في الجزء الثالث من مذكرات وزير الشؤون الخارجية الجزائري الأسبق، أحمد طالب الإبراهيمي، المعنونة ب"مذكرات جزائري" والصادرة عن "دار القصبة"، يتحدث عن جملة من الأحداث الهامة والمحورية امتدت على مدار عشرية من الزمن، بداية من وفاة الرئيس الأسبق، هواري بومدين وأزمة خلافته، ويشرح بالتفصيل كيف اهتدى صنّاع القرار في ذلك الوقت إلى الطريق الثالث الذي أتى بالعقيد الشاذلي بن جديد، رئيسا للجمهورية، وعرّج على حادثة الاعتداء على الطائرة التي كانت تقل وزير الشؤون الخارجية الأسبق، محمد الصديق بن يحيى، والإحراج الذي وقع فيه الرئيس العراقي الراحل، صدام حسين، بعد مواجهته بأدلة الاتهام وموقف الشاذلي بن جديد، قبل أن يختم الجزء الثالث من مذكراته بكشف الكثير من الأسرار والحقائق عن أحداث أكتوبر 1988. مرباح وبلوصيف وبن يلس يختارون الشاذلي رئيسا يستفيض أحمد طالب الإبراهيمي، الذي لازم الراحل هواري بومدين، كوزير مستشار ثم وزير الإعلام والثقافة، ثم وزيرا للخارجية في عهد الشاذلي بن جديد (1982/ 1988)، في الحديث عن أزمة خلافة الراحل هواري بومدين في العام 1979، وكيف تحوّل السباق لكرسي الرئاسة، إلى استقطاب حاد بين عبد العزيز بوتفليقة محمد الصالح يحياوي كاد يعصف ب "الانسجام الوطني"، بحسب القراءة التي خلص إليها ثلاثة من كبار الضباط السامين في الجيش الوطني الشعبي حسب الابراهيمي ، وهم قاصدي مرباح (رئيس الأمن العسكري في ذلك الوقت) ومصطفى بلوصيف، ورشيد بن يلّس. يقول المؤلف: "لم يساور أعضاء مجلس الثورة، أدنى شك في أن يكون لهم الدور الحاسم في تعيين خليفة الراحل هواري بومدين. وخلال الاجتماعات اليومية التي عقدوها، من بين الثمانية الذين بقوا على قيد الحياة، إثنان فقط أبانا عن رغبة في الترشح هما محمد الصالح يحياوي، الذي يدير شؤون جهاز حزب جبهة التحرير الوطني، وعبد العزيز بوتفليقة، وزير الشؤون الخارجية، الذي رافق طويلا الرئيس بومدين". وينقل نجل الشيخ البشير الإيراهيمي، في مذكراته عن العقيد قاصدي مرباح، رئيس جهاز الأمن العسكري في عهد الراحل هواري بومدين، رصده لبداية الاصطفاف خلف المرشحين المحتملين آنذاك، فيقول إن الشاذلي بن جديد وعبد الله بلهوشات، اختارا صف محمد الصالح يحياوي، في حين اختار كل من المدير العام للأمن الوطني في عهد بومدين، أحمد درايا والطيبي، أما محمد بن أحمد عبد الغني، والعقيد أحمد بن شريف (قائد الدرك الوطني)، فلم ينحازا لا لفائدة محمد الصالح يحياوي، ولا لصالح عبد العزيز بوتفليقة. وأمام فشل مجلس الثورة في بلورة موقف مشفوع بالأغلبية يدعم هذا المرشح أو ذاك، خرج ثلاثي المؤسسة العسكرية (قاصدي مرباح، مصطفى بلوصيف ورشيد بن يلّس) محذّرين من خطر الاستقطاب الذي خلّفه السباق المحموم بين محمد الصاح يحياوي، وعبد العزيز بوتفليقة نحو قصر الرئاسة، على تماسك وحدة البلاد، وكتب المؤلف: "بالنسبة للضباط الثلاثة، هذه الوضعية أصبحت مصدر خطر يتهدد البلاد ويهدد وحدة الجيش، ويزرع بذور الانقسام الجهوي والعٌصبي غير المسموح به"، وقدّروا بأن الخلاص من تلك الوضعية، يكمن في إبعاد مصدر الخطر الكامن وراء الاستقطاب الثنائي، وذلك بالتفكير في طريق ثالث يمر عبر البحث عن مرشح قادر على تحقيق الإجماع. ومن هذا المنطلق، وبمساعدة من بعض المديرين المركزيين في وزارة الدفاع الوطني، وأغلبية قادة النواحي العسكرية، في تجسيد الطريق الثالث، بمعنى إقصاء كل من محمد الصالح يحياوي، وعبد العزيز بوتفليقة، من السباق، ليهتدوا في الأخير إلى العقيد الشاذلي بن جديد، قائد الناحية العسكرية الثانية التي مقرها عاصمة الغرب وهران، باعتباره عضو مجلس الثورة، فضلا عن كونه الأقدم في الرتبة الأعلى في المؤسسة العسكرية.
