إن الفقر والحاجة أصابت الأمة بصورة قلّ نظيرها، حتى شكا الكثير من بأسها، كما أن انتشارها وتعمقها لم يأتي هكذا من غير سبب، هذه حقيقة لا ننكرها، حتى ظهرت في المجتمع خصلة التسول الجماعي التي هي من أهم المظاهر الناتجة عن الفقر، فأمام أبواب المساجد، وعلى الأرصفة والطرق، وفي كل مكان سائلون يسألون الناس المال إلحافا، من كل الأصناف، شبابا وشيوخا وحتى أطفالا، نساء ورجالا، أصحاء أقوياء وضعفاء مبتلين، حججهم في أكثر الأحيان واهية أو كاذبة، أكثرهم قد أهمل حرفته أو عمله واحترف هذه المسكنة من أجل كذا من مال.إن ديننا وعقيدتنا تأبى مثل هذه المناكر، حيث يُهمل المسلم علمه أو حرفته أو صنعته، أو يفوت على أبنائه التعلّم وكسب المعرفة من أجل طلب المال بصورة فيها التذلل والمسكنة؛ مع توفر وسائل الكسب المحترمة في بعض الأحيان، قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: /لَا تَحِلُّ الصَّدَقَةُ لِغَنِيٍّ وَلَا لِذِي مِرَّةٍ سَوِيٍّ/ وعَنْ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَدِيِّ بْنِ الْخِيَارِ قَالَ: أَخْبَرَنِي رَجُلَانِ أَنَّهُمَا أَتَيَا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ وَهُوَ يُقَسِّمُ الصَّدَقَةَ فَسَأَلَاهُ مِنْهَا؛ فَرَفَعَ فِينَا الْبَصَرَ وَخَفَضَهُ فَرَآنَا جَلْدَيْنِ فَقَالَ: /إِنَّ شِئْتُمَا أَعْطَيْتُكُمَا، وَلَا حَظَّ فِيهَا لِغَنِيٍّ وَلَا لِقَوِيٍّ مُكْتَسِبٍ/ إن أكثر من يمتهن الفقر لو عُرض عليه عمل ما لرفضه، ولو وُجه إلى شغل أو صنعة لنبذه، والدليل على ذلك؛ أن كثيرا ممن يشكون الحاجة حقا يوجدون لأنفسهم أي عمل في أي مجال، فبعض الشباب يكتسبون رزقهم ونعم الكسب من السوق؛ وآخرون يسهرون الليل مكابدين، وغيرهم تجدهم يرضون بتلك المشاق العملية ويفضلونها على إهانة وجوههم بالسرقة أو السؤال وهم شباب؛ فكما فعل هؤلاء فليفعل أولائك متوكلين على الله لا على أحد؛ محتسبين عنده كل جهد وتعب؛ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: أَرْسَلَنِي أَهْلِي إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَسْأَلُهُ طَعَامًا؛ فَأَتَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يَخْطُبُ فَسَمِعْتُهُ يَقُولُ: /مَنْ يَصْبِرْ يُصَبِّرْهُ اللَّهُ؛ وَمَنْ يَسْتَغْنِ يُغْنِهِ اللَّهُ؛ وَمَنْ يَسْتَعِفَّ يُعِفَّهُ اللَّهُ؛ وَمَا رُزِقَ الْعَبْدُ رِزْقًا أَوْسَعَ لَهُ مِنْ الصَّبْرِ/ إن من يسارع إلى الحرام لا يغنيه الله، ومن لا يستغن بالله لا يغنيه شيء، ومن يستعف ويكفيه القليل ويقنع به يبارك له وسوف يأتيه المزيد.إنه ما خاب من اجتهد، وما عال من اقتصد، ومن زرع حصد؛ إن العقل ليعجب كل العجب حين يرى الخبز الذي يُرمى في كل حيّ، ولو جُمع على قيمة مال لأغنى كثيرا من الأسر المحتاجة في الحي الذي يرمى فيه الخبز، وإن الناظر في التبذير الذي يقع فيه بعض الناس حين يشترون الألعاب وبعض الكماليات ليعجب كذلك؛ كيف يسأل الناس من يشتري هذه الأشياء؟! كيف يكون في حاجة من يشتري ألعابا وما يقدمه لنا الصينيون؟! ومن العجب أيضا أن نجح بعض المجتهدين في كف وجوههم عن ذل المسألة بما تبتكره عقولهم وأناملهم؛ في حين يضيّع آخرون مالا لم يتعبوا في تحصيله في أشياء لا معنى لها، فكيف يمتهن الفقر من سلم عقله وصحّ جسمه وبدنه؟.عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ رَجُلًا مِنْ الْأَنْصَارِ أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْأَلُهُ فَقَالَ أَمَا فِي بَيْتِكَ شَيْءٌ قَالَ بَلَى حِلْسٌ /الحلس: كساء يوضع على ظهر البعير أو يفرش في البيت تحت حُر الثياب/ نَلْبَسُ بَعْضَهُ وَنَبْسُطُ بَعْضَهُ وَقَعْبٌ /القعب: القدح؛ الإناء/ نَشْرَبُ فِيهِ مِنْ الْمَاءِ. قَالَ: ائْتِنِي بِهِمَا. قَالَ فَأَتَاهُ بِهِمَا فَأَخَذَهُمَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِيَدِهِ وَقَالَ: مَنْ يَشْتَرِي هَذَيْنِ؟ قَالَ رَجُلٌ: أَنَا آخُذُهُمَا بِدِرْهَمٍ. قَالَ: مَنْ يَزِيدُ عَلَى دِرْهَمٍ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا. قَالَ رَجُلٌ: أَنَا آخُذُهُمَا بِدِرْهَمَيْنِ. فَأَعْطَاهُمَا إِيَّاهُ وَأَخَذَ الدِّرْهَمَيْنِ؛ وَأَعْطَاهُمَا الْأَنْصَارِيَّ وَقَالَ: اشْتَرِ بِأَحَدِهِمَا طَعَامًا فَانْبِذْهُ إِلَى أَهْلِكَ؛ وَاشْتَرِ بِالْآخَرِ قَدُومًا فَأْتِنِي بِهِ. فَأَتَاهُ بِهِ فَشَدَّ فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عُودًا بِيَدِهِ ثُمَّ قَالَ لَهُ: اذْهَبْ فَاحْتَطِبْ وَبِعْ وَلَا أَرَيَنَّكَ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا. فَذَهَبَ الرَّجُلُ يَحْتَطِبُ وَيَبِيعُ فَجَاءَ وَقَدْ أَصَابَ عَشْرَةَ دَرَاهِمَ فَاشْتَرَى بِبَعْضِهَا ثَوْبًا وَبِبَعْضِهَا طَعَامًا فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: /هَذَا خَيْرٌ لَكَ مِنْ أَنْ تَجِيءَ الْمَسْأَلَةُ نُكْتَةً فِي وَجْهِكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ/. هكذا ينبغي أن يعالج المجتمع المسلم حاجة أفراده وفاقتهم، بالتعاون وبروح المسؤولية.إن الله ما أنزل من داء إلا وأنزل له دواء، وإن لعلاج الفقر علاجا عمليا يتطلب تهيئة العمل المناسب لكل عاطل قادر على العمل، وهذا واجب الدولة الإسلامية نحو أبنائها. فما ينبغي لراع مسئول عن رعيته أن يقف مكتوف اليدين أمام القادرين العاطلين.كذلك تجب المساواة بين أفراد المجتمع الواحد؛ فلا يعقل أن يلعب ابن بالملايين ويضيعها بين الحين والحين، ولا يجد ابن المسكين حذاء يصون به جسمه أو كراسا ينمي به عقله أو لقمة يسد بها جوعته.وثالثا: يجب ضمان المعيشة الملائمة لأفراد المجتمع المسلم وبالأخص لكل عاجز عن اكتساب ما يكفيه، وذلك بتحقيق العدل في فرص العمل والعطايا والمنح، فهل يهمل اليتيم في بلاد المسلمين، ويُرمى بالعجوز الضعيف إلى الرصيف، ويتركُ ذو العاهة والعجز البدني في حاجة وفاقة مستديمة؟ والأموال بين البنوك تُتداول بطريقة ربوية، تزيد الفقير فقرا والغني غنى.إن كثيرا من الحلول الموجودة لو طبقت لقضت على كل أنواع الفاقة، وسَدت كل طلب وحاجة، وما احتاج بعض الناس إلى مد أيديهم.نسأل الله أن يكف عن المحتاجين عناءهم؛ وأن يغنيهم من فضله.