الدكتور أيوب سالم حماد أستاذ العلوم السياسية: جامعة الجزائر 3 [email protected] * ب: القيادات: حراس المعبد ورموز التمرد نشط الصراع في داخل الحركة الأم: مجتمع السلم، ثلة من قيادييها، الذين صاروا رموزا سياسية مهمة، ونجوما لهم حضور إعلامي واسع، ومن أجل ذلك وجب استدعاء متغير القيادة في تحليل الانشقاق داخل هذه الحركة، خاصة وقد تبين لنا بين ثنايا التحليل في الفقرات السابقة، الحضور القوي للبعد الشخصي في تنشيط مشهد الصراع، الذي لم يكن بشكل من الأشكال صراعا أفقيا انسحب منذ البداية إلى مستوى القواعد وإنما كان صراع رأسيا مس بشكل أساسي الرموز القيادية، مما يشير إلى احتمال اصطباغ المواقف المختلفة بالأبعاد الشخصية والذاتية، ولذلك فإن غاية هذا العنصر هو الوقوف على هذا البعد الذي غذى الصراع في محطاته المختلفة. لقد تأكد لنا ضمن الجزئيات السابقة أن مظاهر شخصنة الصراع جد متجلية في تطورات الحركة الأم: مجتمع السلم، وذلك بدءا من شخصية الشيخ محفوظ النحناح الكارزماتية، التي غطت على الصراع الكامن في هيكل الحركة، ولم تسمح بمعالجة كثير من جوانب القصور فيه، التي لو تم معالجتها في حينها لما تفاقمت وأدت إلى هذه الصور الصارخة من الانشقاق والتمرد في نهاية المطاف، ومرورا بالتفاعل مع العملية السياسية التي فرضت على الحركة إبراز البعد الشخصي في الصراع السياسي العام، من خلال تمثل مشهد الصقور والحمائم في اللعبة القائمة، فانقسمت القيادة موضوعيا بالتالي إلى فريقين: فريق العمل مع السلطة تحت سقف المشاركة وفريق الابتعاد عن السلطة تحت سقف الممانعة ثم بعد ذلك المعارضة، وما لبثت أن غذت التطورات ضمن أبعاد شخصية واضحة هذا الانقسام، وجعلت منه حالة قائمة من الصعب تجاوزها، كما كان لهيكلة الحركة ضمن أبعاد شخصانية دورا حاسما في هذا الشأن، فجاءت مرحلة ما بعد الشيخ محفوظ رحمه الله عاكسة لهذا الواقع، من خلال قيادة جماعية محورية متصارعة وممثلة في الهيكل التنظيمي للحركة، من خلال المجالس المختلفة، بل لا نغالي إذا قلنا أن بعض المؤسسات- شباب مجتمع السلم (شمس) وجيل الترجيح- التي أنشأت داخل الحركة ضمن خطوط متوازية للهيكل الأساسي كما أشرنا سلفا، وببعد تنظيمي مركزي واضح، كان لها دور كبير في تجلي الصراع في مشاهد مختلفة، وضمن هذه الحدود يمكن أن نتوقف بالتحليل عند ثلاث من أهم الشخصيات الفاعلة في مشهد الانشقاق والتمرد، بحثا عن مجموعة العوامل الشخصية التي دفعت بالمشهد إلى حدود المفاصلة، غاضين الطرف بذلك عن الأبعاد الذاتية، التي لا تتوفر بشأنها بيانات أو اعترافات قد تشكل لدى الباحث أساسا أو منطلقا لإثراء البحث والتحليل، وهم كل من المراقب العام الشيخ مصطفى بلمهدي باعتبار رئاسته لحركة البناء الوطني، والشيخ أبوجرة سلطاني باعتباره رئيسا سابقا لحركة مجتمع السلم جرى الاختلاف بشأنه ومعه وشكل علامة دالة في مشهد الانشقاق، إضافة إلى الدكتور عبد الرزاق مقري باعتباره الرئيس الحالي لحركة مجتمع السلم: ما بعد الانشقاق. * المراقب العام الشيخ مصطفى بلمهدي: بصفته التي يمثلها على مستوى حركته البناء الوطني ضمن بعدها الإخواني، يكون الشيخ مصطفى بلمهدي أرفع شخصية بين الشخصيات التي سنتناولها، فهو رئيس الحركة والمراقب العام، ويعتبر الشيخ مصطفى أو عمي مصطفى كما يحلو لمقربيه أن ينادوه، أحد الوجوه التاريخية لحركة الإخوان المسلمين في الجزائر، فهو أحد المؤسسين الثلاثة للحركة، إلى جانب كل من الشيخ محفوظ نحناح رحمه الله والشهيد الذبيح الشيخ محمد بو سليماني، وعضو مكتب الحركة الوطني في عهد السرية، والملاحظ أن عمي مصطفى لم يكن له بروز سياسي أو إعلامي أو ربما دعوي كبير في مستوى الحضور الذي سجله كل من الشيخين النحناح وبوسليماني، ولكنه مع ذلك ظل يحظى باحترام كبير بين أبناء الحركة باعتباره من أهل السبق والتأسيس، ولكن مشهد الصراع الذي برز في الحركة دفع به إلى ساحة المشهد، على مستوى هيئة المؤسسين، الذي كان في وقت من الأوقات رئيسا لها. في مسيرته الوظيفية شغل عمي مصطفى وظيفة مدير مدرسة، وهو جانب قد يشير إلى تطبعه بسلوكيات إدارية مهمة، تنشد الانضباط والحرص على تحقيق النتائج، وفقا للمقررات المرسومة، وهو جانب لا يعزز لدينا كثيرا التوجهات التي عبر عنها بعد مؤتمر الحركة الرابع، كقائد لفصيل الانشقاق الأول في الحركة، إلا إذا استدعينا مسارا آخر شكل أساسا لمدركاته العامة، فقد اشتغل عمي مصطفى بمهنة التجارة مما يجعل من منسوب روح المخاطرة والمغامرة لديه كبير، فربما يكون ذلك قد عزز لديه روح الانضباط والحرص على النتائج، وهي اللغة التي نطق بها بيان التأسيس لحركة الدعوة والتغيير، ولكن عمي مصطفى كما أسلفنا يتمتع برمزية كبيرة داخل الحركة الأم، هل يمكن أن يفرط في هذا الرصيد ويتنكر للحركة التي أسسها بمعية الشيخين محفوظ وبوسليماني- رحمهما الله- ؟، فكان ينبغي أن تنتصر لديه روح الانضباط على روح المغامرة من هذا المنطلق، ولكن ألم يكن الظرف الذي جرى فيه الصراع قد استدعى شخصية بمثل مواصفات الشيخ مصطفى لكي تقود فريق التغيير في مرحلة لا حقة من تطوره، خاصة إذا علمنا أن هذا الفريق في بدايات تشكله كان يعاني من فقدان شخصيات ثقيلة بين صفوفه، ولم تتعزز حظوظه في الصراع إلا بعد استمالة هيئة المؤسسين لصالحه قبل المؤتمر الرابع بأيام قليلة؟. وبهذا يمكن القول أن شخصية الشيخ مصطفى، وبحكم تكوينها، شكلت محورا أساسيا إلتف حولها نوعين من القيادة التي بادرت بخطوة الانشقاق الأولى، يتعلق النوع الأول بأولئك القادة الذين شكلوا فريق التغيير منذ البداية، والذين يمكن اعتبارهم بأنهم ذوو شخصيات مغامرة انسجاما مع أحد جوانب شخصية عمي مصطفى، وهم في مجملهم أولئك الذين تربوا على هذا الجانب ضمن التوجهات السياسية للحركة الأم: مجتمع السلم، وذلك حينما رمى بهم الشيخ نحناح رحمه الله، في أتون اللعبة السياسية، ليمثلوا بذلك أحد أجنحتها المعروفة بالحمائم مقابل الصقور، فتشكلت مدركاتهم السياسية ضمن هذا المنطق المبني على روح المغامرة وعلى ما تفرزه اللعبة السياسية وتحولاتها، أما النوع الثاني والذي يعكس الجانب الثاني من شخصية عمي مصطفى الانضباطية، فيتعلق بأولئك القادة الذين كانوا حريصين ضمن تحولات الصراع الداخلي ومعطياته، على عدم خروج الحركة على المنهج والقواعد الأساسية التي بنيت عليها منذ البداية وضمن خطوط مرجعيتها الأساسية، والذين يتشكل أغلبهم من هيئة المؤسسين. قد تحظى الملامح الشخصية التي أوردناها فيما سلف بالاعتبار أو قد لا تحظى، ضمن منطق تحليلي أردنا التوقف عند ما يسجله من مؤشرات دالة على تكون شخصية عمي مصطفى، ولكن الأكيد أن استصحابها في الصورة الذهنية التي ننظر من خلالها إلى تطور مشهد التمرد والانشقاق، قد يمدنا بعناصر تحليل إضافية تؤكد لنا الفرضية العامة التي انطلق منها التحليل، وهي حضور البعد الشخصي بقوة في هذا المشهد. وفي إطار هذه الأبعاد لشخصية عمي مصطفى جاءت المواقف والآراء منسجمة، بين ضوابط الإلزام وتبرير المغامرة التي بادرت بها جماعة الدعوة والتغيير، وهكذا يبرز موقفه من الأفكار التي تدعو للصلح مع الإخوة في حمس، بتأكيده أنه ليس ضد عمل الخير أيّا كان مصدره، غير أن لأعمال الخير