الشاذلي "يستر" صدام خوفا على فلسطين من بين الملفات التي أخذت نصيبها في المذكرات، إشرافه على التحقيق في حادثة الاعتداء على الطائرة الرئاسية (Gruhman G2) التي كانت تقل وزير الشؤون الخارجية الجزائري الراحل، محمد الصديق بن يحيى، رفقة الوفد المرافق له، في الثاني من ماي 1984، والتي كانت متجهة إلى العاصمة الإيرانية طهران، في إطار جهود الوساطة التي كانت تقوم بها الجزائر بين العراق وإيران، لوقف الحرب بين هاتين الدولتين. ومعلوم أن الطائرة الرئاسية التي كانت تقل الراحل الصديق بن يحيى، اختفت مباشرة بعد إقلاعها من "مطار لارناكا" القبرصي باتجاه طهران، وكان على متنها صفوة إطارات وزارة الشؤون الخارجية، الطاقة والتجارة والنقل في ذلك الوقت. وجاء عرض هذا الملف من منطلق أن صاحب المذكرات هو الذي خلف بن يحيى، في حقيبة الخارجية بعد وفاته. فقد أمر الرئيس الشاذلي بن جديد، بفتح تحقيق في القضية أملا في التوصل إلى المتورطين في هذه الجريمة السياسية ومدبّريها، وإن كان التقرير الأولي للجنة التحقيق، يتهم السلطات العراقية بالتورط في الجريمة، بناء على احتمالين حسب المؤلف ، الأول هو أن الطائرة الجزائرية تم استهدافها من طرف سلاح الجو الإيراني، اعتقادا منه بأنها طائرة حربية عراقية، والثاني أن تكون الطائرة تم استهدافها من طرف النظام العراقي، الذي كان يعتقد أن الحرب تقترب من نهايتها ولصالحه، وبالتالي فإن نجاح الوساطة الجزائرية يعني حرمان الطرف العراقي من نصر محقق في حرب مع عدو لدود. يقول أحمد طالب الإبراهيمي: "في العاشر من أوت 1982، استقبلت من طرف الرئيس العراقي (الراحل) صدام حسين.. طرحت عليه قضية الطائرة الجزائرية، وتساؤلات الرأي العام في الجزائر، الذي لم يستسغ الاعتداء على دولة تقوم بجهود وساطة، إذ في الوقت الذي كان يجب أن تشكر على جهودها، إذا بها تضرب بوحشية باستهداف طائرة وزير خارجيتها. ثم ذكرت بأعمال لجنة التحقيق التي ارتكزت على قاعدة التحليل والبحوث التي أنجزتها"، وأضاف صاحب المذكرات أنه أبلغ الرئيس العراقي، بأن "الصاروخ الذي استهدف الطائرة الجزائرية، كان من صنع سوفياتي وقد سلّم للعراقيين، مثلما استقاه الطرف الجزائري من موسكو". ومضى أحمد طالب الإبراهيمي، يتحدث عن ردود صدام حسين قائلا: "إنها المرة الوحيدة التي أجده فيها يعبّر وهو في حالة ضعف. لقد قال إنه يقدّر موقف الجزائر، والطريقة التي أدارت بها التحقيق، وعبّر للرئيس الشاذلي بن جديد، عن استعداده السريع لإقامة لقاء بين خبراء عراقيين وجزائريين في الجزائر من أجدل تعميق نتائج التحقيق، قبل أن يشير إلى أن