جَاءَ انهيار الاتحاد السوفيتي وتفكيكُه ثم استقلال الدول التي كوَّنته، ليعلن اختفاءَ إمبراطوريَّة ضخمة على كل المستويات السياسية والاقتصادية والعسكرية، فبعد أن كانت هذه الإمبراطورية الممتدَّة تستمدُّ قوتها من مجموع ثروات وجيوش وأسواق دول كبيرة في أوروبا وآسيا أصبح الباقي من هذه الإمبراطورية الضخمة هو مركزها فقط أي »روسيا«، بإمكانات سياسية واقتصادية وعسكرية وعلمية لدولة واحدة منفردة. وكان من عوامل انهيار الاتحاد السوفيتي، بالإضافة لعدم منطقية الأفكار الشيوعية الرئيسية، أن النخبة الروسية التي أسَّست لمرحلة التفكُّك وعلى رأسها الرئيس ميخائيل جورباتشوف صاحب ال »بروسترويكا« ومن بعده الرئيس بوريس يلسن أول رئيس روسي بعد تفكك الاتحاد السوفيتي.. هذه النخبة كانت منهزمةً أمام الثقافة الغربية والتوجهات الغربية بمقدار عدم إيمانها بجدوى واستمرار الفكرة الشيوعية، وبمقدار استفادتها وتربُّحِها من التقارب مع الغرب والرأسمالية. أوصلت ال »بيروسترويكا« وما أعقبها من توجهات وسياسات في ولاية بوريس يلسن، العلاقات بين روسياوالولاياتالمتحدة إلى مستوى جديد، ولكن أدت هذه التوجهات والسياسات إلى مزيد من إضعاف روسيا نتيجة لما قدمته من تنازلات أمام الغرب وخاصة أمام الولاياتالمتحدةالأمريكية في اتجاهات كثيرة وعلى أصعدة مختلفة دون أن تحصل على مقابل ذلك. خيبة وإحباط.. حدثت حالة من الإحباط وخيبة الأمل في روسيا تجاه الولاياتالمتحدة في الوقت الذي تزايد النقد الأمريكي والغربي لروسيا بخصوص عملياتها العسكرية في الشيشان، كما حدث توتر بين الطرفين بسبب علاقة روسيا بحلف شمال الأطلنطي، وكذلك الاختلاف بين الطرفين إزاء الوضع في الجمهوريات السوفيتية السابقة، وتفاقم الوضع في فترة رئاسة جورج بوش الابن. شعرت روسيا أن توجُّهَها السياسي والاقتصادي، مقتدية بالنموذج الغربي الرأسمالي من خلال الانفتاح الكامل على العالم الجديد الحر والارتباط بأمريكا والشراكة معها، شعرت أن كل ذلك قد أضر بها وبمكانتها ودورها الدوليين، خاصةً وأن النظرة الأمريكيةلروسيا لا تزال نفسها كما كانت قبل انهيار الاتحاد السوفيتي، نظرة الحذَر والترقُّب وربما الخوف بسبب امتلاكها للترسانة النووية والثروات والموارد الحيوية، والكفاءات العلمية، إضافة إلى أن الاقتصاد الروسي بدأ يتعافى ويستقرّ، وبدأت الأموال تتكدس في خزينة الدولة بعد الطفرة النفطية في أسعار الغاز والبترول في العالم وتحديدًا بعد حرب العراق عام 2003م. لقد توقَّع المراقبون انهيار الاتحاد الروسي في مرحلة لاحقة تحت وطأة المشكلات الاقتصادية والسياسية والأمنية، ولكن بعد مرور نحو عقدين على هذه التوقعات تبدو روسيا أمام مرحلة جديدة من استعادة القوة والدور والنفوذ على الساحة الدولية إلى درجة أنها تعمل وكأنها في مرحلة الاتحاد السوفييتي السابق في ملف إفشال الخطط والمشاريع الأمريكية في العديد من مناطق العالم. وأصبح مناخ العلاقات الحالية بين روسيا والغرب يقوم على الندّيَّة في كثير من جوانبه، وخاصة تجاه القضايا الأساسية كتلك المتعلقة بالأمن العالمي، فقد نجحت روسيا في عهد (ميدفيدف- بوتين) في منع تحوُّل القوقاز إلى محطة جديدة للنَّيْل من روسيا ومكانتها الدولية