فرائض ونوافل والفرائض لها أوقات معينة، فهي محكومة بعامل الوقت وهناك الوقت الضروري والوقت الاختياري ثم تخرج الفرائض إلى مرحلة القضاء، وهو علامة على تضييع واجب الوقت في وقته، وهكذا فإن عملية الصلح كان لها وقت محدد وطويل استمر سنة بأكملها وقام به علماء أجلاء وساسة كبار، قوبلت تلك العملية بالصد والجمود والرفض مما جعلها تفقد معناها الحقيقي في الإصلاح، وبذلك لم تعد الجهود المخلصة للإصلاح تقود إلى عملية الصلح وتوحيد الطرفين إن لم نقل أطراف الخلاف في موروث الشيخ محفوظ نحناح. أما أسباب الانشقاق، فيحصرها في الانحراف عن منهج الشيخ محفوظ نحناح رحمه الله، والذي كان مبنيا على أساس تقديم المصلحة الوطنية على غيرها وتقديم المصلحة العامة على المصلحة الشخصية وخدمة المجتمع وأخلقة عمليات التغيير بالأخلاق الإسلامية، ومن جهة ثانية فإن الابتعاد عن منهج الشيخ وتضييع المرجعية التي تركها ودخول التنافس الشديد بين عناصر التنظيم على القضايا والمسؤوليات والمناصب والحرص على الدنيا، كل ذلك أدى إلى حصول هذه التصدعات التي تحولت إلى انقسامات وتشققات تنظيمية، كما أن ظهور حالات انحراف عن العوامل الموحدة أدى أيضا إلى هذا الانشقاق، والأمثلة في ذلك كثيرة منها: تهميش دور القيم في حل المشاكل وخلق تحالفات على أساس جغرافي ومصلحي وشخصي لتأطير عملية التحكم في الحركة أدى أيضا إلى مثل هذه الانشقاقات، حيث لم تعرف الحركة في السابق مثل هذه الأخلاق التي من خلالها يتقاسم مجموعة من الناس مناصب الحركة عبر تحالف بين ولايات قبل إقامة المؤتمر مثلا. ويرفض عمي مصطفى، وصف المبادرة بتأسيس حركة الدعوة والتغيير بأنها انشقاق، ويرى الانشقاق الحقيقي هو الانشقاق عن المنهج وعن مرجعية الشيخ محفوظ نحناح وعدم الوفاء بالعهود والمواثيق، وأما الابتعاد عن نافخ الكير فسنة نبوية محمودة، ولما رأينا خطرا حقيقيا يتهدد الدعوة فكرا ومنهجا وتنظيما وأساليب تربوية وتأكدنا حصول الانفصال بين الشكل والمنهج اخترن الانحياز إلى الروح بدل الجسم، واخترنا المنهج بدل الهيكل. ولا ينفي الشيخ بلمهدي من أن يكون واجهة تختفي وراءها قيادات أضمرت الانشقاق منذ البداية، بل يؤكد أنه أحب إليه أن يكون واجهة لأهل الخير، فهذا يحمله مسؤولية أن يكون قدوة في الخير أمامهم، وخير له أن يكون تابعا في الحق من أن يكون رأسا في الباطل، فالجندية هي الأصل والقيادة انتقالية، فالأولى تضحية والثانية خزي وندامة إذا لم تؤد بأمانة. أما عن سبب تأخير البيان عن وقت الحاجة والسكوت عن الانحراف التربوي والمنهجي في أوقات سابقة من عمر الحركة الأم: مجتمع السلم فيؤكد على سعيه لإصلاح البيت من الداخل ولكن لايصلح البنيان إذا كان غيرك يهدم وكان انتظار محطة المؤتمر باعتبارها وسيلة تربوية، إلا أن غيرنا كما يؤكد حولها إلى وسيلة للكسر ولي أذرع إخوانه، ومع ذلك قد كان التنازل في المؤتمر من طرف إخوان الدعوة والتغيير وليس من الطرف الآخر، ونحن لم نعد نرى إمكانية للإصلاح من الداخل ولسنا نعبد هيكل البيت بل نعبد رب البيت، ونحن روح يسري في كيان الأمة وعندما تفارق هذه الروح أي جسم فلا حياة له. وبخصوص أن تكون خطوة الانشقاق تأسيس لمنهج شرعنة الجيوب والخروج عن الجماعة، فيؤكد إذا كان هناك انحرف لا قدر الله فمن حق الناس أن يقوموننا لأن ذلك هو سنة إصلاحية نبوية وصمام الأمان في موضوع الانشقاقات هو الآخية التي يرتبط بها المؤمن عبر مرجعيته الفكرية والحركية الدعوية، وقد شرعنًا بالإصلاح والارتباط بالمنهج والاعتصام بالطاعة ومفارقة المنشقين عن مرجعية الشيخ محفوظ نحناح. يتبع…