هناك دول قليلة اليوم لديها القدرة على صيانة الترابط الاجتماعي، وتستجيب للمنافسة العالمية. وغالبية الدول، لا تستطيع أن تطمح إلى التوفيق بين أساسيات الأسواق العالمية، ومتطلبات الاستقرار الاجتماعي. وهي إما دول ضعيفة، أو مهزومة، وإما فاسدة أو تحكمها مجموعات عديمة الكفاءة. ولا يمكن أن تتحقق تنمية اقتصادية مستدامة إلا في وجود دولة حديثة فعالة، تحترم الفرد المواطن، وتحد من قيام مصالح غير خاضعة للمساءلة، ولا تهدد مستقبل الأجيال القادمة. وعلى نطاق الجزء الأكبر من العالم العربي، لا يمكن القول بأن الدولة الحديثة أصبحت مؤسسة مسلما بها فعلا، فهي إما أنها لم تترسخ بعد، أو أنها انهارت في طور تشكلها الأول، بفعل عوامل داخلية وأخرى خارجية. وبالمحصلة، تفتقد جل البلدان العربية إلى الشروط الأشد جوهرية للسلم والتقدم الاجتماعي، وإلى المعايير الإنسانية للعمل، ولحفظ البيئة والإنسان. ومعاناة الشعوب لم تعد مبررة بأي شكل من الأشكال، فهي ليست قدرا محتوما، والجماهير الواسعة في الوطن العربي واعية بأن هذا الحيف الاجتماعي مفروض قسرا، نتيجة جهل النخب الحاكمة، وتعاملها الإقطاعي مع الدولة. وهو سلوك سياسي مرفوض وجب تحطيم أصنامه. فوعي النقص بات واضحا، ومطالب استعادة الشرعية التي تكفل حق المواطنة، وتفرض أسس العدالة الاجتماعية، وتكرس آليات الحكم النزيه، إدراك لم يعد مؤجلا، وهو يبعث في كل مرة بإشارات الرفض تجاه سياسات الاجحاف، التي يكرسها من يسيئون استخدام السلطة ولا يملكون إرادة التغيير. الدولة يمكن أن تكون مجالا للصراعات السياسية والأيديولوجية، وللمنافسة المدنية، ومن مهماتها خلق تجانس يمنع النزاع الطائفي والمذهبي والاحتراب الديني والإثني. وهي تشكيل اجتماعي يستوعب الفرد، ويقلص نزوعه لانتماءاته المولودة، ولكن انحراف أنظمة الحكم في الدولة العربية، وتحولها إلى جهاز خاضع لإرادة المستبد، جعل المؤسسات الاقتصادية والبيروقراطية الإدارية، قوة سياسية غير قانونية، تخدم الدولة المُشخصنة لا دولة المواطنة. الأمر الذي أضر بالتماسك الاجتماعي، وأنتج دولا ضعيفة غير متجانسة، استسلمت لإرادة الهيمنة، واشتغلت بمعيتها، وفق منهج جرى فيه قصف وعي الفرد، وتتالت محاولات تدميره تماما، من خلال كميات هائلة من المعلومات، التي تهدف أساسا إلى توليد نوع من القبول، وتغييب المساءلة، أو التفاعل مع الواقع والاحتياجات العامة، وخلق سلبية جماعية تعمقها استراتيجية الإلهاء. وحالة الانسداد السياسي والاجتماعي التي تعانيها الدول العربية منذ استقلالها، تؤكد منطق التملك ومغالبة الجماهير، ورفض مطالب التغيير وشروط المواطنة الاجتماعية العادلة على مدى عقود طويلة. وبالتوازي مع مسارات الاستبداد والفساد، لم تستطع النخب الفكرية إعادة الروح إلى مجتمعاتها، أو التصدي لمشروع الهيمنة السياسية والاقتصادية والثقافية. وباستثناء قلة من الأحرار والصادقين، انخرطت معظم هذه النخب في تبرير الفعل السياسي، وتكريس ثقافة اللاوعي وتدمير الهوية والانتماء، وإماتة الشعور بالقضية. ومازالوا يشكلون الهموم الكبرى، لا بالنسبة إلى عملية بناء المجتمع الجديد فحسب، بل بالنسبة إلى استقرار الدولة