعي، وانخفاض مستوى المعيشة لقطاعات كبيرة من الأمريكيين من الأصول غير الأوروبية. وقد أثبتت دراسات أجراها مكتب الإحصاءات في بريطانيا، أن المواطنين من أصول افريقية وآسيوية هم أكثر عرضة من الأوروبيين البيض للإصابة بالفيروس، حتى باستبعاد المتغيرات الاجتماعية، مثل الدخل والوظيفة وطبيعة مكان السكن وغيرها، وأنهم كذلك اكثر عرضة للموت في حال الإصابة بالمرض. كذلك أثبتت هذه الدراسات ان الفقر، وانخفاض الدخل، والعمل في وظائف تقع في أدنى السلم الوظيفي في قطاعات مثل النقل والصحة، تلعب دورا في زيادة الإصابة بالفيروس، وكذلك في زيادة احتمال الموت، بعد الإصابة بنسبة تصل إلى الضعف. هذه الدراسات وإن كانت تلقى الضوء على تأثير العوامل الجينية والاجتماعية على الإصابة بالفيروس في بريطانيا، فإنها تفسر أيضا الظاهرة الأخطر، التي رصدناها في دراستنا عن انتشار العدوى بفيروس كورونا المستجد في العالم، ألا وهي انتشار العدوى بفيروس كورونا، في مراكز جديدة، في الدول النامية والفقيرة، مثل الهندوالبرازيل، ورغم أن ذلك بدأ خلال الربع الأول من العام الحالي، بمعدلات بطيئة ومنخفضة، فإنه أخذ يتسارع خلال الربع الثاني من العام، على الرغم من الإجراءات الاحترازية التي طبقتها الدول النامية في تلك الفترة. ذلك لأن انهيار نظم الرعاية الصحية، والعجز عن تطبيق إجراءات الفحص المبكر، والعزل، والرعاية الصحية، أو عدم توفير الحوافز الاغقتصادية الكافية لتشجيع المواطنين، خصوصا الفقراء ومحدودي الدخل، على الالتزام بإجراءات العزل والتباعد المكاني، أدت جميعها إلى فشل الأغلبية العظمى من الدول النامية في احتواء خطر الفيروس. وتقف الهند وباكستان وبنغلاديشوإيران والسعودية والبرازيلوالمكسيكوتشيلي وبيرو وجنوب افريقيا على رأس هذه القائمة من الدول التي فشلت حتى الآن في احتواء الخطر. هذه الدول تسير الآن مع الموجة العالمية لتقليل القيود الاحترازية، وإعادة الحياة إلى طبيعتها مع النزر اليسير من القيود، مثل ارتداء الكمامة، وتحديد مسافة لضمان حد أدنى من التقارب المكاني. وتضم قائمة الدول النامية الأشد إصابة بفيروس كورونا في الوقت الحاضر عشرين دولة، هي حسب ترتيب العدد الكلى للمصابين: البرازيل، الهند، بيرو، تشيلي، إيران، تركيا، باكستان، المكسيك، السعودية، بنغلاديش، جنوب افريقيا، قطر، كولومبيا، مصر، إكوادور، إندونيسيا، الإمارات، الأرجنتين ، الكويت والعراق. ورغم التحفظات الشديدة على كفاءة الإحصاءات، فإن العدد الكلى المعلن للمصابين في الدول العشرين يوم 21 يونيو، بلغ 3.6 مليون مصاب بنسبة 40% تقريبا من العدد الكلى للمصابين في العالم. لكن النسبة ترتفع إلى 53.4%، إذا استثنينا الولاياتالمتحدة التي تستحوذ وحدها على نسبة 26.1% من المصابين في العالم. وتأسيسا على ذلك فإن مؤشرات انتشار فيروس كورونا في العالم، خلال النصف الثاني من العام الحالي، من المرجح أن تتميز بالملامح التالية: أولا: ستستمر الولاياتالمتحدة واحدا من أكبر قواعد تركز فيروس كورونا في العالم، لكن الفيروس سيتركز في أكثر من مركز، وليس في قاعدة واحدة، بل إنه من المرجح أن يتوطن لفترة في مراكز بالدول