لم يشهد مهرجان برلين السينمائي منذ سنوات طويلة طقساً "ربيعياً" كما هي الحال خلال عقد الدورة ال64 التي تختتم غدا بتوزيع الجوائز على الفائزين بعد 11 يوماً من الاحتفاء بالفن السابع. هو طقس "ربيعي"، كما يحلو للأصدقاء الألمان وصفه، على رغم استقرار الحرارة على 8 درجات مئوية طوال هذا الأسبوع، ما يقدم صورة جلية عن البرد القارس الذي يتذكره رواد المهرجان كثيراً. لكنّ الجو الجميل، أو للدقة، الجو الشتوي المعتدل وسطوع شمس فيفري، لم يصرفا جمهور "البرليناليه" عن الصالات المظلمة على رغم جمال المدينة وإغراءاتها الكثيرة: 350 ألف مشاهدة حتى اليوم، قابلة للزيادة. طوابير من مختلف الأعمار في انتظار ان يحالفها حظ إيجاد مقعد فارغ. زحمة أمام مراكز بيع التذاكر وعيون شاخصة أمام السجادة الحمراء كلها أمل باستراق نظرة من مشاهير عالم السينما. ولحسن الحظ قائمة النجوم في برلين طويلة هذا العام، من جورج كلوني إلى مات دايمون وبيل موراي وتيلدا سوينتن وأوما تيرمين ورالف فينيس وفوريست ويتاكر وليا سيدووسواهم الكثير من المشاهير. وإذا كان برلين مهرجان الاكتشافات، فإن هذا لا ينفي وجود خيبات أيضاً. وكان في إمكاننا أن نتوقّع ذلك مع احتضان المهرجان في دورته الجديدة نحو400 فيلم موزعة على أقسام عدة، هي: المسابقة الرسمية للأفلام الطويلة، مسابقة الأفلام القصيرة، عروض خاصة لأفلام خارج المسابقة، "آفاق السينما الألمانية"، "بانوراما"، "الفوروم"، "أفلام الجيل الجديد"، ناهيك باحتفاء خاص بالإضاءة على تاريخ السينما العالمية، واحتفاء خاص بالمخرج البريطاني كين لوتش. ولا شك في أن الخيبة تكون مضاعفة حين تحمل توقيع ممثل وسيم معروف بمواقفه التقدمية مثل جورج كلوني الذي جاء إلى برلين حاملاً معه فيلماً من بطولته وإخراجه بعنوان "The monuments men"، صوّب فيه سهامه على النازية من دون أن يبتعد عن الترويج لصورة "الأمريكي المنقذ"، ما حدا بإحدى المتفرجات بعد انتهاء العرض الصحافي إلى الصراخ بأعلى صوتها بامتعاض واضح: "آسفة "مستر" كلوني. . . هذا ليس التاريخ. هذا سخافة". ويقيناً أن كلوني الذي وضع في فيلمه وصفة أفلام "أوشين" ذاتها، أي جمع أكبر عدد من المشاهير في فيلم واحد (جورج كلوني، مات ديمون، بيل موراي، جان دوجاردن، جون غودمان، كايت بلانشيت) أخفق في الدنو من موضوعه من دون أن يُتهم في تحوير الأحداث التاريخية، علماً أن جملة "مقتبس عن قصة حقيقية" تطالعنا في بداية الشريط. فالقصة التي تدور حول فرقة عسكرية أمريكية مهمتها حماية الآثار الفنية من "الإبادة" على أيدي النازية بعد انهزامهم في الحرب العالمية الثانية، أهملت الدور الروسي، لمصلحة الأميركي، البطل الأوحد. ولم تكتف بهذا وحسب، بل لم تحد عن الصورة النمطية ل "السوبرمان" الأمريكي، الذي يحارب الأشرار أينما وجدوا. أما هنا فهذا "السوبرمان" هو حامي الفنون، ما استجلب سخرية زملاء عراقيين، لم يتمكنوا إلا من عقد مقارنة مع ما حدث للمتحف العراقي بعد سقوط صدام ودخول الأميركيين إلى بلادهم. خيبة أخرى أتت هذه المرة من المخرج الفرنسي، الجزائري الأصل، رشيد بوشارب في فيلمه "رجلان في مدينة" المشارك في المسابقة الرسمية. الفيلم المقتبس من فيلم فرنسي لعب بطولته عام 1973 آلان ديلون، يدور حول مجرم يخرج إلى الحرية بعد سنوات من السجن، ليجد نفسه عاجزاً أمام لفظ المجتمع له. ولنا أن نتوقع أن مشاكله ستكون كثيرة حين نعرف أن كاتبي سيناريو النسخة الجديدة الثلاث (ياسمينا خضرا وأوليفييه لوريل ورشيد بوشارب) أدخلوا تعديلاً على الشخصية أراد منه المخرج مدّ الجسور بين شرق وغرب نتيجة التعقيدات التي ترتبت عن أحداث 11 سبتمبر. فالبطل هنا (أدى الدور ببراعة فوريست ويتاكر)، وخلافاً للفيلم الأول، يُشهر إسلامه، ويواظب على الصلاة، وإذا أغفلنا الأخطاء التي يمكن إحصاؤها في هذا السياق، يمكن القول أن الفيلم الجديد أخفق في هذه الناحية، خصوصاً أن مشاكل البطل لم تبد في أي مشهد بسبب اعتناقه الإسلام بل هي أولاً وأخيراً كما تصل إلى المتلقي، بسبب كونه مجرماً. وبهذا يمكن القول أن بوشارب أخفق في مد الجسور على رغم النيات الحسنة.