يسين بوغازي سادسا: سولافاجا مشرقيا وأغنية جزائرية؟ الأغنية الجزائرية تلك التي كانت نموذجا غنائيا معتمدا غداة الستينيات برموز وأسماء وبنية موسيقاها التي كانت شديدة الميل إلى الشرقيات حتى لا أقول المصريات؟، ولعلها كانت توازنات الغداة، لكنها في الحقيقة كانت في أغنية عقود ما قبل الستينيات. ففي تلك الفترة برز مصطلح أضحى مشهورا، ولعل الموسيقار ʺمعطي بشيرʺ كان حامل لوائه وفق ما كان يراه، وكان بسلطات مقتدرة في التلفزيون والإذاعة الجزائريتين، وكان لا يخترق بوابتهما سوى الذي ترضى به تلك الأغنية الجزائرية؟. وهي أغنية أعلت الشاعرية الجزائرية بموروثاتها وشعرها الملحون، وكانت في الكثير من تجلياتها الغنائية تليق بتسمية أغنية جزائرية، ومشكلتها كانت أنها محاصرة ذاتيا غداة وقبيل الستينيات في اعتمادها سولافاجا مشرقيا حصريا؟، فقد أحيطت بهالة من الأخلاقيات المفروضة من الأعلى؟، وهي الأسباب ذاتها التي جعلتها في متناول ʺالرايʺ، والذي وجدها منافسا سهلا مُقيدا بمحاذير أخلاقية ومحددات أخرى من الطابو وحتى الرمزيات المسيّسة تتجنبها، فيما الأغنية الرايوية أسقطت كل شيء، فأضحى معبدا للغناء تحت قصف الجرأة شعرا وتلحينا. ما مكّنه في زمن وجيز رغم الدوامات الإنتاجية والمحاذير الأخرى التي كان فيه أن يتجاوزها بسنوات ضوئية، وأن استجلابه إبداعيا كان لافتا فأضحى قضية غنائية بإسقاطات أخرى مما ساعده أكثر. ولعل الأغنية الجزائرية كانت تقدم للشعب برمته، فلم تتمكن من الانتشار جيدا لمنافسين كثر لعله الخصوصية الغنائية كانت عاملا حاسما، فالشعبي للعاصمين والمالوف للقسنطنيين والقبائلي للقبائل، والشاوي والسطايفي وكل الأنماط الأخرى. وفي هذه الفراغات كلها مجتمعة دخلʺ الرايʺ بهالة من الإبهار، وتمكن من أن يثبث إبهاره، فأرضى الجميع دون أن يطلب التنازل على خصوصياتهم الغنائية الأخرى، ولكن لماذا ʺالرايʺ تمكن من هزيمة الجميع، أو بالأصح نال قبولهم باختلافات مناطقية وثقافية وعرقية؟، وتحديدا تلك التي كانت تعرف بالأغنية الجزائرية، وهو مصطلح وضعه الموسيقار ʺمعطي بشيرʺ لم تستطع أغنيته الوقوف لا في جماليات بنائها، وأدائها وتقديمها، ولا في سرعة انتشارها محليا وعالميا، ولا في تناولاتها الموضوعاتية، ولا في الأهم الانفتاحية على موسيقى العالم، فقد ظلت أغنية معطي بشير حبيسة السولافاج المشرقي، ولنا عودة تفصيلية في كتابة تالية. وما ذكر كله مكّن ʺالرايʺ من الصعود بعزيمة وجرأة هذا بزخم الأغنية الجزائرية والأشكال الأخرى التي حاولت المنافسة فلم تستطع، هي إذن محاذير عامة أسقطها ʺالراي ʺ فنال المجد، وكأنه علم بطبائع ناسه وبنزوات أيامهم. ظل "الراي" موسيقى شغوفة تطل على شرفات العالم، فيما اكتفت الأغنية الجزائرية بالوجود، ظل بما يحمله من جرأة وبهالة محلية هي في الأصل العالمية