1 النقد هو بيان الرغبة، بيان لذة النص وفي كتابه ''لذة النص'' يكتب رولان بارت: ''يجب على النص الذي تكتبونه لي، أن يعطيني الدليل بأنه يرغبني· وهذا الدليل موجود: إنه الكتابة· وإن الكتابة لتكمن في هذا: علم متعة الكلام، إنه كاموستراه، ولم يبق من هذا العلم سوى مصنف واحد: إنه الكتابة نفسها''· والنقد كممارسة مبدعةئقارئة بحب وبمعرفة، قراءة هي انخراط في التشكل كنص فاتح للنصوص وكبصيرة تستبصر وتخترق الحجب· وبالانخراط المذكور يكون النقد إبداعا، يكون تدفقا جماليا وتحققا فكريا وتحقيقا معرفيا· القراءة المنتجة أو المثمرة تنتج الكتابة المتميّزة، النابضة إبداعا والمتدفقة بالتوليد دلالات وعلامات· تحقق ما ذكر يتصل بانزياح عن النمطي والمكرّس، أي بقراءة مختلفة تخرج، كما قال المرحوم بختي بن عودة: ''عن التقليد الذي يهيمن على النقد تارة باسم المتعاليات المدرسية، وتارة أخرى باسم الموجود الثقافي وما له من رهانات وضرورات''· إن سؤال النقد يطرح في كل مرحلة بما تقتضيه من انخراط في رهاناتها وبما يقتضيه التعاطي النقدي المؤسس معرفيا وفكريا من مقومات لاستقامته، وهذا ما يجعلنا عند النظر إلى المنجز النقدي نعتبر بالسياقات ونعي جدل الأنساق وصراع المقولات، ويقودنا النظر إلى ما يحقق تفعيل ما شكلته التراكمات دون مصادرات ودون إسقاطات متعسفة· سؤال النقد هو سؤال التاريخ بتوتراته وسؤال الصيرورة وما يطرأ على معادلاتها من معالم ومجاهيل، سؤال تشعبت منطلقاته ومراميه، تشعبا يقود إلى مساءلة النقد كاشتغال، فما هو النقد؟ هو تمرس على التحرر في التواصل مع النصوص، التحرر من وهم تملك اليقين، من وهم جاهزية الجواب، التحرر من سلطة المفهوم النسقي ومن ملابسات النسق الملتبس بسياق· النقد سؤال جامع بين الجمالي والأنطولوجي والمعرفي المتعدد، سؤال يفتح إمكانات التأويل بحفر وتفكيك· النقد إبداع في مقاربة الإبداع، مقاربة بمحاورة واختراق واستنطاق ورصد للمنفلت وطفو بالمخبوء وفتح للمستغلق وتجديد لخصوبة النص بتكثيفه علاماتيا ودلاليا· كتب تودروف كتابا بعنوان ''الأدب في خطر'' والخطورة نرصدها في ما يرهن الممارسة النقدية ويبدد إمكانات ارتقائها إلى المستويات المنشودة جماليا ومعرفيا وفكريا··· خطورة تتضاعف بتقنوية تصادر الجمالي وتغلق على النصوص بتطبيقات لنظريات وأنساق، تطبيقات غالبا ما تختزل الإجراء النقدي في تقنيات صرفة، تصرف عن الجمالي وعما تضمه الشبكة الدلالية من إحالات إلى رموز وعلامات وشيفرات تتصل بالمخيلة والواقع· خطورة تتصل بما يسميه أركون ب ''السياج الدوغمائي المغلق''، سياج دكتاتورية التخريج التأويلي الأحادي، سياج يتناقض أصلا وفصلا مع النقد، النقد كحس منتبه يقظ، كسؤال رافض للتسليم· النقد كممارسة مبدعة هو رؤية تتشكل بشغف جمالي واستيعاب للواقع وتمثل للمنجز المعرفي، وهذا ما جعل المشروعات النقدية تستخدم