ودورها العالمي، وبدت روسيا مصممة على العودة إلى الساحة الدولية ومعها طموحاتها ومشاريعها وحساباتها، خلافًا لسياسة الانزواء التي ظهرت عقب انهيار الاتحاد السوفييتي وتقديم التنازل تلو الآخر لأوروبا والولاياتالمتحدة وحلف شمال الأطلنطي. وإذا كانت روسيا قد هانت على نفسها بعد تنازلاتها أمام زحف حلف شمال الأطلنطي على حدودها بعد تفكُّك الاتحاد السوفيتي، لدرجة أن الأمر قد وصل بها إلى حد التفكير في الانضمام إلى عضوية حلف شمال الأطلنطي، فإنها الآن وبعد ترميم البيت الروسي من الداخل أصبحت تسير في طريق رفع درجة التحدي كما كان الحال أيام الاتحاد السوفيتي، وما أدلّ على ذلك من دفعها لإدارة الرئيس الأمريكي باراك أوباما إلى التراجع عن إقامة مشروع الدرع الصاروخية في أوروبا الشرقية بعد أن هددت بوضع أوروبا في مرمى صواريخها. وفي هذا الإطار وانطلاقًًا من هذا التوجه جاءت اتفاقية »ستارت 2« الجديدة بين الجانبين. روسيا تستعيد دورها تدريجيا.. وفي ظل الإخفاق الأمريكي الغربي في أفغانستان والإجهاد الذي أصاب التحالف الغربي في العراق، أخذت روسيا تستعيد تدريجيًّا دورها في الشرق الأوسط وغيره من المناطق الأخرى كمنافس للدور الأمريكي، خاصةً في ظلّ امتلاك روسيا لخريطة إمدادات الطاقة. وإذا كان السلوك الأمريكي في العالمين العربي والإسلامي وفي غيرهما من مناطق العالم قد أورث أمريكا عداوات وكراهية شعوب وأمم كثيرة فإن هذا قد صبَّ في مصلحة الدب الروسي الذي وقف لينتظر اللحظة المواتية ليستعيد دوره القديم حيث تحسنت علاقات كثير من الدول بروسيا. وإذا تركنا العالمين العربي والإسلامي فإننا سنشاهد علاقات متنامية بين روسيا ومجموعة من دول أمريكا اللاتينية ولا سيَّما فنزويلا في عهد الرئيس شافيز، وقد تحوَّلت هذه العلاقات المتنامية إلى بند جديد في الخلافات بين روسيا وأمريكا، بسبب ما تشكِّلُه هذه العلاقات من تحدٍّ لسياسة واشنطن، سواء في أمريكا اللاتينية أو في تشكيل نموذج يمكن تعميمه في أكثر من منطقة مناهضة لسياسات واشنطن، ويأتي الموقف الروسي إلى جانب الموقف الصيني في قضية الملف النووي الإيراني ليسير في نفس الاتجاه وليمنع أمريكا والغرب من فرض عقوبات شرسة وقاسية على إيران التي ترتبط روسيا بعلاقات قوية معها. بعدما عادت روسيا لوعيها أصبحت تدرك ماذا يعني التوسع الأمريكي على حدودها وفي مناطق نفوذها، وأصبحت تمتلك إرادة رفض كل هذه المحاولات. الولاياتالمتحدة تحاول نشرَ صواريخها قصيرة المدى في بولندا وتشيكيا، مبرِّرَة ذلك بأنها لمواجهة الصواريخ الإيرانية والكورية الشمالية، وإذا نجحت في نشر صواريخها في أوروبا الشرقية فإنها تكون بذلك قد أحكمت الطوق على روسيا من كل جانب، وتضمن في نفس الوقت السيطرة على العالم، وستصبح روسيا عندها عاجزةً عن الردّ ولا تستطيع إطلاق أي صواريخ دفاعية في حالة نشوب حروب ضدها أو في حالة تعرض مصالحها للخطر، ومحصلة هذا التخطيط الأمريكي هو عزل روسيا وحصارها ومنعها من أن تكون قوةً عظمَى. إن المخطط الأمريكي يقوم على ضمّ دول أوروبا الشرقية وتحديدًا بولندا ودول بحر البلطيق وأوكرانيا وجورجيا وأذربيجان إلى حلف شمال الأطلنطي، وأيضًا محاولة للسيطرة على مناطق نفوذ روسيا