بذاتها، فتراسل في ظلال الهامش وبشاعرية طاغية يومية، وموسيقاه بدت جديدة متجددة للمحبة والسلام، ففي في كل مرة يعتلي صهوات الحداثة، فلا يقبل البقاء قيد منظور أحادي كما كان منافسوه، أغنية يتغشاها جموح للتحرر بالأداء والتعبير برغبات الانعتاق الفائضة من نصوصه والمتفجرة بنوتاته، التي أخذت تتأصل شيئا فشيئا، فبقدر استغرابه كان يتأصل في كل مكان. وما يزال قسم شيوخه وشيخاته وشبابه الأقدمين والحاليين يقولونه باستذكار، لكنه كلما سنحت فرصة لإبداء الإعجاب بما يفعلون؟، وسنقترب في هذه الكتابة من تفاصيله وحكاياه، وعمل أهله أن يصير ما صار، أسطورة عالمية، جزائرية الوجه، إنسانية. "الراي" الذي بدأ في بادية الغرب الجزائري محتشما خجولا منبوذا، وأضحى موسيقى مكتملة البنيان يجلس على تراثية شعبه بأسمائه وملوكه وأمرائه ونجومه وشبابه، هم يزحفون جميعا في استماتة تراثية بملحونʺ مصطفى بن ابراهيمʺ و غيره، مبهرين نحو الأعلى رغم طعنات كانت وجروح وبقايا جروح طعنات ما تزال. وقف "الراي" طوال مسيرته وكأنه مقاوما بأغنيته الجريحة ومتمسكا بها، وكأنه يعلم أن التنازل عن جرأة قوله الأول الملحون المغنى، والذي ما يزال يسمى بالأغنية البدوية التي أضحت معه كيانا غنائيا آخر مكتملا، وأن أبواب ʺالرايʺ المفتوحة على بحر الموسيقى كل الموسيقى، وانخراطاته الجريئة وبرغماتيته في الاستفادة من جميع التيارات الموسيقية المتاحة، جديدها وقديمها، وتوظيفه لتكنولوجيات صناعة الآلات الموسيقية العصرية بسرعة وإبداع؟، وكأنه يعلم أن غده الغنائي سيحسم رفقة تلك الآلات العصرية؟، كل هذا ساعده على وقوفه وانتصاراته. باختصار قلنا هذا الجزء علىʺالرايʺ ابن البادية وصبي أغنيتها الأصيلة المغضوب عليه، نشأ في السرية والهامش بين المنبوذين والنوادي الليلية، وحمله أول ما حمله شعر شعبي ملحون بشقه الذي لطالما وصف بالماجن، منذ أواخر القرن التاسع برز ملحون شبقي، ويكون ʺالرايʺ قد استعار منه جرأته وقوله الجارح؟، واستمر مدعوما وشيخاته ومن تلا، صبي الأغنية البدوية لم يكن متصور أنه سيتجاوز الجميع صوب العالمية، بعدما استلمه من استلمه؟، ليستمر كذلك في فضاءاته الخلفية منذ الأربعينيات إلى نهاية السبعينيات، أين بدا صناعة موسيقية رايوية رفعت وجها مغايرا هنالك على الساحل الوهراني والغرب برمته، لتأتي أسماء أصبحت نجوما فملوكا وأمراء في مضماره. وفي الخضم ومنذ البداية كانت حروب معلنة وأخرى سرية تحاك ضده، وفي صراعه الأبدي الذي ما يزال لتاريخ هذه الكتابة رغم أنه أضحى متخفيا لصلابة ʺالرايʺ وقوته الثقافية، وللواقعيات الكثيرة في الموسيقى والغناء أقحمت الجميع. ربما بتواطئ غرباء، فالشركات المتعددة الجنسيات التي تفطنت له و حملته أغنية للعالم، لعبت في وهج سطوته الكثير، لكنه بقي ʺ الرايʺ وكأنه مقاوما لهم جميعا.