لم يكن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان قد ولد بعد حين انضمت تركيا واليونان إلى حلف شمال الأطلسي، في العام 1952، بعد أربعة حروب بينهما: التركية/ اليونانية عام 1897، والبلقان الأولى 1912، والعالمية الأولى 1914، واليونانية/ التركية 1919. وحين عاد البلدان إلى الخصام، مع حالة الطوارئ في جزيرة قبرص وأعمال العنف بين القبارصة اليونان والقبارصة الأتراك، كان اردوغان يبلغ من العمر سنة واحدة. وهكذا، إذا صحّ أنّ طموحات أردوغان الإمبراطورية، والعثمانية على نحو أوضح حتى إذا كانت لا تتجاوز أضغاث الأحلام، لا حدود لها في عقليته وعقيدته وسياساته المحلية والإقليمية؛ فإنّ الصحيح الموازي هو أنه ليس المسؤول الأوّل عما صنع الحدّاد بين تركيا واليونان، وأنّ مسؤوليته الراهنة ضاربة الجذور في التاريخ العنفي بين البلدين، وليس ملفّ التنقيب التركي عن الغاز في شرق المتوسط سوى مظهر واحد راهن، في سجلّ حافل ثقيل وعتيق. وأن يتفق امرؤ أو يختلف مع سياسات أردوغان العامة في المنطقة (وهي تمتدّ من جبال قنديل العراقية إلى صحراء ليبيا، مروراً بالشمال الشرقي السوري، ناهيك عن مسائل النزوح واللجوء والإسلام السياسي والاحتقانات داخل الحلف الأطلسي وعضوية الاتحاد الأوروبي...)؛ أمر لا يبدّل في شيء، كما يقتضي العقل وليس كما تستطيب الحماقة، حقيقة أنّ أردوغان يعمل لمصلحة بلده تركيا أوّلاً، ثمّ حزبه وجماعته وعقيدته تالياً. ثمة، بعد الاتفاق على هذه الخلاصة الموضوعية، أو هكذا يتوجب أن تبدو، عناصر قابلة للنقاش وللأخذ والردّ حول مشروعية أعمال أردوغان من زوايا تخصّ الالتزام بالقانون الدولي، على سبيل المثال؛ أو تحكيم بُعد أخلاقي كافٍ، في تقييم سيرورات تنفيذ تلك الأعمال؛ أو وضعها على محكّ مؤشرات تركية محلية صرفة، ذات أهمية فائقة، مثل طبائع الاستبداد التي تنطوي عليها «ديمقراطية» أردوغان والنظام الرئاسي الذي شرّعه استناداً إلى استفتاء شعبي. ولعلّ فرادة شرق المتوسط، وربما مصدر أزماته المتعاقبة، أنه حوض شرقي وغربي في آن معاً، بدلالة عناصر التشابه والاختلاف بين شعوبه وبلدانه: ليبيا، مصر، لبنان، سوريا، دولة الاحتلال الإسرائيلي، تركيا، قبرص، اليونان؛ فضلاً عن عضوية، «شرفية» من نوع ما، تُمنح عادة للأردن والسلطة الوطنية الفلسطينية وجمهورية شمال قبرص التركية. على الصعيد الديمغرافي ثمة 100 مليون مصري و80 مليون تركي؛ وديانة الغالبية في اليونان وقبرص هي الأرثوذكسية الشرقية ويحدث أيضاً أنهما عضوان في الاتحاد الأوروبي، مقابل غالبية مسلمة في البلدان الأخرى، ويهودية في دولة الاحتلال. وخلال الربع الأوّل من القرن السادس عشر بات شرق المتوسط «بحيرة عثمانية»، قبل أن ينقلب في القرنين التاسع عشر والعشرين إلى ساحة صراع بين المصالح الاستعمارية الفرنسية والبريطانية؛ فتتردد على شطآنه أصداء الحروب الصليبية وغزوات الإمبراطوريات المختلفة، وما يصفه المؤرخ البريطاني الكلاسيكي إدوارد غيبون هكذا: «الساحل الذي ضجّ طويلاً بالسجالات العالمية بين المسيحية والإسلام خصوصاً، والتي تُستعاد اليوم على نحو أكثر اصطخاباً». ومفردة «اليوم» في توصيف غيبون كانت تخص القرن الثامن عشر، لكنها تصلح أيضاً لتلمّس حال شرق المتوسط في هذه الأيام تحديداً، على خلفية حكاية التنقيب عن الغاز واتساع النفوذ التركي في ليبيا، مقابل اصطفافات مضادة في مصر واليونان وقبرص، ثمّ فرنسا إيمانويل ماكرون تحديداً رغم أنها لا تُحتسب ضمن مساحة شرق المتوسط. أولى عناصر المشهد، صانع التأزّم الحالي، يمكن أن تبدأ من عام 2010 حين كشفت «هيئة المسح الجيولوجي» الأمريكية النقاب عن خزان متوسطي من الغاز يبلغ 3455 مليار متر مكعب من الغاز، و1.7 مليار برميل من النفط؛ فكان طبيعياً أن تتعجل دول شرق المتوسط ترسيم حدودها