بقلم الدكتور قادة جليد أستاذ جامعي وباحث أكاديمي معسكر يتفق جميع الباحثين والمؤرخين على الخصوص، أن طبيعة الموضوع هي التي تحدد نوعية المنهج، وبالتالي يصبح المنهج هو الأداة النظرية والإجرائية لمقاربة الحقيقة التاريخية واستشراف مسارها في الحاضر والمستقبل، وبناء على ذلك فإن مقاربة التاريخ الجزائري من منظور منهج الأزمة له ما يبرره من الناحية الواقعية والتاريخية، إذ يبدو لنا أن التاريخ الجزائري العام منذ القديم وإلى اليوم تاريخ مثقل بالأزمات والتقلبات، حتى أن الأزمة كحادثة تاريخية متعينة وتعبير عن واقع حي يمكن تأصيلها نظريا حتى ترقى إلى مستوى المفهوم أو المقولة، أو على الأقل يمكننا استعمالها كأداة استكشافية لدراسة تقلبات هذا التاريخ وتحليل مساراته وتقييم صيرورته وتمظهراته في الواقع التاريخي. إن هذا العمل وهذه المحاولة تطمح للإسهام في بعث النقاش وتجديده على مستوى آليات الخطاب التاريخي وتجديد الفكر التاريخي الجزائري لتدشين مرحلة جديدة في معرفة الذات لأن القراءة الواعية والمتجددة لذاتنا الجماعية كأمة ومجتمع وبروح نقدية موضوعية بعيدا عن النرجسية وتضخم الذات هو الدعامة الحقيقية لإغناء هذه الذات وتحريرها من القيود والشوائب التي تكبلها من الأفكار الميتة والممميتة في نفس الوقت وتعطيها الضمانات النظرية والعملية للدخول من جديد في معركة التاريخ والحضارة "ومن ثمة فإن معرفتنا بأنفسنا، بمواطن ضعفنا وخانات قوتنا يمثل الشرط الأساسي الذي يجب توفره من أجل نجاح أية محاولة تسعى إلى تحقيق التطور المنشود، لقد شهدت الجزائر عبر مسارها التاريخي الممتد سلسلة كبيرة من الأحداث الجسيمة والوقائع الخطيرة، لكنها لم تعرف بالمقابل قراءات رصينة قادرة على تحويل ألم المعاناة إلى إشراق معرفي يضيء عتمة الدروب الملتوية وكأنه قدر لنا أن نبقى مسرحا فسيحا لعبث التاريخ وحسابات الأقوياء" وأعتقد أن هناك الكثير من الأسئلة التي يجب طرحها والتي تنير طريق أي باحث في هذا الموضوع، أي مقاربة التاريخ من خلال منهج الأزمة ويبدو السؤال العام هو الذي يشير إلينا قبل أن نشير إليه: ألا تبدو الأزمة مظهرا صميميا من مظاهر الوجود البشري؟ كيف كان لمختلف الأزمات التي عرفها المجتمع الجزائري منذ أصوله القديمة إلى غاية اليوم أن تحدد مصائره وتوجهاته الكبرى في التاريخ؟ ما هي المدلولات التاريخية لمفهوم الأزمة كواقعة تحدد التاريخ وتنتجه؟ كيف يمكن الانتقال بالأزمة من مجرد الوضعية الوقائعية المباشرة إلى الوضعية المفهومية، ومن ثمة الوصول إلى تأسيس منهجي لمقولة الأزمة؟ إننا من خلال هذا الطرح، ومن هذه المقاربة، نريد أن ننتقل بالأزمة من المستوى الوقائعي المباشر إلى المستوى النظري المفاهيمي، أي أننا نقوم بتأسيس نظري للأزمة لتتحول إلى مفهوم مفتاحي (Concept clè) وبحيث يصبح التاريخ الجزائري في حركته وإندفاعه وكل الظواهر الاجتماعية المرتبطة به في إطار هذا المنظور المنهجي المعرفي ظواهرا قابلة للفحص والتحليل النظري المنظم، إننا في هذا السياق المعرفي نقوم بمحاولة لتعقيل ظاهرة الأزمة في التاريخ الجزائري حتى نصل إلى استنباط القوانين والآليات التي تحكمها والعلامات والمظاهر التي تدل عليها، ولما كان الإطار المنهجي والموضوعي لدراستنا لا يسمح لنا بتتبع حركة التاريخ الجزائري منذ القديم وإلى اليوم من خلال مقولة الأزمة، فإننا سوف نشير ونركز على سبيل المثال لا الحصر على أهم حلقات هذا التاريخ دون أن ننسى الأزمة الجزائرية المعاصرة وإنعكاساتها على مستقبل المجتمع الجزائري بصفة خاصة. وقبل البدء في تحليل الموضوع لا بد من مواجهة بعض الأسئلة المفتاحية مثل: ما هي الأزمة؟ وما هي آليات تمظهراتها في الواقع؟ هل الأزمة قيمة سلبية من حيث الجوهر والشكل؟ ألا يمكن للأزمة أن تؤدي دورا إيجابيا في تاريخ الشعوب ومساراتها الحاسمة؟ هل يمكن القول إن الشعوب التي تتقدم هي نفسها التي تتعلم من أزماتها باستمرار؟ وأخيرا وليس آخرا هل الأزمة الجزائرية المعاصرة أزمة لازمة، أي أنها أزمة شاملة يصعب أو يستحيل الخروج منها، أم أنها أزمة مؤقتة وظرفية مرتبطة بظروف هي الآن في إطار الحل والتجاوز؟ إنني أعتقد، ومن وجهة نظر علمية، أن هذه الأسئلة ضرورية حتى نصل إلى جواب علمي مقنع لأن المعرفة العلمية هي جواب على سؤال وحيث لا سؤال فلا وجود لمعرفة علمية كما يقول فلاسفة العلم، وقبل التطرق إلى تمظهرات الأزمة في التاريخ الجزائري لابد أن نتساءل ابتداء: ما هي الأزمة؟ وهل تسمع قوانين الأزمة بإصلاح الأعطاب والمطبات التي تسببها وتنتجها داخل نظام إجتماعي ما؟ إن الأزمة "هي اللحظة التي يتعرض فيها نظام ما طبيعي أو إجتماعي أو فكري- إلى عطب ينجم عنه اضطراب وظيفي في آلية اشتغاله، بحيث لا يعود في وسع دورته الطبيعية أن تعمل على النحو الذي استقر عليه أمرها في السابق" فالأزمة هي لحظة توتر (Tension) بل عطل في درجة الذروة في مسار معين ضمن قطاع أو فضاء معين بدوره قد يكون الفضاء المعرفي (أزمة معرفية) أو الفضاء الاجتماعي (أزمة اجتماعية) أو الفضاء الاقتصادي (أزمة اقتصادية) وهكذا… وبالتالي فإن تضافر مجموعة من الأزمات التي لا تجد حلا لها لا بد أن يؤدي لا محالة إلى حالة التدهور العام(l'état de décadence) أي تفكك مفاصل النظام أو المنظومة التي ولدت داخلها الأزمة/ الأزمات لأن من أهم قوانين الأزمة أن: (كل أزمة غير محلولة في قطاع محدد تستثير أزمة في قطاع مجاور) )chaque crise nom résolue dans un espace donné, En déclanche une autre dans l'espace de voisinage) على أن حصول الأزمة في نظام ما ليس مفضيا بالضرورة وفي كل الأحوال إلى إصابة ذلك النظام بالشلل، وليس مدعاة للاعتقاد بأن تجاوزه ممتنع بغير إحداث قطيعة شاملة مع ذلك النظام وتأسيس آخر بديلا عنه فالأمر فيها "متعلق بدرجة الأزمة أو بمستوى مفعول العطب وبالتالي بمدى إمكانية معالجته، وهذا ما يعني أن إصلاح أو تجديد ذلك النظام المأزوم ممكن متى وقفت أعطابه عند الحدود التي لا تلتغي معها إمكانيات تفعيله من الداخل". ولكن المجتمع، أي مجتمع في التاريخ لا يمكنه معالجة أزماته إذا لم يكن له وعي بهذه الأزمات، وإذا لم يكن له وعي موضوعي بذاته وبالصعوبات والرهانات التي تواجهه وثقل التاريخ الذي يجره وراءه ويضغط عليه في نفس الوقت، إن إحصاء الأزمات داخل هذا السجل التاريخي لا شك أنها مهمة شاقة دون شك ولكنها ضرورية حتى لا تنطبق علينا مقولة الفيلسوف الألماني هيجل القائلة (إن كل ما نتعلمه من درس التاريخ هو أنه لا أحد تعلم من التاريخ). وانطلاقا من هذا المفهوم النظري لمقولة الأزمة يمكننا القول بالفعل أن تاريخ الجزائر تاريخ أزمات التي كان المجتمع الجزائري يجد نفسه في مواجهتها باستمرار فالأزمة تعتبر مقولة أساسية لتحقيق وعي تحليلي ومنهجي للتاريخ الجزائري فهي بمثابة الثابت التاريخي (constante historique) الذي يلازمه ولا يمكن تعريف التاريخ الجزائري إلا به، إن هذا الإفتراض، بل إن هذا التشخيص هو تشخيص منهجي إذا أردنا فعلا أن