بعد 25 عاما من الغياب، نهشت جسده المتعب بآثار السنين التي خدم فيها مؤسسات الدولة الجزائرية، مجاهدا وضابطا، ثم واليا فوزيرا، ثم وزير أول وقائدا للجهاز التنفيذي، عاد الوزير الأول الأسبق الدكتور عبد الحميد إبراهيمي إلى حضن الوطن، في صمت لا يعكس شخصيته، فهو رجل حيوي نشيط، صعد سريعا في درجات السلم السياسي والإداري وبلغ إلى أعلى هرم السلطة الجزائرية حيث تبوأ منصب الوزير الأول لمدة 04 سنوات ما بين 1984 و1988، وبعد أحداث أكوبر 1988 تم تحميله رفقة الأمين الدائم للجنة المركزية للآفلان وقتها الشريف مساعدية مسؤولية الأحداث وذبحا قربانا للعهد الجديد، لكن الرجل واصل النضال ضد من يسميهم سبب كل الأزمات في الجزائر وهم ضباط فرنسا في الجزائر، وهو ما كلفه 25 عاما من المنفى، فمن هو عبد الحميد إبراهيمي؟ وما هي قصته مع ضباط فرنسا؟ * من هو عبد الحميد إبراهيمي… هو عبد الحميد ابن العلامة الشيخ "المبارك الميلي" وأخ وزير التربية الأسبق محمد الميلي، ولد سنة 1936 بمدينة قسنطينة، انضم إلى جيش التحرير الوطني الشعبي سنة 1956، حيث شغل وظيفة ضابط في وحدات العمليات إلى غاية الاستقلال سنة 1962، وفي سنة 1963 عين واليا لولاية عنابة، سنة 1970 شغل منصب أستاذ الاقتصاد بجامعة الجزائر، سنة 1976 عين رئيسا لفرع شركة سونطراك في الولاياتالمتحدةالأمريكية، وفي سنة 1979 عين وزيرا للتخطيط، وفي سنة 1984 عينه الرئيس الشاذلي بن جديد كوزير أول خلفا للوزير الأول محمد بن أحمد بعد الغني، كما عين في نفس السنة عضوا في المكتب السياسي لجبهة التحرير الوطني. ويعد إبراهيمي مفجر قضية 26 مليار دولار نهاية الثمانينيات، وفي سنة 1990 استقال من اللجنة المركزية لحزب جبهة التحرير الوطني، بعد مغادرته الجزائر مكنته شهادته العلمية -دكتوراه في الاقتصاد- وخبرته من التدريس في إحدى أهم وأعرق الجامعات العالمية وهي جامعة جورج تاون بالولاياتالمتحدةالأمريكية، كما شغل منصب مدير عام مركز دراسات المغرب العربي في لندن. * حزب فرنسا وخروجه من الجزائر… بعد استقالة أو إقالة الشاذلي بن جديد سنة 1992، حصل خلاف بين إبراهيمي والقيادة الجديدة، حيث اعتبر أن ما قام به المجلس الأعلى للأمن من إيقاف المسار الانتخابي وتأسيس المجلس الأعلى للدولة هو "انقلاب عسكري" قام به ضباط حزب فرنسا في الجزائر، وهذا ما جر عليه غضب أصحاب القرار آنذاك، هذا الخلاف كان أحد أهم الأسباب لمغادرته البلاد. * لماذا النفي…؟ كان إبراهيمي قد صرح لقناة "الجزيرة" سنة 2009، أن السلطات رفضت إعطاءه جواز السفر، بسبب آرائه المتعلقة بإيقاف المسار الانتخابي الذي عده انقلابا، وبسبب التصريحات النارية التي قصف بها الضباط السابقين في الجيش الفرنسي، ويروى إبراهيمي أنه طلب تجديد جواز سفره الجزائري إلا أنه أخبر أن السلطات ترفض إعطاءه جواز السفر.. * كتاب في أصل الأزمة الجزائرية .. ألف إبراهيمي كتابه "في أصل الأزمة الجزائرية: 1958 1999" والذي صدر عن مركز دراسات الوحدة العربية، وكان لهذا الكتاب صدى واسعا لدى