قبل زهاء ثلاث سنوات، أعلن الرئيس إيمانويل ماكرون عن مسؤولية الدولة الفرنسية، في مقتل موريس أودان (1932-1957)، إبان حرب الجزائر. فقد كان ملف هذا المناضل الشيوعي وأستاذ الرياضيات من المسائل الشائكة في حرب الذاكرة بين البلدين، ما كان معروفاً عنه أنه اختطف منتصف عام 1957، ثم اختفت كل أخباره، ولم تعثر عائلته على جثته. فظلت أرملته تقود معاركها المتوالية في كشف الحقيقة، بصحبة أبنائها، سُميت إحدى أشهر ساحات الجزائر العاصمة باسمه، وظلت نهايته غامضة. فقد كان طريق الحقيقة، وإقرار الفرنسيين بالتعذيب والاختطاف القسري والقتل في المعتقلات طويلاً، ونموذج موريس أودان يبقى علامة فارقة في تجريم الاستعمار، فقد بدأت عملية كشف خباياها في 1983 حين تلقت عائلته تعويضاً مالياً، في إقرار ضمني من الحكومة الفرنسية بمسؤوليتها، دون الإفصاح عنها كاملة، انطلقت متابعات قضائية، أفضت إلى محاولة نيكولا ساركوزي استرضاء عائلة أودان، بمنح ميدالية جوقة الشرف لابنته، التي رفضتها ملزمة المسؤولين توضيح ما وقع لوالدها، وفي 2012 حاول فرنسوا أولاند تقريب وجهات النظر بين الفرنسيين والجزائريين، بدعوته إلى الإفصاح عما وقع للمناضل القومي الشيوعي، مطالباً بإعادة النظر في كل الأرشيف المتعلق بالقضية، ولم نصل إلى إجابة نهائية إلا في عام 2018، حين زار ماكرون أرملة موريس في بيتها، معترفاً بمسؤولية الدولة الفرنسية في تعجيل إنهاء حياته. قضية موريس أودان التي استمرت ما يفوق ستين سنة، منذ مقتله إلى الاعتراف الرسمي الفرنسي، ليست سوى نموذج عما تعرض له مناضلون جزائريون آخرون، وهي حكاية بكل دراميتها تستحق أن تكتب، ذلك ما فعلته ناهد بوخالفة، في روايتها الأخيرة «اعترافات مجرم حب» (كالما 2021)، إذ جعلت من تلك القضية عصباً في حكايتها، انطلقت من اعتراف ماكرون، وعادت إلى أصل اختفاء أودان عام 1957، ورطت موريس في قصتها، كبطل غائب، مقحمة أيضاً أرملته جوزيت في بحثها المستميت عن الحقيقة. ..غلبة تيار الوعي جاءت رواية «اعترافات مجرم حب» على لسان مجند فرنسي، في حرب الجزائر، يدعى فيليب، يستأثر بمفرده في تحريك فصول الرواية، من أولها إلى آخرها، في تيار وعي مستمر، في استعادة وقائع ولحظات عاشها، في مونولوج داخلي وفي تداعي ذكرياته، جعلت منه الكاتبة عينها في رصد بعض المراحل من تلك الحرب، تُعلم القارئ أن البطل وُلد من أب مجهول، يعلم أصله لا وجهه، يعلم أنه كان عسكرياً وأغوى أمه في لحظة ضعف، أمه التي كانت متدينة إلى درجة أنها كانت تزهد في متاع الحياة، هكذا كانت طفولة فيليب بين مرافقة والدته إلى الكنيسة، وتعرفه على قس علم في ما بعد أنه متحرش، وبحثه عن رابط يعيده إلى والده دون جدوى. يفشل في سنوات المراهقة في تجاربه العاشقة، يستشعر وحدة، وأن شؤما يحوم على رأسه، تمرض أمه وتصاب بالتراخوما ثم تفقد بصرها، فتزداد عزلة البطل، الذي بدأ يحس أنه أضاع أمه كذلك. في باريس بداية الخمسينيات لا يجد فيليب من عزاء في وحدته سوى المطالعة، فترافقه رواية «الباب الضيق» لأندريه جيد، في الفصول الأولى من الرواية، يقرأها ويعيد قراءتها، ويصحبها معه إلى أقصى شرق الجزائر، حيث جند في ثكنة أوكلت لها مهمة مراقبة الثوريين في تحركاتهم على الحدود مع تونس، وفي ضبط محاولات تهريب السلاح أو الأفراد، يجد نفسه في حرب لا يعلم شيئاً من تاريخها ولا يعلم لماذا أرسل إليها. قضية موريس أودان التي استمرت ما يفوق ستين سنة، منذ مقتله إلى الاعتراف الرسمي الفرنسي، ليست سوى نموذج عما تعرض له مناضلون جزائريون آخرون، وهي حكاية بكل دراميتها تستحق أن تكتب، ذلك ما فعلته ناهد بوخالفة، في روايتها الأخيرة «اعترافات مجرم حب». ..