البحرية، عبر اتفاقيات ثنائية بدأت بين مصر وقبرص منذ العام 2013، أعقبتها سلسلة اتفاقيات أخرى لعل التعاون اليوناني الإسرائيلي أخطرها. إلى هنا تبدو الحال طبيعية في سياق دفاع الدول عن مصالحها، لولا أنّ القاهرة احتضنت اجتماعاً في صيف 2019 ضمّ مصر واليونان ودولة الاحتلال وإيطاليا وقبرص والأردن والسلطة الوطنية الفلسطينية، دعا إلى تدشين «منتدى الشرق الأوسط» حول الغاز، واستُبعدت منه تركيا وجمهورية شمال قبرص وليبيا. ولقد اتضح أنّ هذا التوجّه سياسي في الجوهر، وليس اقتصادياً فقط، لأنه إنما يردّ على التدخل التركي في ليبيا بطرائق غير عسكرية، أو هو يرحّل المواجهة العسكرية على الأرض الليبية إلى نزاع حول الغاز والنفط وترسيم الحدود. وكان طبيعياً أن يأتي الردّ التركي/ الليبي على هيئة تأسيس منطقة اقتصادية حصرية، تبدأ من سواحل تركياالجنوبية وحتى سواحل الشمال الشرقي في ليبيا. هنا عاد شرق المتوسط إلى سابق عهده من حيث التجاذبات الإقليمية والدولية، فاستنفرت اليونان بعص القطع البحرية في المنطقة رداً على شروع سلاح البحرية التركية في مواكبة سفينة التنقيب قبالة سواحل جمهورية قبرص الشمالية، ووقع الاتحاد الأوروبي في حرج توسّط لم يعطِ ثماره بين أثيناوأنقرة إذْ أفسده اتفاق مفاجئ بين مصر واليونان أغضب تركيا، ودخل ماكرون على الخطّ فأعلن زيادة الوجود العسكري الفرنسي في شرق المتوسط... الذرائع التركية تنطلق، أوّلاً، من أنّ أنقرة ليست في عداد الموقعين على ميثاق الأممالمتحدة حول قانون البحار لعام 1982، وبالتالي هي ليست ملزَمة بتطبيق أي من بنوده إذا كانت لا تتلاءم مع مصالحها الحيوية؛ وفي طليعتها، بالطبع، احتمال الكميات الهائلة من الغاز والنفط. كذلك تساجل أنقرة، ثانياً، بأنّ واقع الجزر اليونانية الصغيرة معقد للغاية، ومتناثر ومبعثر على نحو يبدو فيه تطبيق مبدأ المياه الإقليمية غير منطقي، كما في المثال الذي يحلو لوزير الخارجية التركي مولود جاويش أوغلو أن يسوقه: جزيرة كاستيلوريزو اليونانية تبعد عن أثينا مسافة 500 كم، ولكنها تقع قبالة الأراضي التركية مباشرة؛ فكيف يمكن أن تكون لها مساحة سيادة يونانية تقارب 370 كم في كلّ اتجاه؟ وكيف يمكن لأية دولة ذات سيادة أن تقبل بهذا؟ ورغم أنّ الميثاق الأممي يُفرد معالجة خاصة لتعقيدات الجزر الصغيرة، فإنّ الشدّ والجذب من جانب أثيناوأنقرة يُبطل روحية أيّ علاج قانوني فوري، ويحيل النزاع بالضرورة إلى تحكيم دولي. وهكذا فإنّ مدافع الإمبراطوريات التي سكتت هنا، بعد تواريخ طويلة ودامية من الحروب والصراعات، أفسحت عرض مياه شرق المتوسط لحروب سفن التنقيب عن الغاز والنفط؛ على خلفية بالغة التشابك في المستويات السياسية والاقتصادية والأمنية والثقافية. هنا موطن انتفاضات شعبية انطلقت ضد أنظمة استبداد وفساد تابعة، وهنا تمّت سيرورات تعطيلها أو محاربتها أو حتى وأدها، بفعل أطراف محلية كانت على وشك السقوط لولا مساندات خارجية إقليمية ودولية معلنة أو خفية؛ ولولا أنساق من التواطؤ المباشر أو غير المباشر، صنعتها قوى عظمى وسياسات كونية عابرة للبحار والمحيطات. ولن يكون عسيراً على أيّ مدقق في مشاهد النزاع شرق المتوسط أن ينصت إلى أصداء مدافع المعارك القديمة، وأن يكتشف بيسر سوء تمويه الأبعاد الثقافية والحضارية خلف حروب المصالح بين المتصارعين، المحليين والإقليميين والدوليين. والمتوسط، في نهاية المطاف، بات منطقة قائمة في ذاتها؛ على نحو قد يحمل من الدلالات السياسية والاقتصادية والعسكرية والجغرافية والثقافية أكثر مما حملته أو تحمله مسميات مثل «الشرق الأوسط» أو «الشرق الأدنى» أو «جنوب شرق آسيا»... وليس عجيباً، والحال هذه، أنّ «منظمة الصحة العالمية» تُدرج في شرق المتوسط دولاً مثل إيران والعربية السعودية والعراق و... أفغانستان! القدس العربي