مقاربة فكرية تحلل الانشقاق وتستشرف الوحدة الدكتور أيوب سالم حماد أستاذ العلوم السياسية: جامعة الجزائر 3 [email protected] ثالثا: إرهاصات التمرد وانحصار التفرد: بصورة عامة يمكن القول أن حركة مجتمع السلم خطت خطوات هامة في تعاطيها مع العملية السياسية الجزائرية المعقدة، والمحكومة بظروفها الخاصة، وأصبحت تعد في ذلك رقما مهما في المعادلة السياسية الجزائرية، مبرزة نموذجا في التعاطي السياسي قل نظيره عند مثيلاتها من الأحزاب السياسية الإسلامية سواء على المستوى الداخلي أو الخارجي، وأكثر من ذلك فإن هذه الحركة استطاعت في ظل مرحلة رئاسة الشيخ محفوظ النحناح رحمه الله أن تجتاز كل الهزات الهيكلية الداخلية بمرونة اللاعب السياسي الحذق، الذي لا يدعي العصمة ولا ينكر وطأة التحولات، مستفيدة في ذلك من الكاريزما القوية التي طبعت شخصية الشيخ محفوظ ومن مختلف الأدوات التنظيمية والسياسية والفكرية التي طورتها الحركة لنفسها بحيث تمكنها من اجتياز أي أزمات أو اختلافات بسلاسة. وعلى الرغم من أننا يمكن أن نلتمس كثير من العوامل الموضوعية لهذه الحركة الفتية سياسيا، التي يمكن أن تثير بعضا من التوترات الهيكلية أو تبرر بعض الإخفاقات، فإنّ ما أسفر عنه الصراع في مرحلة ما بعد الشيخ النحناح رحمه الله من حدة غير مسبوقة، ومفاصلة لا تدع خطا للرجعة، وتوظيفا لملفات صادمة، يدعونا للتوقف عند جملة طويلة من التساؤلات: ماذا حدث؟ ولماذا غابت الأدوات التنظيمية والسياسية والفكرية ولم يتم تفعيلها لضبط درجة الصراع وإعادته إلى مستوى التوازن المفترض؟، هل يمكن أن نقبل فقط كما يرى بعض المحللين أن غياب زعيم بحجم النحناح قد أفقد الحركة توازنها وبالتالي الطاعة والانضباط؟! ليست حركة مجتمع السلم: الأم كما بيناه في ملاحظات سابقة، بدعا من الحركات والتنظيمات التي تستعصي على الانقسام، أو هي حالة استثنائية تعجز الأدوات العلمية عن تفسيرها، الأمر الذي يجعل من الأسئلة تنساب لدينا مشكلة صورة دراماتيكية، حاجبة أو معطلة لبعض التبشيرات و الإستشرافات التي لحظت نبل البدايات، ولغة الخطابات وأيضا الكثير من الممارسات، فهذه الحركة و بتجاوز المعنى المشار إليه هي حركة اجتماعية، تعكس ما في المجتمع من اختلافات وانقسامات، وهي صورة من صور المجتمع وإحدى تجلياته، قد تمثل تقدما في بعض جوانبه أو تأخرا في جوانب أخرى، ولا يمكن أن تشكل الاستثناء في هذا أبدا. والحقيقة في هذا الشأن أنّ الأحزاب والحركات السياسية ما وجدت إلا لكي تؤطر الصراع الاجتماعي وتنقله من إطاره العام إلى الإطار المؤسساتي لتمثيل المصالح الاجتماعية المختلفة، وعلى ذلك فالصراع داخل هذه المؤسسات هو انعكاس للصراع الاجتماعي العام، وامتداد له بشكل من الأشكال، وحركة مجتمع السلم: الأم كشأن كل الحركات والأحزاب لا يمكنها أن تشذ عن هذه القاعدة. منطق تحليلنا هذا، لا يسعى لتبرير هذا الصراع، بقدر ما هو محاولة لقراءته في إطار منطقه الاجتماعي، وهو مع ذلك يستصحب في ثناياه بعض العتب لهذه الحركة، التي توصف عادة بأنها حركة نخبة الأصل أن ينسجم لديها القول والعمل، وتستوي لها الفكرة قبل الإقدام على الحركة، فكيف يمكن أن تكون هذه الصورة من الحدة في الصراع تجليا لها!. وكيف يمكن أن تكون المسارعة للمفاصلة والانقسام – التمرد أهم صور إدارة الصراع!!.