ما تزال العديد من العائلات الجزائرية، حريصة على التمسك بالطرق التقليدية في إعداد أهم الأطباق الجزائرية، ألا وهو الكسكس، رافضة أن تطهو في بيوتها كسكس المصنع الذي يتم بيعه في المحلات والأسواق، معتبرين أنه لا يتماشى والذوق الحقيقي لهذه الأكلة، كما أنه يفتقر للجودة التي لا يحتويها الكسكس المعد باليد في البيوت. الكسكس أو "السكسو" كما يسميه سكان منطقة القبائل، هو أحد أشهر الأكلات التقليدية الجزائرية، التي تحتل مكانة هامة في المطبخ الجزائري، وتتصدر قائمة أطباقه، خاصة في الولائم والمناسبات المختلفة، حيث لا يكون للمناسبة طعم دون هذا الطبق الشهير الذي يحتل الصدارة في الأطباق الجزائرية التقليدية عبر كل ولايات الوطن، بل له شهرة عربية واسعة، فبمجرد أن تذكر الجزائر، والطبخ الجزائري، أينما كنت، حتى تسمع اسم "الكسكس" على أذنك، لما يحتله هذا الطبق من شهرة واسعة وعراقة تعود إلى أقدم العصور الجزائرية. .. "الطعام" هو المادة التي لا يخلوا منها البيت الجزائري وإن كان إعداد طبق الكسكس، يتطلب مهارة خاصة، إذ ليس بوسع من لا تتقن الطبخ الجزائري وفنونه تحضير مثل هذا الطبق، كونه يتم وفق عدة خطوات ومراحل، فإن إعداد المادة التي يتم طهيها لإعداد الكسكس، والتي تسمى في بعض المناطق ب"الطعام"، في حد ذاتها تتطلب طريقة خاصة جدا. حيث يتم ذلك بأساليب تبدوا لمن لا يعرفها جد معقدة، كما أنها تتطلب جهدا ووقتا كبيرين، وهو ما جعل من إتقان عملية "الفتيل"، وهي إعداد الطعام، أمرا تفتخر به ربة البيت الجزائرية "الحرة"، حيث يعكس شطارتها، ومهارتها في المطبخ، كما أن اليوم الذي "يفتلو" فيه، هو يوم مميز تجتمع فيه نساء العائلة والجيران، يعملن خلال يوم كامل على إعداد كمية معتبرة من "الطعام"، حسب حجم الأسرة، بحيث تكفيهم لما يقارب السنة، وهي تعتبر عند الكثيرين من المواد الغذائية الضرورية، التي لا يجب أن يخلوا أي بيت منها، على حد تعبير الحاجة حورية التي قالت "الطعام مهم جدا في البيت، ونحن من عاداتنا التي لا يمكن أن نستغني عنها وجود كيس 25 كلغ من الطعام في البيت مخزن، ناهيك عن كيس آخر للاستهلاك"، وأكدت المتحدثة أن بناتها الثلاثة يتقن الفتيل منذ الصغر، والأمهات في الماضي كانت تعلم بناتها الفتيل لأنه من الضروريات التي تحتاجها الفتاة. أما السيدة ربيحة فقالت عن الكسكس أنه أهم طبق جزائري في المناسبات سواء في الفرح أو القرح، وأضافت قائلة "كيس كبير من الطعام ضروري في كل بيت، خاصة إذا حدث أمر طارئ مثلا كالموت، والكثير من العائلات لا تزال تحتفظ بهذه التقاليد لانها من الأمور المهمة". .. كسكس المحلات متوفر لكن لا بديل عن "كسكس الفتيل" هي أنواع الكسكس الموجودة بالمحلات والمساحات الكبرى، تتهافت النساء لاقتنائها لتحضير الطبق المفضل لدى الجزائريين تاركين الطريقة التقليدية التي كانت ترتكز على فتل الكسكس في المنزل وسط أجواء من التعاون والتبادل أطراف الحديث والذكريات. وفي فترة معينة كانت المرأة العاملة هي التي تقتني الكسكس الجاهز، بحكم أن الوقت لا يسمح لها في إعداده، إلا أنه وفي الفترة الاخيرة، أصبحت الظاهرة تنطبق على الجميع حيث أن أمهات اليوم وبنات اليوم لا يستطعن الفتل و بالأحرى لا يعرفن. واليوم وعلى غرار باقي الأكلات والمواد الغذائية التي أصبحت تباع في مختلف الأسواق، جاهزة أو