بقلم الدكتور قادة جليد أستاذ جامعي وباحث أكاديمي- ولاية معسكر إن الذي يكتب عن تاريخه أو يبحث عنه، إنما يكتب ويبحث عن نفسه، بشكل أو بآخر، لأننا نتاج هذا التاريخ بكل تراكماته وتناقضاته، انتصاراته وانكساراته، فليس التاريخ شيئا مضى ولم يعد موضوعا من موضوعات الوعي التاريخي، إنه يوجد أمامنا لأننا معرضون إليه ولأنه قدرنا، فسؤال التاريخ في الجزائر اليوم، هو السؤال الكبير الذي يخلخل جميع الأجوبة المتوقعة والجاهزة، لأنه مرتبط نظريا وعمليا بهوية كل أمة ووعيها بماضيها وحاضرها ومستقبلها، بتاريخها ومصيرها المشترك، بالدولة الوطنية الجزائرية التي هي ثمرة ونتاج كفاحها وثورتها وتضحيات أبنائها، بمشروع المجتمع الذي تنشده ورغبة مواطنيها في العيش المشترك، ومكانة الجزائر كأمة بين الأمم، والرسالة التي تحملها في التاريخ، وماهي الإضافات التي يمكن أن تقدمها للإنسانية؟، لذلك نجد أن كل المجتمعات والدول اليوم تهتم بالتاريخ نظرا للرهانات التي يطرحها على مستوى الحاضر وأيضا على الصعيد الإستراتيجي، ومن هنا أهمية التاريخ وخطورته في الوقت نفسه، فقد اعتبره المفكر الفرنسي، بول فاليري، بأنه "أخطر إنتاج كيميائي أنتجه العقل البشري، إذ بفضله تحلم الشعوب وتتشبث بالذكريات وتتقاتل وتتصالح وتقترب وتبتعد". إن التجربة التاريخية والدراسة التأملية للتاريخ، تؤكد لنا أن جميع المؤرخين والمبدعين قد انطلقوا من الحاضر في إعادة كتابة تاريخ شعوبهم وعلاقته بتاريخ الشعوب الأخرى، كابن خلدون مثلا في القرن الرابع عشر من خلال المقدمة، فلقد كان الحاضر بالنسبة إليه هو هاجس تراجع الحضارة العربية الإسلامية، فأراد أن يفهم هذا الحاضر من خلال الماضي، وكذلك الفيلسوف الألماني هيجل، في القرن الثامن عشر في كتابه العقل في التاريخ، فلقد كانت ألمانيا في عصره مقسمة إلى دويلات ومتأخرة حضاريا مقارنة بالدول الأوروبية الأخرى خاصة بريطانيا وفرنسا، فأراد هيجل تشكيل وعي تاريخي ألماني جديد للنهوض بأمته فجاءت نظريته في التاريخ التي جعلت من بروسيا نهاية للتاريخ والمجتمعات الشرقية مجرد بدايات فقط، وأخيرا وليس آخرا المفكر الأمريكي فرانسيس فوكوياما، الذي كتب في صائفة 1989 مقالا بعنوان "نهاية التاريخ؛، وهذا بعد انهيار النظام الشيوعي، إذ يجعل من النظام السياسي الليبرالي الأمريكي نهاية للتاريخ باعتباره أحسن نظام يمكن أن تعرفه البشرية على صعيد المبادئ والأفكار، وأن الرجل الأمريكي هو سيد التاريخ. وانطلاقا من هذه الأمثلة المعطاة، فإن الحاضر وما يفرضه من تحديات وأزمات هو الذي يفرض على كل ذات عارفة وعالمة الغوص في أعماق التاريخ لإيجاد هذه الذات الجماعية أو الروح العامة التي تشكل جوهر كل مجتمع وكل شعب وكل أمة عبر مساراتها التاريخية وصيرورتها الزمانية. إن محاولة قراءة التاريخ بالنسبة لنا اليوم كجزائريين، تعني اكتشاف صورة عقلية ومقبولة لنا في الحاضر لمواجهة الأزمات الحقيقية والمفتعلة، فعقلنة الحاضر تعني عقلنة التاريخ ولأنه حسب العبارة الهيجلية "كل ماهو واقعي عقلي وكل ما هو عقلي واقعي"، لأن كل تاريخ في النهاية هو: إستيراتيجية استبقاء واستبعاد، تحليل وتركيب، وهذه حقيقة معروفة عند جميع المؤرخين، ولا عجب إذا وجدنا أن المؤرخ في عصر الرومان كان موظفا عند الدولة، وهذا نظرا لخطورة التاريخ، وما يمكن أن يحمله من وعي يعكس نظرة كل مجتمع إلى نفسه وإلى نظرته إلى الآخرين، وفي هذا المعنى يرى المفكر الإيطالي كروتشيه "أن التاريخ بأجمعه تاريخ معاصر"، أي أنه يتألف بصورة أساسية من رؤية الماضي من خلال عيون الحاضر وعلى ضوء مشاكله، وبالتالي