أثناء وبعد نهاية حروب دولية، وأحداث عالمية كبرى تُطرح التساؤلات ويتكرر الحديث دائماً حول مدى تأثير ذلك على العلاقات الدولية وإمكان تلك الأحداث لإرساء أو تغيير موازين القوى العالمية بصياغة نظام دولي جديد. بنهاية حرب الثلاثين عاماً التي مزّقت أوروبا وأدت إلى صلح ويستفاليا، وانتصار القوى الأوروبية على الزخم الثوري الفرنسي الذي جسدته حروب نابليون بعقد مؤتمر فيينا في عام 1815، وبنهاية الحربين العالميتين الأولى والثانية، وبعد سقوط جدار برلين وتفكك الاتحاد السوفياتي، طُرحت على أثر تلك المحطات التاريخية الرئيسية تساؤلات عن تداعياتها على النظام الدولي القائم في تلك الفترات وهل سيؤدي ذلك في كل مرة إلى ميلاد نظام دولي جديد. والآن بعد اندلاع الحرب الروسية – الأوكرانية طُرحت التساؤلات ذاتها كالمعتاد حول ما إذا كانت ستفرز وتغير من النظام الدولي النافذ أم أن ذلك لا وجه لمقارنته مع تداعيات اتفاقات ويستفاليا، ولا مؤتمر فيينا، ولا بالطبع مع أبعاد ونتائج الحربين العالميتين. صحيح لا وجه للمقارنة بينهما، ولكن مع ذلك يمكن القول إن تلك المحطات التاريخية المشار إليها ستوضح بشكل أو بآخر صعوبة استبعاد عوامل سابقة أدت وتسببت في إضعاف إن لم يكن تقويض النظام العالمي السابق، مما أدى إلى بداية تشكُّل نظام آخر محله. بعد تناول هذا الشق من الموضوع سنرى موقع العالم العربي ودول العالم الثالث في هذا التشكل المحتمل حدوثه. أدى اجتياح روسيالأوكرانيا في الرابع والعشرين من فبراير الماضي، إلى كشف مدى ركاكة وعجز النظام الغربي الليبرالي سواء على المستوى الجيوسياسي أو على مستوى الجيواقتصادي. فمنذ سقوط جدار برلين وتفكك الاتحاد السوفياتي في 1989 كان هناك وهم بأن هزيمة الاتحاد السوفياتي ستؤدي إلى انتعاش اقتصادات العالم وتنشيط التبادل التجاري بين الدول وتدفق حجم الاستثمارات العالمية في الدول الصناعية بفضل ما رآه البعض بزوال شبح الحرب وغياب التنافس العسكري بين القوتين العالميتين في تلك الفترة بين الولاياتالمتحدة والاتحاد السوفياتي، ما سيدعو إلى التركيز على النمو والرخاء الاقتصادي. سعت الدول الغربية بعد انهيار الاتحاد السوفياتي إلى استغلال هذه اللحظة التاريخية في الترويج للأنظمة الليبرالية ومحاولة توسيع نطاق انتشارها حول العالم. وببروز فجر العولمة بشقها الاقتصادي القائم على الانتقال الحر لرؤوس الأموال، والسلع والخدمات عبر الحدود بين الدول وازدياد الاعتماد المتبادل بين اقتصادات العالم، وفي إطار هذا الاعتماد المتبادل يفترض أن يشكل عامل استقرار في العلاقات الدولية لأن النمو الاقتصادي وأمن الدول يساعدان على توثيق العلاقات بينهما. واعتقد البعض أنه بالاعتماد المتبادل هذا سيؤدي ذلك إلى تخفيف حدة التوتر والتحكم في مظاهر العنف، وتطويق اندلاع الصراعات المسلحة بين الدول، كما أن اجتياح دولة لدولة أخرى لم يعد بالإمكان تصور حدوثه. من هنا جاء الاجتياح الروسي صدمة لما كان يتصوره البعض في العلاقات الدولية المعاصرة، لكونها أول حرب برية كبرى في أوروبا يستخدم فيها هذا العدد من الجنود والصواريخ والآليات العسكرية منذ الحرب العالمية الثانية، ولكونها أيضاً أكبر هزة للنظام الليبرالي السائد منذ تفكك الاتحاد السوفياتي. وتجب الإشارة في الوقت ذاته إلى الحرب التجارية بين الصينوالولاياتالمتحدة التي أعطى الرئيس الأميركي السابق دونالد ترمب الأولوية للاعتبارات الجيواقتصادية على الجيوسياسية في سعيه للحد من الصعود الاقتصادي للصين باتباعها سياسات حمائية تحد من حرية التجارة الدولية. وتجدر الإشارة في هذا السياق إلى ما يمكن اعتباره «الإفلاس» الفعلي لقواعد حرية التجارة الدولية بالسعي الأوروبي إلى تحديد أسعار المواد الأولية وفق ما اقترحته رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين بوضع سقف لسعر الغاز الروسي بهدف «قطع عائدات روسيا التي يستخدمها الرئيس بوتين لتمويل هذه الحرب الوحشية»، حسب تعبيرها. وخلال الأسبوع الماضي، أعلنت مجموعة الدول السبع عن سقف لأسعار النفط الروسي، وهي خطوة قالت إنها ستقلل من عائدات موسكو لغزو أوكرانيا، وستقلل التضخم في الغرب. وفي وقت لاحق اضطرت المفوضية الأوروبية سحب مقترحها بسبب اعتراض بعض دول الاتحاد الأوروبي على هذا المقترح. رداً على هذه المحاولات الغربية، قال الرئيس بوتين إنه من «المستحيل عزل روسيا»، وذلك في كلمة له ألقاها أمام المنتدى الاقتصادي الشرقي، الذي يهدف إلى تشجيع الدول الآسيوية على الاستثمار في مناطق أقصى شرق البلاد، مضيفاً أن الدول الغربية في محاولة منها لمقاومة مجرى التاريخ تعمل على «تقويض الركائز الأساسية للنظام الاقتصادي العالمي الذي تم بناؤه على مدى قرون»، وهذا صحيح ولكن ما لم يرِد بوتين الإفصاح عنه في تصريحه أن ذلك النظام الاقتصادي العالمي هو «صنيعة غربية» تجاهلتها دول المعسكر الاشتراكي طيلة العقود الماضية بعد الحرب العالمية الثانية. ومع تبني الرئيس الراحل غورباتشوف «البيريسترويكا»، تقدم الاتحاد السوفياتي بطلب رسمي للحصول على وضع مراقب خلال جولة الأوروغواي في عام 1986 بهدف الانضمام إلى الاتفاق العام بشأن التعريفات الجمركية والتجارة (الغات)، ولكن الولاياتالمتحدة رفضت ذلك بسبب طبيعة الاقتصاد السوفياتي الموجه الذي لم يكن متوافقاً مع مفهوم التجارة الحرة. وفي الأخير مع التغييرات اللاحقة في روسيا ومفاوضات مطولة معها تم قبول عضويتها في عام 2011 في منظمة التجارة الدولية التي حلت بديلاً لمنظمة (الغات)، وانضمت الصين من جانبها في عام 2001، الأمر الذي أسهم بشكل كبير في دفع عجلة العولمة الاقتصادية وسمح للعالم بتقاسم ثمار نجاحات التنمية في الصين. وهنا تظهر المفارقة المدهشة من الدول الغربية ذاتها التي صاغت قواعد النظام الاقتصادي الليبرالي والمنظمات الدولية التي أنشأتها، إذ حين ترى فيها أنها تتعارض مع مصالحها الآنية لا تتوانى عن انتهاكها. ونشير هنا إلى بعض القرارات التي اتخذها الرئيس الأميركي السابق دونالد ترمب تطبيقاً لشعاره الذي رفعه «أميركا أولاً»: انسحابه من اتفاقية الشراكة التجارية عبر المحيط الهادئ، التي تمثل نحو 26 في المائة من التجارة العالمية بقيمة تزيد على 11 تريليون دولار، وتستهدف إزالة الحواجز التجارية في المنطقة وخفض أو إلغاء الرسوم الجمركية... وانسحابها من اتفاقية باريس للمناخ لمكافحة تغير المناخ وانسحابها من منظمة الصحة العالمية وكذلك من منظمة اليونيسكو. معظم الاتفاقات الدولية والمنظمات الدولية التي انسحبت منها أميركا أعاد الرئيس بايدن انضمام بلاده إليها. ويجب الاعتراف هنا بأن المآخذ على السياسات الأحادية التي اتبعها الرئيس ترمب إزاء شركائه في حلف (الناتو) بعدم تحمل دول كألمانيا نصيبها من الإنفاق الدفاعي، وتتحمل الولاياتالمتحدة العبء الأكبر في الدفاع عنهم، أعطت ثمارها. حين اختلف الوضع بعد الاجتياح الروسي لأوكرانيا ونشرها قوات في بيلاروسيا وموافقتها على نشر سلاح نووي على أراضيها قلبت هذه التطورات الأوضاع رأساً على عقب، وحدث تقارب بين دول الحلف جعل أحد الكتاب يقول إنه بفضل بوتين واجتياحه لأوكرانيا تمكن حلف الناتو من توسيع عضويته، وهو الحلف الذي كان وصفه الرئيس الفرنسي ماكرون بأنه في حالة «موت سريري»… وللحديث بقية. الشرق الأوسط