والتجانس الوطني. وفي سوق الانتهازية وبيع الذمم، يطالبون بأن يضمن لهم المجتمع التمتع بالامتيازات طوال حياتهم، وينتظرون أن يكونوا في وضع مادي أفضل بكثير مما هو سائد بالنسبة إلى بقية السكان، تماما كالمشاركين في حروب التحرير وقدماء المناضلين، الذين انتظروا المكافأة عن تحملهم المصائب والرزايا، قبل أن تُنجز المهمات الحقيقية لبناء المجتمع المنشود ما بعد الاستعمار، وهو المعيار الذي يقرر هل الهدف الذي خاضوا من أجله غمار الحرب قد حُقق فعلا أم لا. وتُجسد النتيجة المتوقعة لهذه المطالب والأماني، التي تقيم في بعدها الوطني، بتصاعد عمليات الارتشاء وتردي الاقتصاد، وتفاقم الفساد الإداري. والدليل أن أكثر الدول التي خاضت الحرب ضد المستعمر، ونالت استقلالها في النصف الثاني من القرن العشرين. لم تحقق في نهاية هذا القرن، ولو بنحو تقريبي في بداية الألفية الثالثة، الأهداف التي كانت تزمع تحقيقها في السنوات الأولى من الاستقلال. وعلى العكس، تدهورت البنية التحتية، ولم يحدث الازدهار الاقتصادي، ولم يسُد الاستقرار السياسي خارج أطر الاستبداد وحكم الحزب الواحد. وأخفقت تجارب التنمية المستقلة، ومحاولات بعض الدول التصدي إلى اقتصاد الأوامر الفوقية. وعجزت الاقتصادات النامية أو المتحولة أن تنأى بنفسها عن تأثيرات الاقتصاد المُعولم، وإملاءات صندوق النقد الدولي إلى جانب مجموعة البنك الدولي، ومنظمة التجارة العالمية. من حاصل أداء استراتيجي هزيل لا يتجاوب بشكل فاعل مع القضايا الدولية، ولا يبحث عن الندية والتعامل المجزي، في عالم مازال يسوده منطق القوة. ويعكس ذلك التوظيف غير الموضوعي للقانون الدولي، والرغبة في الإبقاء على التفوق الغربي، والتحكم في الآخر، وتركه في حالة التبعية. وهو سياق يسهل من خلاله تفسير النظر إلى الدول الساعية لامتلاك القوة، بأنها متمردة ومارقة. ومن الضروري فرض العقوبات على كياناتها الاقتصادية والمالية، وإن بقرارات أحادية تتجاوز الاجماع الدولي ولا تكترث للهيئات الأممية. وهي غطرسة إمبريالية مكشوفة، تُترجم عسكريا وسياسيا ودبلوماسيا. وتضع الأقطار العربية والإسلامية، المتضررة اقتصاديا والتابعة ماليا، أمام ضرورة التفكير في دلالات مثل تلك السياسات، وتقييمها إجرائيا. وأن تفتح من جديد صفحات من التفكير العقلاني، بشرط إزاحة النظم الفاشلة والمهترئة، التي كرست ثقافة الهزيمة والخذلان. وعجزت عن استيعاب الشروط الموضوعية لمعنى الشرعية، وكيفية اكتسابها بحجم ما تقدمه السلطة الحاكمة للناس، ضمن ثوابت الحفاظ على السيادة والدولة. والتجاوب مع تحديات العصر، وطبيعة العلاقات الدولية التي تحكمها المصالح بالدرجة الأولى. وهي مصالح متغيرة بتغير المحاور، والتحالفات الاستراتيجية. والشعوب لا تنتظر من الحكومات نوعا من المقايضة، يتنازل فيها الناس عن قدراتهم على تحقيق ذواتهم مقابل توفير الأمن والحماية من العنف الاجرامي والاضطراب المدني، وإنما تطلب ما هو أهم بكثير، وقد يكون الحل لما سبق، تطلب الأمن من العوز والفقر والبطالة والتهميش، وكل ما تغذيه سياسات المركزية. وما لم يتوفر ذلك، فلن تنال الحكومات أي شرعية في نظر مواطنيها. القدس العربي