أم أن حالة القلق السياسي الذي حكم تجربة الحركة، في تعاطيها مع اللعبة السياسية الضاغطة، لم تترك مجالا لضبط الأمور في إطار توازنها المفترض…. ونحن في هذا لا نتجنى ولا ندعي ما هو خلاف للواقع، ولنتحاكم من ثمّ ّ للخطاب وللشعارات، فالخلاف لا يذهب للود قضية كما تقدم، واختلاف الأمة رحمة، ونعمل فيما اتفقنا عليه ويعذر بعضنا بعضا فيما اختلفنا فيه!، وهو ما يفتح المجال للاستفهام: لماذا فقدت هذه المرجعيات فاعليتها في لحظات الاختبار وتراجعت عن ممارسة دورها عندما استعر الصراع؟. إنّ الآليات التنظيمية أقوى من الشعارات السياسية، وإذا كانت هذه الأخيرة هي أهم عناصر التجنيد السياسي، فإنّ الأولى تُعد من أهم عناصر الضبط التنظيمي والسياسي كذلك، وبصورة عامة فإن الصراع بشكله الاستثنائي الذي سجلته هذه الحركة -الأم- ما كان ليشتد أواره لولا التراجع الخطير في منظومتها القيمية، الأمر الذي لم تصمد أمامه لا آليات الضبط ولا الشعارات السياسية. وفي رأي الباحث فإن العامل الرئيس الذي ظل يمارس دور الضابط القيمي الأقوى، يتجلى في هيمنة طبيعة المشروع الإسلامي على مجمل السلوكيات والتصرفات في كل الحركات الإسلامية، باعتباره مشروعا مستعليا على التناقضات والاختلافات ولا مكان في ظله لحظوظ النفس، فهذه الحركات هي حركات مشروع بالأساس وليست حركات تحترف السياسية كمنطلق ومبدأ وإنما السياسة جزأ من هذا المشروع قد يتضخم جانبه أو يأفل حسب ظروف تقدم المشروع ومقتضياته، ولا هي حركات شخصانية تعكس الميولات والرغبات والطموحات الشخصية وغيرها، فمكانة الشخص فيها، قائدا كان أو جندي في الصفوف الخلفية، هي بقدر قيمته المضافة التي يمثلها هذا أو ذاك لهذا المشروع، أما الأدوار التي أصبح يتضخم فعلها في كل مناسبة أو من دونها فإنها من مستلزمات الإخراج السياسي والإعلامي والدعوي وما إلى ذلك لا غير، وفي إطار ذلك فإن تفسير البعض للانشقاق بغياب الشيخ المحفوظ رحمه الله فقط، أمر لا يمكن التسليم به إلا إذا اعتبرنا أن الشيخ النحناح لم يكن لا قائدا ولا زعيما وإنما دكتاتورا!. ربما مثلت هيمنة المشروع الإسلامي وكاريزما الشيخ أهم العوامل في حفظ هذه الحركة، وغيرها من حالات الانشقاق والتمرد على الرغم من تهيأ الظروف المواتية في ظل المراحل الانتقالية التي مرت وتمر بها الجزائر في رحلة بحثها عن الاستقرار، والتي فرضت على الحركة التعامل معها بمنطق المجاراة غير المؤسس على منهج فكري رصين، وقد أدى ذلك بالفعل إلى حالات من التبرم، وإنْ لم تنضج كحالات انشقاق، وانسحب أصحابها من المشهد أمثال السعيد مرسي وبوجمعة عياد وغيرهما، تاركين الفرصة لتقدم قيادات أخرى، دون أن يثروا لغطا إعلاميا يخدش في مشروعهم الذي آمنوا به وناصروه، فتجاوزت الحركة بالتالي بعض الهزات التي تعرضت لها بمنطق لا لهيمنة الأشخاص نعم لهيمنة المشروع، وبأخلاقيات تنتصر للمشروع دون أن تطعن فيه أو تثير اللغط، ولكن الأكيد أن معطيات الصراع وتحولاته فيما بعد تكشف عن عوامل جوهرية أدت إلى هذا الوضع البائس تتجاوز هذه الهيمنة وهذه الأخلاقيات. يتبع….