تفسير المؤمنين للشيخ أبو جرة سلطاني تبدأ السورة بحمد الله المعروف بأنه رب العالمين، وهي الصيغة التي افتتح بها الوحي خمس سور هي: الفاتحة "الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ"، والأنعام "الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ "، والكهف "الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ"، وسبأ "الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ"، وفاطر "الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ"، فإذا علمنا أن المتكلم هو الله، وأن ما بين أيدينا هو كلامه لمخلوقاته من الإنس والجن، أدركنا أن حمْد الله ليس حركة لسان فحسب، وأن كل كلمة صادرة عن "رب العالمين" هي مشروع حياة للمخاطَبين بالرحمانية والرحيمية، ضمن ملك الله الواسع بقهر ربوبيته المستغرقة لجميع المخلوقات في عالمي الإنس والجن، أو في عالمي الدنيا والآخرة، أو في عالمي الإيمان والكفر، والخير والشر، والنور والظلمات، والجمال والقبح..فكل ذلك محكوم برحمة الله الواسعة التي وسعت كل شيء "الحمد لله رب العالمين"، فبعد التعوذ بالله من الشيطان الرجيم والإستئذان باسمه الأعظم للدخول على الله (سبحانه) بكلامه، وما أدّب به المؤمنين لقراءة وحيه وتلاوة كتابه "بسم الله الرحمن الرحيم"، يكون لائقا أن يلهج القلب واللسان بالحمد لله اعترافًا بأن هذا الكون كله لله المستحق وحده للثناء والحمد بالعقل والقلب واللسان، وسائر الجوارح، الحمد على ما أنعم به وتكرم، والحمد على ما فطر وبرأ من خلق، ورزق، وحياة، وطلاقة قدرة وإحاطة مشيئة أعطت للإنسان حق الاختيار وحرية التصرف في ما رزقه الله به من فضل ويسّر له من خير وهداه من ضلالة..ورحمه في الدنيا بالهداية وفي الآخرة بالعفو والرحمة لأنه "الرحمن الرحيم" المحمود على كمال ذاته وكمال صفاته وكمال أفعاله، فهو المحمود وحده في الأولى والآخرة "وَهُوَ اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الأُولَى وَالآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ" القصص:70. فالحمد اعتراف لله رب العالمين بأن كل ما يجري في كونه هو نعمة مطلقة منه وحده لا شريك له، تستحق أن يحمد المخلوق عليها خالقه، حتى لو لم تنله هو ولا أحدا من ذوي أرحامه وقرابته وأهل مودته، فالنعمة إذا نزلت من عند الله كانت متاحة لكل من يأخذ بأسباب الوصول إليها، فيكفي أن الله أوجدها وسخّرها وجعل لها أسبابا تذللها وأتاحها لخدمة البشر ولحفظ نوعهم واستمرار حياتهم دون أن يكون لهم في ذلك أي جهد، فإذا أراد أحد الوصول إليها أخذ بالأسباب التي سخرها الله للعطاء والمدّ..لأن الله هو رب العالمين، وما دام هو رب العالمين فهو رحمان بجميع خلقه في الدنيا التي استدعاهم للعيش فيها، فأعدها لمن خلقه خليفة في الأرض، وهيأها وأودع فيها كل مقومات الحياة، ثم خلق الإنسان بعد أن هيأ له كل هذه النعم- ليجد أن ربه قد وفّر له الهواء، والماء، والكلأ، والنار، وجعل دورة الحياة خاضعة لطوْعه، مسخَّرة بأمر الله لجميع من خلق: تعطي، بأسباب العطاء، للمؤمن وللكافر بركض أسبابها التي يحكمها الله والتي أودعها في هذه المخلوقات لتعمل وتتحرك وتمشي في مناكب الأرض كما أراد الله، فلذلك عندما نقول "الحمد لله" فنحن نشكر الله على ما سخّر لنا من نعم ونثني عليه الخير كله لأنه رب الجميع. ولكي نفقه دلالات الحمد وعلاقاتها بأصل العقيدة والذكر والشكر والدعوة والدعاء..وصلتها بحركة الإنسان في الحياة..نحتاج إلى إرسال نظرة بعيدة إلى مستقر رحمة الله في الجنة يوم القيامة، حيث يذكر المؤمنون هداية الله إياهم إلى صراطه المستقيم، فلا يجدون ما يكافئ هذه النعمة إلاّ أن يحمدوا الله على ما هداهم وأواهم وأغناهم..ورحمهم، فقالوا "الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ" الأعراف:43، فلكي نفقه درس الحمد نحتاج إلى إلقاء نظرة متأملة في السور التي افتتحها الوحي بصيغة "الحمد لله" لتكون "الحمدلة" مستوفية لشروطها القرآنية بما أودع الله فيها من أسرار.