النامية لفترة من الوقت. وطبقا للإحصاءات المتاحة حاليا، فإن البرازيل التي تجاوز عدد المصابين فيها حاجز المليون، والهند التي يقترب فيها عدد المصابين من نصف مليون شخص، وبيرو وتشيلي اللتين بلغ عدد المصابين فيهما حوالي نصف مليون شخص، وجنوب افريقيا ومصر اللتين بلغ عدد المصابين فيهما أكثر من 150 ألف شخص، من المرجح أن تصبح مع الولاياتالمتحدة، هي المراكز الجديدة لتوطن فيروس كورونا في العالم، بافتراض عدم اتخاذ إجراءات جادة لتغيير الوضع الحالي، قبل دخول فصلي الخريف والشتاء، حيث يترافق فيروس كورونا مع فيروسات الانفلونزا الموسمية وأمراض الجهاز التنفسي. ثانيا: يظهر التحليل الذي قمنا به لإحصاءات انتشار فيروس كورونا في الأسابيع الأخيرة، أن الدول النامية، بسبب فشل أنظمتها الصحية، والفقر، وعدم الالتزام بالإجراءات الاحترازية، والعجز عن توفير الحوافز المالية الكافية للفقراء وأصحاب الدخل المحدود، أصبحت هي المصدر الأساسي للزيادة في عدد المصابين والوفيات على مستوى العالم. إن الدول العشرين الأشد إصابة بالفيروس بين الدول النامية التي أشرنا إليها، تسهم وحدها حاليا بنسبة 76.5% من الزيادة في عدد الوفيات الجديدة يوميا، وترتفع النسبة إلى 83% إذا استثنينا الولاياتالمتحدة. كذلك فإنها تستحوذ وحدها على نسبة 74.2% من الإصابات الجديدة بالفيروس في العالم، بدون أخذ الولاياتالمتحدة في الاعتبار. ثالثا: نظرا لأن هذه الدول تفتقر بشكل عام إلى وجود نظام قوي للرعاية الصحية، ونظرا لوجود عوامل اجتماعية واقتصادية مساعدة على توطن الفيروس، فإن فتح مجالات النشاط، وحرية التنقل الداخلي، خصوصا خلال موسم الإجازات الصيفية، من المرجح أن يسفر عن قفزات في معدلات الإصابة وانتشار العدوى بالفيروس، وبقاء معدل إعادة إنتاجه محليا، المعبر عنه بالرمز R عند قيمة أكبر من واحد صحيح. وهو ما يعني أيضا بقاء الفيروس حرا في الانتشار خارج حدود السيطرة، إلا من تأثير انتشار المناعة الطبيعية (مناعة القطيع) أو احتمالات ضعف الفيروس نفسه، أو التغيرات في دورة حياته، وهي أمور لم يصل فيها علم الفيروسات والأوبئة إلى حقائق يقينية حتى الآن. ولا تقتصر هذه الخطورة على الدول النامية فقط، وإنما هي تشمل الدول المتقدمة أيضا. ونسوق هنا مثالين، واحدا من إيران، والآخر من الولاياتالمتحدة. في إيران ساعد فرض الإجراءات الاحترازية في شهر مارس الماضي على تخفيض ذروة الإصابة من 3186 مصابا يوم 30 مارس إلى 802 مصابا جديدا فقط يوم 2 مايو، لكن تخفيف إجراءات الحظر، والتهاون في مكافحة الفيروس، وعجز نظام الرعاية الصحية، تسبب في زيادة العدد اليومي للمصابين إلى ذروة جديدة بلغت 3574 مصابا يوم 4 يونيو. وما يزال العدد اليومي للمصابين الجدد حتى الآن يعادل نحو ثلاثة أمثال العدد الذي تحقق مع العمل بالإجراءات الاحترازية. أما في الولاياتالمتحدة فإن 12 ولاية أمريكية سجلت في 20 يونيو ذروة جديدة في عدد الإصابات اليومية، أو عادت إلى الذروة التي كانت عندها قبل تطبيق الإجراءات الاحترازية. كذلك فإن العدد الكلي للمصابين زاد خلال الأسبوعين الأخيرين حتى 20 يونيو بنسبة 15%. القدس العربي