في آسيا الوسطى من خلال استخدامها القواعد العسكرية بشكلٍ مؤقت في محطاتها للحرب على ما يسمى الإرهاب هناك، وكذلك مساندتها للثورات الملونة في مناطق النفوذ الروسي تحت شعارات براقة من دعم الديمقراطية والحرية والازدهار الاقتصادي، كما تسعى واشنطن إلى محاولة جر روسيا مجددًا إلى سباق تسلح جديد من خلال نشر نظام الدفاع الصاروخي (صواريخ قصيرة المدى) في دول مجاورة لروسيا، كما تتعمَّد واشنطن التدخل في الشؤون الروسية الداخلية في محاولة للسيطرة على القرار السياسي الروسي والضغط عليه كما كان الحال عليه أيام الرئيس يلسن وإدخال روسيا مرة ثانية في حالة من الغيبوبة الدائمة وإبعادها عن التأثير في القضايا الدولية. ..وتتصدى للمخطط الأمريكي إذا كان هذا هو التخطيط الأمريكي تجاه روسيا فإن روسيا في عهدي بوتين وميدفيدف أصبحت تدرك ذلك جيدًا ولذلك فقد دخلت في تطوير ترسانتها من الصواريخ الدفاعية الجديدة، واستطاعت روسيا التصدي للمخطط الأمريكي ببطء، من خلال ثلاثة مرتكزات رئيسية هي إعادة الدور السياسي والجيو- استراتيجي لروسيا، وإعادة إحياء دور روسيا كدولة عظمى وفقًا لمصلحة روسيا وشعبها بعيدًا عن أي مفهوم أيديولوجي، وكذلك إعادة الاعتبار لمصالح روسيا الاقتصادية الدولية والمحافظة على حديقتها وخلفيتها التاريخية من خلال تفعيل الدبلوماسية الروسية في العالم. نتيجة لذلك استطاع الدبّ الروسي أن يسدِّد ضربات عديدة للمخطط الأمريكي، مبتدئًا بحرب جورجيا والدفاع عن أوسيتيا، مرورًا بتحقيق نصر كبير في أفريل 2010م بتوقيع اتفاق »ستارت 2« الذي أعاد الاعتبار لدور روسيا بعد عقدين من الزمن بتسجيل نقطة مهمة في الاتفاقية بالنص على أن روسيا يحق لها الخروج من المعاهدة متى تشاء عند الإخلال بالاتفاقية والاعتراف الأمريكي بدور روسيا الرئيسي في العالم على أنها دولة كبرى أو لا تزال في إطار كونها قطبًا دوليًّا، والأهم من ذلك أن الموافقة الروسية على هذا الاتفاق كانت مشروطةً بالإقلاع الأمريكي عن خطة نشر الدرع الصاروخية في أوروبا الشرقية، والإقلاع عن الوعود في توسيع حلف الأطلسي على حساب روسيا ومناطق نفوذها الاستراتيجي. إذا أضفنا إلى ذلك كله الضربة الروسية القوية لجورجيا في أوت 2008م، وهزيمة الثورة البرتقالية في أوكرانيا ونجاح المرشَّح الموالي لروسيا، بالإضافة إلى نجاح الانقلاب السياسي في قيرغيزستان المدعوم من روسيا، استطعنا أن ندرك حجم ما يحدث في روسيا في طريق استعادة دورها ومواجهتها للهيمنة الأمريكية على العالم. في يد روسيا ورقة مهمة هي تحكمها في خريطة الطاقة العالمية، والدول الأوروبية لا يمكنها مقاومة الإغراءات الروسية بالعروض المغرية بمدها بالنفط والغاز، وإمكانية معاداتها لروسيا أمر غير وارد، خاصة في ظلِّ استنفاذ أمريكا لاحتياطيِّها السياسي في دول الاتحاد السوفييتي السابقة، فبعد الانهيار والتفكُّك تسلَّمت السلطة في جميع تلك الدول أنظمة سياسية موالية لأمريكا والغرب، غير أن توجه هذه الأنظمة انكشف أمره وظهر عدم حرصه على مصير ومستقبل بلدانه وشعوبه بعد أن أثرى هؤلاء الحكام الجدد الموالون للغرب وكنزوا الأموال بفضل سياسات الانفتاح والخصخصة وبيع المؤسسات المملوكة للدولة وما تبعها من فساد.