نفهم معنى التاريخ ونبرز معقوليته، وإذا أردنا كذلك أن نستشرق المستقبل الذي نذهب إليه لأن "الضوء الذي ينير طريق المؤرخ في أقصى ما يتناول من أبعاد الماضي هو ضوء الاهتمام بالمستقبل". إن البحث عن معنى التاريخ وأهدافه ومآلاته وكل الأسئلة الأخرى ذات الإرتباط تصب كلها في بحر فلسفة التاريخ "فمعنى التاريخ تابع للفلسفة التي بواسطتها نسأله". إن التاريخ هو روح الأمة وخلاصتها كما يرى المؤرخ والفيلسوف الألماني هيجل، فالتاريخ هو صيرورة زمانية وكل مجتمع بالتالي هو نتاج التاريخ، ولأن الإنسان لا يعرف ما هو كائنه الآن دون أن يعرف في الوقت نفسه ما كانه من قبل وما سوف يكونه في المستقبل. لقد عرف التاريخ الجزائري لحظات مختلفة من خلال إلتقائه تاريخيا بشعوب متباينة، هذه اللحظات كان لها دورها في الكشف عن طبيعة الإنسان الجزائري وكان لها دورها أيضا في تفعيل وتوجيه هذا التاريخ. إننا نعتقد أن دراسة التاريخ الجزائري بمراحله المختلفة انطلاقا من مفهوم الأزمة هو في حد ذاته محاولة جادة لاستنطاق هذا التاريخ واستنباط المعنى الذي يحمله، إن الأزمة في التاريخ قد تكون تحديا داخليا كالحرب الأهلية أو تحديا خارجيا كالغزو والإستعمار لذلك يجب التركيز ومن وجهة نظرنا على المحطات الأساسية التي عرف فيها التاريخ الجزائري توترا في صورة هذا الشكل أو ذاك وأقصد من ذلك (1- التحدي الروماني، 2- التحدي الوندالي، 3- التحدي البيزنطي، 4- التحدي التركي، 5- التحدي الفرنسي، 6- التحدي الداخلي (الأزمة الجزائرية المعاصرة) وهذا دون أن ننسى مرحلة الفتح الإسلامي بإعتبارها تحديا نوعيا حيث يرى الدكتور عمار بوحوش "أن سكان شمال إفريقيا كانوا في حروب مستمرة مع الغزاة الأجانب ولم يتغير هذا الوضع إلا بعد انتشار الإسلام في هذه المنطقة وحسب شهادات بعض المؤرخين الأوروبيين فإن البربر قد خسروا في حروبهم مع البيزنطيين في منتصف القرن السادس للميلاد خمسة ملايين من الأنفس وعندما جاءت الديانة الإسلامية عقب هذه الحروب المدمرة مع الأوروبيين خلقت المحبة والمودة بين العرب والبربر بحيث امتزج واختلط العرب والبربر بسرعة تضاهي سرعة الفتوحات الإسلامية" ذلك أن الفتح الإسلامي لشمال إفريقيا عموما وللمغرب الأوسط خصوصا كانت له آثاره التاريخية المعروفة في إعادة تشكيل الروح الجزائرية تشكيلا حضاريا متميزا، لقد أعطى الحادث الإسلامي للمجتمع الجزائري رسالة في الحياة رسمت له وجهة جديدة في التاريخ، ولكنها جعلته يعرف نوعا جديدا من الأزمات والمشكلات، لذلك فإننا نؤكد الأهمية المنهجية لفحص آثار ومفعولات الدين الإسلامي في التماسك الاجتماعي والثقافي ومن ثمة في تجاوز الأزمات الداخلية لأن نفسية وعقلية الإنسان الجزائري تؤطرهما القيم الدينية والإسلامية، يضاف إلى ذلك أن الكثيرا من الأزمات أو الفتن التي شهدتها الجزائر منذ الفتح الإسلامي كان للعامل الديني فيها دور ملحوظ سلبا أو إيجابا وخير دليل على ذلك الأزمة المذهبية الدامية في ولاية غرداية بين الاباضيين والمالكيين التي أخذت منعرجا خطيرا واستبيحت فيها جميع المقدسات، وفي ختام هذه الملاحظات الأولية يمكننا أن نقول أن القراءة الباردة للتاريخ أي ما كنا عليه من قبل تعطينا صورة حقيقية عما نحن عليه اليوم وهذا كله من أجل تدشين الحكمة السقراطية القائلة (أعرف نفسك بنفسك) وبالتالي فإن معرفة أزمات الذات في الماضي وفي صيرورتها التاريخية هي الطريق الأنجع لإبداع الحلول وتجاوز مطبات التاريخ ومعيقاته. [email protected]