في التساؤل عن جدوى الحرب يقوم بما يُطلب منه، دون أن تفارق باله أسئلة عن جدوى ما يفعل، يتحول إلى جندي في الظاهر وناقماً على بلده الذي ورطه في ما لا يعنيه في الخفاء. يظهر هنا ربما واحد من مزالق الرواية، حيث أن ناهد بوخالفة زجت بشخصية فيليب في نفق الإحساس بالذنب، بشكل متكرر، على الرغم من واقعية ما تظهر عليه شخصيات ثانوية من مجندين مثله، تُبرزهم في كامل شراستهم وحقدهم وجبروتهم وكرههم للأهالي الجزائريين، قد تكون محقة في أن بعض المجندين الفرنسيين كان ضميرهم يغالبهم، لكن الجو العام الذي ساد الجزائر في الخمسينيات لم يكن محفزاً كثيراً لذلك، تحت ضغط الإدارة الفرنسية والصورة السلبية التي روجتها عن الجزائريين في عقول جنودها، لكن نقطة التحول في حياة فيليب، التي راهنت عليها الكاتبة هي اكتشافه للحب في المنطقة التي كان معنياً بمراقبتها، عندما صادف فتاة ترعى غنماً، تسمى فاطيما، لم يكن يعرف شيئاً عنها سوى وجهها، يترصد مواعيد مرورها، كي يمعن النظر إليها، يسعى إلى استمالتها فيفشل، تنتبه إلى إصراره على ملاحقتها فتتوقف عن الخروج، تتبادر إلى ذهنه طريقة في ملاقاتها، بأن يدعي أن واحداً من المناضلين قد تسلل إلى الأكواخ التي تسكنها، فيعتقل الجنود الفرنسيين كل ساكنتها، وبدل أن يلتقي الفتاة التي أحبها، يكتشف أن كل من تم اعتقالهم قد سيقوا إلى السجن، ثم تتعرض النسوة منهن إلى الاغتصاب، بمن فيهن فاطيما، وينتهي أمرهن موتاً في حال المقاومة، ذلك ما وقع لها، فتحولت حيلته في مقابلتها إلى ندم أنه تسبب في نهايتها. كانت تلك نقطة التحول الأكبر في حياته، التي سوف تقوده إلى انحياز إلى الأهالي، رغم ما عاناه من سخرية رفاقه بسبب هشاشته في التعامل مع الجزائريين، وتضامنه مع حالهم. ذلك التضامن الذي لم يخف رغم وقوعه أسيراً بين جماعة من المحاربين المحليين، فرّ من قبضتهم قبل أن يشرف على الهلاك، وقد داست رجله على لغم، كان واحداً من زارعيه في حقل ألغام قصد الفصل بين الحدود الجزائريةالتونسية، فانتهى أمره ببتر رجله، حدث ذلك عام 1957، فبعد نقله إلى مستشفى في الجزائر العاصمة سوف يُصادف جوزيت أرملة موريس أودان وهي تبحث عن موريس، بين المرضى والمُصابين، بعدما أبلغتها الشرطة بأنه فرّ خلال نقله من مركز اعتقال إلى آخر، وتستمر حكاية فيليب صعوداً في الزمن إلى عام 2018 تاريخ الإقرار بمسؤولية الدولة الفرنسية بما حل بالمناضل الشيوعي. ما يُحسب للكاتبة في هذه الرواية لغتها الشعرية وكثافة الصور السردية، في تصوير حالات فيليب وندمه وحزنه، في توصيف مشاهد تعذيب جزائريين، الآن وقد وصلت قضية موريس أودان إلى نهايتها قبل ثلاث سنوات، وجاءت رواية «اعترافات مجرم حب» يبدو أن الحقائق قد صارت واضحة، والطريق سالكة من أجل أدب جزائري يستعيد سنوات حرب التحرير بيقين أشمل، من منظور الخصم وليس دائماً من منظور الضحية، والتعاطف المفرط معها إلى حد الملل.