فالعمل الأساسي للمؤرخ ليس التدوين وإنما التقييم الذي يساعده على معرفة قيمة الأشياء التي تستحق التدوين. وقبل أن أطرح المغزى من هذه الدراسة والتي هي بالأحرى أسئلة مفتاحية، فلابد من التفرقة على المستوى المنهجي بين التاريخ كأحداث والتاريخ كمعرفة، ففي المستوى الأول، فالتاريخ نعني به تسجيل أحداث الماضي البشري كما وقعت بالفعل، وهذا ما يمكن أن نسميه التاريخ كأحداث، وهو من هذه الناحية مرتبط بالإستوغرافيا أي علم كتابة التاريخ، وهذه مهمة المؤرخ التقليدي، أما التاريخ الذي هو موضوع هذه الدراسة، فنعني به معرفتنا ووعينا بهذه الأحداث، وهذا ما يمكن أن نطلق عليه التاريخ كمعرفة، وهذه مهمة فيلسوف التاريخ، فالتاريخ لا يوجد في ذاته بل لذاته، لأن التاريخ ليس له وجود موضوعي خارج عن إرادة المؤرخ، فالتاريخ لا يوجد إلا إذا قمنا نحن بإيجاده وصنعه من خلال البحث والتحليل والتركيب، لأن التاريخ في نهاية الأمر تجربة المؤرخ، إنه ليس من صنع أحد باستثناء المؤرخ، وكتابة التاريخ هي الطريقة الوحيدة لصنعه، فالشعب الذي لا يعي تاريخه يعيشه مرة أخرى بنفس الأخطاء وبنفس المآسي، ولا شك أن هذه المعطيات تفرض علينا اليوم كجزائريين أن نعيد النظر قي تاريخنا ومحاولة قراءته قراءة جديدة ومتجددة، لأن كل أمة عندما تجد نفسها في مفترق التاريخ، وعندما تفقد المعالم الأساسية والروح العامة التي تحركها نحو المستقبل، فإنها تميل بالطبيعة إلى إنجاز قراءة جديدة ومتجددة لمساراتها، من أين يبدأ تاريخ هذه الأمة، وماهو المنطق الذي يحكم أحداثه، وماهو هذا التاريخ، وماهي وجهته؟، وبالتالي اكتشافه إذا كان موجودا أو اختراعه إذا كان مفقودا، إن تاريخا جزائريا متجذرا يمتد على مدى ثلاثة آلاف سنة تقريبا من الوجود التاريخي منذ الفينيقيين ثم الاحتلال الروماني والوندالي والبيزنطي ثم الفتح الإسلامي الذي أعطى هوية لهذه الأمة وحدد انتماءها الحضاري وفترة الحكم العثماني ثم الاحتلال الفرنسي إلى غاية استرجاع السيادة الوطنية وقيام الدولة الوطنية وقيادتها للمشروع النهضوي للتاريخ الجزائري المعاصر مرورا بكل مراحل التوتر والأزمات التي عرفتها في مسيرتها، وانطلاقا من هذه المعطيات يمكننا أن نتساءل: هل ثمة هناك سياق تاريخي متجانس الوقائع والأحداث يبدأ من نقطة زمنية مفترضة أو معطاة ويستمر في خط متآلف بحيث نستطيع أن نعيه ونلمسه في السياق الكلي الوقائعي، وبالتالي يمكننا أن نسميه تاريخا جزائريا؟، ولماذا على الصعيد المعرفي والمنهجي لا يجوز أن يكون تاريخا واحدا، بل تواريخ متباعدة وحتى متناقضة تخضع لأهواء المؤرخين وانتماءاتهم الإديولوجية؟. إننا بحاجة اليوم أكثر من أي وقت مضى لاكتشاف وبلورة نظرية في التاريخ الجزائري تزيل هذا التناقض وهذا التعارض وتجيب على الأسئلة الوجودية لهذه الأمة: من نحن وإلى أين نحن ذاهبون؟، فبناء وعي تاريخي جزائري يرتكز على ثلاثة آلاف سنة من الوجود الاجتماعي والنشاط التاريخي، يمكن أن يرفع الأمة الجزائرية إلى مصاف الأمم العظمى، لأن الإنسان كفرد أو مجتمع لا يمكن أن يستقيم نظامه النفسي والاجتماعي والتاريخي من دون أن يتصور أهدافا وغايات لحركته ومسيرته، ومن هنا كان التساؤل المشروع ماهي غاية الإنسان الجزائري من وجوده في الحياة، وماهي غاية الأمة الجزائرية من وجودها في التاريخ؟، ومن هنا كانت الأهداف والغايات معالم مضيئة في طريق المسيرة البشرية ككل، وكل مجتمع تقاس عظمته وقيمته في التاريخ بتحديد قيمة الهدف، والغاية التي يتحرك نحوها باعتبارها المثل الأعلى لوجوده في الحياة. [email protected] البريد الإلكتروني