العراق ليست له أية مصلحة في إسقاط الطائرة الجزائرية، لأن العراق هو من طلب الوساطة الجزائرية"، مضيفا بأن صدام حسين، ختم كلامه قائلا: "إذا تأكد بأن الصاروخ كان فعلا عراقيا، تأكدوا بأن الفعل لم يكن متعمّدا. في هذه الحالة، أنا أثق في الرئيس الشاذلي في إعلان نتائج التحقيق". وعن تطورات التحقيق في هذا الملف، أفاد وزير الخارجية الأسبق، أن الرئيس الشاذلي صرح في اجتماع للمكتب السياسي للحزب في الفاتح من سبتمبر 1982، أنه من الصعوبة بمكان قول الحقيقة للشعب الجزائري في حال تأكدت فرضية استهداف الطائرة الجزائرية بالصاروخ العراقي، لأن ذلك من شأنه أن يؤدي إلى تنامي الشعور بالعداوة ضد العرب، وستكون حينها القضية الفلسطينية، والجهود الجزائرية في التوصل إلى حل عادل ونهائي لأزمة الشرق الأوسط هما المتضرران.
رفضت البقاء في حكومة تطلق الرصاص على شعبها يقول وزير الخارجية الأسبق: "عندما اندلعت أحداث أكتوبر 1988، كنت متواجدا بالولايات المتحدةالأمريكية، منذ حوالي أسبوع لأترأس الوفد الجزائري في دورة الجمعية العامة للألم المتحدة، حيث كنت سألقي كلمة باعتباري وزير خارجية.. وبعد اندلاع الأحداث، أرسلوا لي طائرة خاصة ونزلت في الثامن من أكتوبر في مطار بوفاريك، وهناك أخبروني بأن الرئيس الشاذلي في انتظاري.. كان يريد أن يعرف موقفي مما يجري..". وتابع: ".. قلت للشاذلي إنني ارفض البقاء عضوا في حكومة تعطي الأوامر للجيش بإطلاق النار على الشعب. هنا انفجر قائلا: لهذا لم أجد لا حزبا ولا حكومة ولا شرطة، الأمر الذي دفعني للاستنجاد بالجيش. عندها نصحته بالقيام بخطاب للأمة وجمع المكتب السياسي للحزب". واسترسل: "عندها قال لي الشاذلي: ماذا أقوله للشعب بعد الخطاب الذي قمت به في 19 سبتمبر؟ وما الفائدة من جمع المكتب السياسي؟، فرد طالب قائلا: "هناك طارئ نوعي جديد قد حل بعد خطابك الأول، وهو أحداث 5 أكتوبر، وعليك أن تطمئن المواطنين بأن هناك إجراءات اقتصادية وسياسية ستتخذ. وفي الواقع كانت الإصلاحات جاهزة وينتظر طرحها في المؤتمر، فضلا عن مراجعة الدستور". وأضاف: "في التاسع من اكتوبر حضرت أول اجتماع من مجموع ثلاثة اجتماعات في ظرف أربعة أيام برئاسة الشاذلي، وكان ذلك في ظل توسع الأحداث إلى مناطق أخرى من البلاد.. عندها أنشئت لجنة تتكون من أحمد طالب الإبراهيمي ورشيد بن يلس ومحمد عبد الغني، بحضور العربي بلخير لإعداد خطاب الرئيس. وكان الخطاب يتكون من شقين، الأول يشخّص أسباب الانفجار (البطالة وتدني القدرة الشرائية..)، والثاني يتمحور حول الإصلاحات التي يتعين مباشرتها على رأس الحزب والحكومة".
