أنهت الروائية الكورية الجنوبية هان كانغ عشاءها مع ابنها في بيتها في سيول بسماع خبر سيغير حياتها إلى الأبد، فقد وردها اتصال من متحدثة باسم مؤسسة جائزة نوبل تخبرها أنها حازت للتو أرفع جائزة في العالم في فرع الآداب، أجابتها هان: «أنا متفاجئة، يشرفني ذلك» وهي تدرك تماما أن ما قبل هذا الخبر ليس كما بعده، فقد أصبحت حديث العالم منذ تلك اللحظة وهي المرأة المتحفظة كما يقول عارفوها، لا تحب الأضواء وتتجنب الجماهير، ولا ترتاح إلى اللقاءات التلفزيونية، مفضلة على كل هذه الشهرة الطاغية أن تبقى مع ابنها في المنزل للكتابة. وكان أول قرار اتخذته منسجما تماما مع شخصيتها، حيث رفضت الاحتفال بفوزها في موقف أخلاقي يدل على شخصيتها المبدئية، فسيل الدماء الذي يجري في غزة ولبنان وأماكن أخرى من العالم ينغص أي فرحة عند ذوي الضمائر الحية، ونقل والدها الروائي هان سيونغ وون عنها قولها: «مع تصاعد الحرب وقتل الناس كل يوم، كيف يمكننا أن نحتفل، أو نعقد مؤتمرا صحافيا؟»، وتمنت عليه أيضا أن لا يقيم هو الآخر احتفالا بفوزها مبررة ذلك بأن الأكاديمية السويدية لم تمنحها هذه الجائزة «للاستمتاع بها، بل لكي تحافظ على صفاء ذهني». غير أن جائزة نوبل تبقى الحدث الأدبي الذي يُحدث إعصارا في عالم المقروئية، فبمجرد الإعلان عن الفائز، يتهافت القراء على كتبه، وتسعى دور النشر للحصول على حقوق الترجمة، وفي حالة هان كانغ، ما أن أعلن عن فوزها مساء الخميس حتى بيعت 130 ألف نسخة من كتبها صبيحة الجمعة فقط، ونفدت في كوريا الجنوبية كل كتبها باللغة الكورية. ومن حظ القارئ العربي أن أربعا من رواياتها تُرجم قبل فوزها بنوبل إلى العربية – على غير عادة مع الكتاب غير المعروفين للقارئ العربي بدءا برواية «النباتية» التي صدرت عن دار التنوير وترجمها عن الكورية محمود عبد الغفار، كما ترجم لها محمد نجيب عن الكورية أيضا روايتيها «الكتاب الأبيض» و«أفعال بشرية» وكلتاهما صدرت عن دار التنوير أيضا، وقبل أيام فقط صدرت روايتها «دروس تشكيلية» بترجمة محمد نجيب أيضا عن دار تشكيل، ما يعطي فرصة للقارئ العربي للتعرف على كتابة المرأة الثامنة عشرة التي تحصل على جائزة نوبل. وقد كتبت قبل أسبوعين في هذه الجريدة مقالا لي بعنوان «الكتابة النسوية إبداع ظلمته الجوائز» عن التحيز الجندري ضد النساء، وأعطيت مثالا عن جائزة نوبل تحديدا جاء فيه «منذ تأسيس الجائزة سنة 1901 لم تحصل عليها سوى 17 امرأة مقابل مئة رجل، بل على امتداد تسعين سنة من عمر هذه الجائزة لم تنلها سوى ست نساء، دون حاجة إلى تمييز من نوع آخر يتمثل في عدم وجود ضمن السبع عشرة فائزة أية امرأة عربية، أو افريقية أو آسيوية» وجاء تتويج هان كانغ ليكسر هذا فهي أول امرأة آسيوية تنال الجائزة منذ تأسيسها قبل قرن وربع القرن، مع ملاحظة للدقة العلمية أن جائزة نوبل منذ بداية القرن الواحد والعشرين بدأت تنتهج سياسة أخرى في منح جائزتها فيها نوع من الإنصاف المقبول، فقد انقسمت الثماني عشرة فائزة بالشكل التالي: على امتداد القرن العشرين كاملا (1901-2003) نالت الجائزة تسع نساء فقط، ولكن منذ بداية القرن الواحد والعشرين إلى عامنا هذا أي في واحد وعشرين سنة فقط (2004-2024) نالتها تسع نساء، وهي نتيجة ترضي الإبداع النسوي عموما، بل حتى اللجنة السداسية التي منحت هان كانغ الجائزة كانت مناصفة بين الرجال والنساء، مما يستحضر إلى الذهن تاريخ اللجان الطويل المقتصر حصرا على السيطرة الذكورية. كتبت هان كانغ في روايتها «الكتاب الأبيض»: «الحياة في نهاية المطاف لا شيء سوى بضع لحظات قصيرة»، ومن المؤكد أن فوزها بجائزة نوبل واحدة من أهم تلك اللحظات لها ولإبداع المرأة عموما. وعلى عكس ما توقع كثير من النقاد والمتابعين الذين اعتقدوا أن الكاتبة الصينية كان تشوي هي التي ستفوز بالجائزة؟ إلا أن اللجنة النوبلية كان لها رأي آخر- وإن لم يخرج عن الدائرة الآسيوية – وقد عللت اختيارها لهان كانغ بسبب «نثرها الشعري المكثف حيث تواجه في أعمالها صدمات تاريخية ومجموعات من القواعد غير المرئية، وتكشف في كل عمل من أعمالها هشاشة الحياة البشرية... وقد أصبحت بأسلوبها الشعري والتجريبي مبتكرة في النثر المعاصر». ولكن من هي هان كانغ؟ تروي الروائية الكورية البالغة من العمر 54 عاما أنها ولدت في بيت مملوء بالكتب فقد حرص والدها الروائي هان سيونغ وون الشاب والفقير، كما وصفته، والحاصل على عدة جوائز أدبية على ملء بيتهم الفارغ من الأثاث بالكتب «تتدفق كومة من الكتب خارج الرفوف مغطية الأرضية في أبراج عشوائية، مثل متجر كتب مستعملة توقّفَ عن الترتيب للأبد. كانت الكتب كائنات شبه حية تتكاثر باستمرار وتوسع حدودها»، كما أنها ولدت مثل أبيها في مدينة غاونجغو وهذا ربطها إلى الأبد بالانتفاضة الطلابية في هذه المدينة في مايو/أيار 1980 ضد حاكم كوريا الجنوبية الديكتاتور تشون دو هوان، وهي الانتفاضة التي تضامن فيها سكان المدينة مع الطلاب، لكن الجيش سحقها مخلفا مئتي قتيل وسبعمئة معتقل. عاصرت الكاتبة المذبحة صغيرةً فقد كانت في العاشرة من عمرها لكنها حفرت عميقا في وجدانها، حتى كتبت عنها روايتها «أفعال بشرية»، وقد وصف مترجم الرواية محمد نجيب هذا التأثير للانتفاضة على هان كانغ بقوله: «في الخلفية هناك حقيقة أن هان كانغ قد ولدت في غوانغجو وانطبعت أجواء تلك الفترة في عقل هان الطفلة، وظلت تكتمها في داخلها حتى تمكنت من كتابة هذه الرواية». تأثرت وهي طفلة بروايات أبناء بلدها إلى أن استلبها في مراهقتها الكتّاب الروس مثل دستويفسكي وباسترناك الذي قرأت روايته «موت شاعر» عدة مرات، كما ذكرت تأثرها بكتابات بورخيس. بدأت حياتها الأدبية شاعرة حين تخرجت من جامعة يونسي مجازة في الأدب الكوري، فنشرت خمسة قصائد منها قصيدة «الشتاء في سيول» في مجلة «الأدب والمجتمع»، ولكنها لفتت الأنظار إليها لما فازت بمسابقة أدبية عن روايتها «الحبر الأحمر»، ومن يومها راكمت الجوائز المحلية في كوريا، مزاوجة بين كتابة الرواية وتعليم مادة الكتابة الإبداعية في معهد الفنون في سيول منذ إحدى عشرة سنة، رغم ما تعرضت له من مضايقات من نظام بارك جان هيو ابنة الديكتاتور تشونغ هي بارك، حيث وُضعت ضمن قائمة سوداء فيها قرابة عشرة آلاف فنان وكاتب حرموا من أي دعم وطالتهم المراقبة. بدأت هان كانغ تنتشر عالميا حين ظهرت ترجمات رواياتها إلى الإنكليزية والفرنسية، ولما صدرت مختارات من الأدب الكوري باللغة الفرنسية أثنى حامل نوبل للآداب سنة 2008 الفرنسي لوكليزيو على قصة هان كانغ القصيرة لاهتمامها الكبير بالتفاصيل وتشابكها السردي الدقيق. وكانت رواية «النباتية» مفتاحها إلى العالمية، حين حازت جائزة المان بوكر سنة 2016 للرواية الأجنبية، واختيرت ضمن قائمة «نيويورك تايمز» لأفضل عشرة كتب في تلك السنة. كما حازت روايتها «وداعات مستحيلة» السنة الماضية 2023 على جائزة ميديسيس للكتاب الأجنبي المترجم إلى الفرنسية. تباينت كتابات هان كانغ مع كتابات الروائيين الكوريين المعاصرين الذين كانوا ينظرون نظرة وردية إلى مجتمعهم المتنعم ببحبوحة اقتصادية، في حين كانت هي تحفر عميقا في آلام الناس وقلقهم. فتستند في بعض رواياتها إلى خلفية تاريخ كوريا الجنوبية المعاصر، لاسيما الفترة الديكتاتورية. فكما ذكرنا استحضرت في رواية «أفعال بشرية» انتفاضة غوانغجو عام 1980، وكذلك فعلت في رواية «وداعات مستحيلة» حين استحضرت انتفاضة جيجو عام 1948. وغالبا ما تتميز رواياتها بشخصية أنثوية تكشف مواجهتها لمن حولها أو للمجتمع عن ضعفها وتمردها في الوقت نفسه. مثل رواية «النباتية» وقد استلهمتها من بيت للشاعر الكوري يي سانغ يقول فيه: «أعتقد أن على البشر أن يكونوا نباتات» وتحكي عن امرأة تتحول فجأة إلى نباتية وتتدمر حياتها في سلسلة متتالية من العنف الجسدي والجنسي والنفسي إلى حد دخولها مستشفى الأمراض المستعصية، وتخيُّل نفسها شجرة، وقال حسن داوود على صفحات هذه الجريدة عن الروايةَ بأنها «سوداء كالحة... تمعن في إيصالنا إلى الحدود الأخيرة للألم». كما حوِّلتْ بعد سنتين من صدورها إلى فيلم. كتبت هان كانغ في روايتها «الكتاب الأبيض»: «الحياة في نهاية المطاف لا شيء سوى بضع لحظات قصيرة»، ومن المؤكد أن فوزها بجائزة نوبل واحدة من أهم تلك اللحظات لها ولإبداع المرأة عموما. القدس العربي