الفقر والجوع في العالم لقد اهتمَّ الإسلام بمشكلتي الفقر والبطالة، وحرص على علاجهما – قبل نشوئهما – بوسائل متعدِّدة حفاظًا على المجتمع المسلم من الأخطار التي قد تصيبه أخلاقيًّا وسلوكيًّا وعقائديًّا؛ حيث تؤكِّد الإحصائيَّات العلميَّة أنَّ للفقر والبطالة آثارًا سيِّئة على الصحَّة النفسيَّة، وخاصَّة عند الأشخاص الذين يفتقدون الوازع الديني؛ حيث يُقْدِم بعضهم على شُرْب الخمور، كما تزداد نسبة الجريمة – كالقتل والاعتداء – بين هؤلاء العاطلين؛ لذلك كان رسول الله يستعيذ كثيرًا من الفقر، بل ويجمعه في دعاء واحد مع الكفر، فيقول رسول الله : "اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْكُفْرِ وَالْفَقْرِ". الحل النبوي لمشكلتي الفقر والبطالة كما يُعَاني العالم اليوم من جرَّاء مشكلتي الفقر والبطالة فإنه قد عانى قديمًا، فكان الحلُّ النبوي لهذه المشكلة حلاًّ عمليًّا متدرِّجًا مبنيًّا على تعاليم الإسلام وأحكامه؛ حيث بدأ رسول الله بتشجيع الناس على مزاولة الأعمال، وبعضَ المهن والصناعات، كما كان يفعل الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، الذين أَعْطَوا القدوة والمثل الأعلى في العمل والكسب الحلال، فقال رسول الله عن نبي الله داود: "مَا أَكَلَ أَحَدٌ طَعَامًا قَطُّ خَيْرًا مِنْ أَنْ يَأْكُلَ مِنْ عَمَلِ يَدِهِ، وَإِنَّ نَبِيَّ اللَّهِ دَاوُدَ كَانَ يَأْكُلُ مِنْ عَمَلِ يَدِهِ". وكان رسول الله القدوة والمَثَل الذي يُحتذى به في هذا المجال؛ حيث كان يرعى الغنم، ويُزَاول التجارة بأموال خديجة -رضي الله عنها- قبل بعثته؛ فعن أبي هريرة ، عن النبيِّ أنه قال: "مَا بَعَثَ اللَّهُ نَبِيًّا إِلاَّ رَعَى الْغَنَمَ". فقال أصحابه: وأنتَ؟ فقال: "نَعَمْ، كُنْتُ أَرْعَاهَا عَلَى قَرَارِيطَ لأَهْلِ مَكَّةَ". كما كانت نظرة رسول الله للعمل نظرة تقدير واحترام، مهما كانت طبيعته؛ فإنه خيرٌ من سؤال الناس والذِّلَّة بين أيديهم، ويُصَوِّر رسول الله هذا الأمر بقوله: "لأَنْ يَأْخُذَ أَحَدُكُمْ حَبْلَهُ فَيَأْتِيَ بِحُزْمَةِ الْحَطَبِ عَلَى ظَهْرِهِ، فَيَبِيعَهَا، فَيَكُفَّ اللَّهُ بِهَا وَجْهَهُ؛ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَسْأَلَ النَّاسَ أَعْطَوْهُ أَوْ مَنَعُوهُ". كما تتفرَّد النظرة النبويَّة للعمل كذلك بأنها تربط بين العمل وثواب الله في الآخرة. وشجَّع رسول الله المشاريع الاقتصادية بين المسلمين، وحثَّهم على المزارعة، كما فعل الأنصار مع إخوانهم المهاجرين الفقراء، الذين قَدِموا على المدينة بلا أدني مال، فعن أبي هريرة أنه قال: قالت الأنصار للنبي: اقسمْ بيننا وبَيْن إخواننا النَّخِيلَ. فقال: "لا". فقالوا: تَكْفُونَا الْمُؤْنَة، وَنَشْرَككُمْ في الثمرة. قالوا: سمِعْنا وأطَعْنا. وحرَّم رسول الله الربا لما له من مضارَّ على فقراء المجتمع؛ فهو يعوق التنمية، ويُسَبِّب التخلُّف، ويَزِيد الفقير فقرًا؛ ممَّا يؤدِّي إلى الهلاك؛ كما قال رسول الله "اجْتَنِبُوا السَّبْعَ الْمُوبِقَاتِ". قالوا: يا رسول اللَّه، وما هنَّ؟ قال: "الشِّرْكُ بِاللَّهِ… وَأَكْلُ الرِّبَا…". الفقر والبطالة وسيرة رسول الله كانت تطبيقًا عمليًّا لهذه المبادئ والقيم، التي تعمل على حلِّ مشكلتي الفقر والبطالة، فعن أنس بن مالك أن رجلاً من الأنصار أتى النبي يسأله، فقال : "أَمَا فِي بَيْتِكَ شَيْءٌ؟" قال: بلى، حِلْس؛ نلبس بعضه، ونبسط بعضه، وقَعْب نشرب فيه من الماء. قال: "ائْتِنِي بِهِمَا". قال: فأتاه بهما، فأخذهما رسول الله بيده، وقال: "مَنْ يَشْتَرِي هَذَيْنِ؟" قال رجل: أنا آخذهما بدرهم. قال: "مَنْ يَزِيدُ عَلَى دِرْهَمٍ؟" مرَّتين أو ثلاثًا، قال رجل: أنا آخذهما بدرهمين. فأعطاهما إيَّاه وأخذ الدرهمين، فأعطاهما الأنصاري، وقال: "اشْتَرِ بِأَحَدِهِمَا طَعَامًا، فَانْبذْهُ إِلَى أَهْلِكَ، وَاشْتَرِ بِالآخَرِ قَدُومًا فَأْتِنِي بِهِ". فأتاه به، فشدَّ فيه رسول الله عودًا بيده، ثم قال له: "اذْهَبْ فَاحْتَطِبْ وَبِعْ، وَلا أَرَيَنَّكَ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا". فذهب الرجل يحتطب ويبيع، فجاء وقد أصاب عشرة دراهم، فاشترى ببعضها ثوبًا، وببعضها طعامًا، فقال رسول الله : "هَذَا خَيْرٌ لَكَ مِنْ أَنْ تَجِيءَ الْمَسْأَلَةُ نُكْتَةً فِي وَجْهِكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، إِنَّ الْمَسْأَلَةَ لا تَصْلُحُ إِلاَّ لِثَلاثَةٍ: لِذِي فَقْرٍ مُدْقِعٍ، وَلِذِي غُرْمٍ مُفْظِعٍ، أَوْ لِذِي دَمٍ مُوجِعٍ". فكانت معالجته معالجة عمليَّة؛ استخدم فيها رسول الله كل الطاقات والإمكانات المتوفِّرة لدى الشخص الفقير، وإن تضاءلت؛ حيث علَّمه رسول الله كيف يجلب الرزق الحلال من خلال عمل شريف. أمَّا إذا ضاقت الحال، ولم يجد الإنسان عملاً، وأصبح فقيرًا محتاجًا، فعلاج الإسلام حينئذ لهذه المشكلة هو أن يَكْفُل الأغنياءُ الموسرون أقاربهم الفقراء، وذلك لما بينهم من الرَّحِمِ والقرابة، وقد وصفه الله بأنه حقٌّ من الحقوق الواجبة بين الأقارب، فقال تعالى: {فَآَتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ}، ثم تأتي السيرة النبويَّة خير تطبيق لهذا الحقِّ، وتُرَتِّب أولويَّات التكافل لدى كل مسلم؛ فعن جابر أنه قال: أعتق رجل من بني عُذْرة عبدًا له عن دُبُرٍ، فبلغ ذلك رسولَ الله ، فقال: "أَلَكَ مَالٌ غَيْرُهُ؟" فقال: لا. فقال: "مَنْ يَشْتَرِيهِ مِنِّي؟" فاشتراه نُعيم بن عبد الله العدوي بثمانمائة درهم، فجاء بها رسول الله فدفعها إليه، ثم قال: "ابْدَأْ بِنَفْسِكَ فَتَصَدَّقْ عَلَيْهَا، فَإِنْ فَضَلَ شَيْءٌ فَلأَهْلِكَ، فَإِنْ فَضَلَ عَنْ أَهْلِكَ شَيْءٌ فَلِذِي قَرَابَتِكَ، فَإِنْ فَضَلَ عَنْ ذِي قَرَابَتِكَ شَيْءٌ فَهَكَذَا وَهَكَذَا". يقول: فَبَيْنَ يَدَيْكَ وعن يمينك وعن شمالك. وإذا عجز الأقارب الأغنياء عن سدِّ حاجة الفقراء جاء دَوْرُ المجتمع ككلٍّ؛ متمثِّلاً في الزكاة التي فرضها الله للفقراء من أموال الأغنياء، ولكنَّ رسول الله جعلها مقصورة على الفقير الذي لا يستطيع العمل والكسب؛ لذلك قال رسول الله "لا تَحِلُّ الصَّدَقَةُ لِغَنِيٍّ، وَلا لِذِي مِرَّةٍ سَوِيٍّ". بهذا لم يجعل رسول الله لمتبطِّل كسول حقًّا في الصدقات؛ ليدفع القادرين إلى العمل والكسب. أمَّا إذا عجزت الزكاة فإن الخزانة العامَّة للدولة المسلمة بكافَّة مواردها تكون هي الحلَّ لمعالجة مشكلة الفقر والبطالة، والموئل لكل فقير وذي حاجة – مسلمًا كان أو غير مسلم – وخير شاهد على ذلك من سيرة رسول الله ما كان يفعله مع أهل الصُّفَّة.