الإعلام، خاصة أنه لم يقصر اتهاماته على الضباط السابقين في الجيش الفرنسي، بل تعداه حيث انتقد رؤساء الحكومات الذين جاءوا بعده، فاتهم سيد أحمد غزالي بمحاولة بيع بئر نفطي في الجنوب بسعر زهيد، واتهم رضا مالك بتنفيذ أوامر فرنسا، وحمل بلعيد عبد السلام مسؤولية الفساد، وقام الكتاب بترتيب قائمة بأسماء الضباط الفارّين من الجيش الفرنسي والملتحقين بجيش التّحرير عبر الحدود من 1957 إلى 1961، ذكر فيه 26 شخصا بينهم: عبّاس غزيّل، محمّد العمّاري، محمّد تواتي، أحمد بن شريف، العربي بلخير، عبد المالك قنايزية وخالد نزّار، وهذا الكتاب دفع خصومه إلى اتهامه تارة بالتعامل مع أمريكا ومرة أخرى بالتقارب مع الإسلاميين. * بومدين وقاصدي مرباح وحزب فرنسا… اتهم رئيس الحكومة الأسبق في لقائه مع قناة "الجزيرة" من سماهم ب"ضباط حزب فرنسا" بقتل كل من الرئيس الراحل هواري بومدين وقائد جهاز المخابرات العسكرية قاصدي مرباح، فقال عن الأول "لقد سمموا بومدين، دخل إليه أناس مقربون ومخربون ودسوا له السم" أما الثاني فقال "بالنسبة لاغتياله أنا متيقن أن ضباط فرنسا هم الذين قتلوا مرباح بالتأكيد"، كما اتهمهم بأغلب الاغتيالات الكبيرة في الجزائر. * الشاذلي بن جديد... يقول إبراهيمي إنه نبه الرئيس الشاذلي بن جديد يوم تعيين العربي بلخير أمينا عاما لرئاسة الجمهورية، لكن الشاذلي لم يعر اهتماما لكلامه، وكشف، في سياق آخر، أن بلعيد عبد السلام، الذي كان وزيرا للاقتصاد ورئيسا للحكومة لاحقا، تعامل مع اليهودي البلجيكي "سيمون" الذي تربطه علاقات وطيدة مع "الكارتل" الفرنسي. وأشار إلى أن عبد السلام عارض بقوة مشروع مرور الغاز الجزائري إلى أوروبا عبر تونس والمغرب، لأنهم حسب رأيه "أعداء" وفضل مرور الغاز عبر البحر. * بين نزار وإبراهيمي … لقاء إبراهيمي مع "الجزيرة" واتهام من سماهم ب"حزب ضباط فرنسا" دفع سنة 2009 وزير الدفاع الأسبق خالد نزار إلى الرد، حيث اعتبر اللواء أن سياسة إبراهيمي الكارثية هي من أوصلت البلاد إلى أحداث أكتوبر 1988، كما اتهمه بابتلاع الودائع في البنك التي تركها بومدين والتي تقدر ب 14 مليار دولار، عبر سياسة التبذير، وأن إبراهيمي أفرغ خزائن الشعب وأدخل الجزائر في نفق مظلم. لم يتأخر رد إبراهيمي، حيث دافع عن نفسه وقال "في عام 1978، أنتجت الشركات الصناعية بنسبة 40٪ فقط من طاقتها. وقد ارتفع معدل الاستخدام إلى 80٪ بين عامي 1980 و1985 لتنخفض بعد ذلك بشكل كبير إلى أقل من 20٪ بين عامي 1996 و1999″ وأضاف فيما يتعلّق بالدَّين الداخلي والخارجي (بالدينار والعملات الأجنبية) فمن هذه الشركات الوطنية قد بلغ 179 مليار دينار في عام 1978، (ما يقرب من 40 مليار دولار)، أي ضعف الإنتاج المحلي الإجمالي في نفس العام" ورد على اتهامات خالد نزار، وقام بمقارنة علمية دقيقة دافع فيها عن الخيارات الاقتصادية للشاذلي بن جديد، وهذا سباحة عكس التيار الذي يحاول تضخيم كل إنجازات بومدين وتقزيم أخطائه، بينما يقزم نفس التيار إنجازات الشاذلي ويضخم أخطائه. نورالدين ختال / نبيل.ع