فرنسا وأحداث أكتوبر الصحافة الفرنسية غطت الأحداث بشكل مثير حسب الابراهيمي، وفي الأثناء صدرت تصريحات عن الرئيس الفرنسي أنذاك، فرانسوا ميتران، في اجتماع للوزراء انتقد فيه ما قال إن السلطة الجزائرية تطلق الرصاص على مواطنيها، وهو أمر رفضته السلطات الجزائرية التي قامت باستدعاء سفير فرنسابالجزائر لوزارة الخارجية وأبلغته شخصيا بأنها ترفض التدخل في الشؤون الداخلية لبلدها، كما كلفت، يقول أحمد طالب الإبراهيمي، سفير الجزائر بباريس، آيت شعلال القيام بخطوة مشابهة على مستوى وزارة الخارجية الفرنسية، ما اضطر الأمين العام لقصر الإيليزي أنذاك، هوبير فيدرين، إلى تقديم توضيحات بخصوص القضية. في 17 أكتوبر طلبت من الرئيس الشاذلي تكليف وزير خارجية بديلا عني وذلك بعد أن كلفني بمهمة إلى المغرب رفقة محمد الشريف مساعدية.. وفي الخامس من نوفمبر اجتمع الرئيس الشاذلي بالحكومة ليعلن إنهاء مهامها وتكليف قاصدي مرباح بتشكيل حكومة جديدة أعلن عنها في السابع من نوفمبر، معطيا الانطباع بأنه بات رهينة فريق جديد. ومنذ ذلك التاريخ لم أعد ألتق بالشاذلي إلا في اجتماعات اللجنة المركزية للحزب.
الصراع بين الرئاسة والجيش والحزب فجر أحداث أكتوبر ويرى أحمد طالب الإبراهيمي أن انتفاضة أكتوبر، سببها الصراع بين الرئاسة والمؤسسة العسكرية والحزب، ويقول: "أحداث الخامس من أكتوبر كانت نتيجة غياب توازن مؤسساتي بين "الأقطاب الثلاثة، التي سعت جاهدة منذ وصول الشاذلي إلى الرئاسة، إلى التعايش فيما بينها، وهي القطب الرئاسي الذي ساد في عهد الرئيس الراحل هواري بومدين، وقطب العسكر الذي هو في الواقع الأمن العسكري، والقطب البرلماني الذي كان يبحث عن موقع له في المشهد". ويتساءل المؤلف إن كان الهدف من تلك الأحداث هو التمكين للقطب العسكري، ويبدو، حسب طالب الإبراهيمي أن هذه الفرضية تأكدت بتكليف الشاذلي لقاصدي مرباح برئاسة الحكومة في السابع من نوفمبر 1988، والجنرال خالد نزار كقائد لأركان الجيش، ثم وزيرا للدفاع، فيما رآى آخرون بأن تعيين مرباح على رأس الحكومة، بحسب المؤلف هو رسالة لمنطقة القبائل التي لم تشارك في انتفاضة أكتوبر. ويعتقد وزير الخارجية الأسبق أن جناحا في السلطة كان يدفع من أجل إقامة اقتصاد ليبرالي من دون ضوابط، يقوم على تحرير قطاع الطاقة والتجارة الخارجية من سيطرة الدولة، هو الذي كان يرى أن إقصاء أحمد طالب الإبراهيمي ضروري، لأنه هو الذي أنشأ مجلس المحاسبة، ولم يتوقف يوما عن المطالبة بإرساء قواعد العدالة الاجتماعية. ويخلص صاحب المذكرات إلى نتيجة مفادها أن الهدف من أحداث أكتوبر إنما هو التخلص من الشخصيات التي كانت تؤثر أكثر من غيرها في قرارات الشاذلي بن جديد، وهي الأمين العام للحزب، محمد الشريف مساعدية، الذي خلفه عبد الحميد مهري، وأحمد طالب الإبراهيمي، الذي خلفه بوعلام بسايح، علما أن تلك الأحداث أدت أيضا إلى عزل رئيس الأمن العسكري، الجنرال مجذوب لكحل عياط، الذي خلفه الجنرال محمد بتشين، المتورط، حسب المؤلف، في تسيير الأزمة وممارسة التعذيب.