نصف جاهزة، صار بالإمكان إيجاد الكسكس، أو الطعام في أكياس جاهزة للإعداد، ولم يعد على ربة البيت التي ترغب في إعداد طبق الكسكس سوى اقتناء "الطعام"، ومن ثم إعداد الطبق، وهو أمر يروق للكثير من ربات البيوت في الوقت الراهن، نظرا لأنه يتيح لهن إعداد هذه الأكلة في البيت، دون أن تعب وعناء، وما تتطلبه من وقت، وحاجة للمساعدة، كما أن توفر هذه المادة جاهزة، يعفيهن أساسا من تعلم تلك الطرق والكيفيات، الصعبة والشاقة التي يتم المرور بها في إعداد الطعام، والتي تعرف ب"الفتيل"، وهو الأمر الذي صار جد منتشر بين ربات البيوت اليوم، ما عدا تلك الاستثناءات القليلة، من النساء اللواتي لا يجدن في "كسكس المحلات" الطعم الذي يروق لهن، وأغلبهن من كبيرات السن، وبالتالي يتمسكن بعادة "الفتيل"، ويرفعن شعار "لا مكان لكسكس المحلات في بيوتنا". .. "نفتلوا بيدينا.. ولا مكان لكسكس المحلات في بيوتنا" السيدة مليكة امرأة في الستينات من عمرها، واحدة ممن يتمسكن ب"الفتيل"، وإعداد "الطعام" بيدها في البيت، وترفض رفضا قاطعا، أن يعد في بيتها الكسكس الذي يباع في المحلات، وفي هذا الصدد تقول "نحن نفتل بيدينا كما في السابق تماما، ولا نأكل كسكس المحلات"، وهو ما وقفنا عليه أثناء وجودنا في بيتها، فقد دعت السيدة مليكة بعض أخواتها ممن يسمح لهن وقتهن وصحتهن، فضلا عن بناتها المتزوجات، والعازبات، واجتمعن كما في السابق تماما، في بيتها من أجل "فتل الطعام"، في جو تقليدي بامتياز، حيث ترى أن مثل هذه الأيام التي ترتفع فيها درجة الحرارة، من أنسب الأيام للقيام بهذه العملية، حتى يجف "الطعام" بسرعة، مؤكدة أنها تحرص على هذا الأمر في كل عام، حيث لا ينقضي الصيف إلا وقد أعدت ما يحتاجه بيتها من هذه المادة لعام كامل. كما أوضحت المتحدثة أنها حريصة أيضا على تعليم بناتها، ونقل ما تتقنه من حرف وفنون الطبخ لهن، وعلى رأسها "فتل الطعام"، معتبرة أنه من أهم علامات "شطارة" ربة البيت، حتى يحافظن على هذه العادة، وهذه الطقوس في بيوتهن، لأنه وفي السابق لم يكن يوجد بيت جزائري يخلو من هذه المادة، ولم تكن هناك ربة بيت جزائرية لا تتقن هذه الطريقة في إعداد الطبق الشهير. .. نساء اخترن الفتيل كمهنة لكسب المال اختارت العديد من النسوة خاصة ربات البيوت "الفتيل" كمهنة يمارسنها لكسب بعض الأموال لإعالة أسرهن، والمساهمة في مصروف البيت، في ظل عزوف الكثيرات عن إعداد الطعام وفتله في البيت، وتفضيل شرائه من عند النسوة خاصة اللاتي لا يردن شراء الكسكس الذي يباع في المحلات، السيدة حسينة واحدة من بين النساء الكثيرات اللاتي اختارت مهنة الفتيل قالت في الموضوع " أفتل للناس الذين يطلبون ذلك مني، ويزداد الطلب في الصيف خلال موسم الأعراس، وقبل شهر رمضان". وأكدت المتحدثة أن الفتيل متعب لكن الحاجة تدفع إلى ذلك، أما عن السعر فقالت لنا المتحدثة أنها تفتل كيس 25 كلغ من الدقيق ب3000 دج بدون سعر الدقيق، أما السيدة صليحة، فقالت أنها تفتل للأعراس وتقوم بمساعدتها ابنتيها اللاتي يتقن الفتيل مثلها، كما أنها تقوم بإعداد الشخشوخة والبركوكس حسب طلب الزبائن. من جهتها، قالت كل من السيدة فاطمة وحكيمة أنهن يعرفن جيدا الفتيل لكن ضيق البيت وشدة الحرارة تدفعهن إلى شرائه من عند النسوة المتخصصات في الفتيل، حيث أكدت المتحدثتين أن الأمر أحسن وأريح.