كما قال الغذامي: ''أدوات النقد في مجالات أوسع وأعرض من مجرد الأدبية''· إن النص متضمن نصوصا أخرى ولكل دال ظله، كما يقول بارت، وكلما نقتحم ظلا ونبدد ظلامه ينكتب نصا أو نصوصا·· والنص في تجليه يختزن تفاعلات تقودنا إلى أرضيات وحقول وساحات فكرية ومعرفية، نظرية وتطبيقية، وإلى واقع وبيئة وإذا قال علماء الأصول: ''ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب'' فكذلك الحال مع لا يستوعب النص إلا به، وهذا ما تبلور مع باحثين وسعوا النظر وعمقوه ودققوه، التفتوا إلى الفلسفي والأنثربولوجي والسوسيولوجي والسايكولوجي وكل المنجز المعرفي، والتفت باحثون من حقول مختلفة نحو الأدبي، فقدموا الإضافات المميّزة والواعدة· إن تعددية المناهج والمقاربات علامة حيوية، لأن النقد كالإبداع، في تعدديته الدال على حياته، لكن الحيوية مرتبطة بحيوية التعددية والحيوية تتصل بتحرير النظر النقدي من العوامل التي جعلت الأدب في خطر بتعبير تودروف· الحيوية تكمن في التمثل المنسجم، تمثل المناهج والمفاهيم، تمثل بنياتها ومرتكزاتها الفلسفية والمعرفية وسياقاتها التاريخية وتعبيراتها الاجتماعية والسياسية·· الحيوية مرتبطة بالحوارية المتواصلة التي تغص في الواقع وتحفر في المجتمع لتشكل إحداثيات سيره وتحتفي وتتحلى بالاختلاف بمقتضياته المستوعبة للآخر المتعدد· 2 إن سؤال النقد هو سؤال الكتابة، سؤال يتناسل بأسئلة تقرأ السياق بملابساته التي تفرز أشكالا تعبيرية وآليات قراءة وتواصل· وسياقنا متصل بتحديات متعددة ومتشابكة، بما تراكم وتكرس، بما يهب فيجذب بريقه، جذبا يزيل المعنى وينسف الجدوى، بسطوة ''الميديا'' والوسائط الاتصالية التفاعلية والتحوّل صحب معه، كما يقول الغذامي: ''تحولات ضخمة في نظريات الاستقبال والإرسال وجرى قلب المعادلات القديمة في قوانين الفهم والتأويل، وفي قوانين الذوق ومفاهيم الثقافة والتثقف''· ولا يمكننا ونحن نتعاطى مع النص، أن نتجاوز أو نسقط من الاعتبار هذه التحولات، ولكن الفخاخ كثيرة ومنها فخ المصادرات التي تنتج عن الولع بمنهج ما، دون استيعاب كل ما أسسّ لذلك المنهج معرفيا وفلسفيا، وكل ما التبس به سياقيا أو تاريخيا، ولعل هذا ما نبّه إليه المفكر محمد أركون لما دعا إلى عقل منبثق أو استطلاعي، ينفصل (مع المسلمات الوضعية والمواقف الميتافيزيقة) و(يقبل بممارسة البيداغوجيا التربوية الخاصة بذلك التوتر التثقيفي والخصب بين العقل الديني ''والعقل العلمي التلفزي التكنولوجي'' والعقل الفلسفي)· أي بين عقول متصادمة، عقل نقدي متحرر من الدوغمائيات بكل أشكالها· ومع كل ما يمكن أن يثار ابستمولوجيا عند الحديث عن الكتابة النقدية، تستوقفنا خلفيات ذات طابع اجتماعي ونفسي، فالكثير من معارك أهل الأدب والثقافة عندنا، معارك لا صلة لها بالأدب والثقافة بل هي مما يوصف بصراع الديكة، صحفا تنشر ملاسنات ومواجهات تحركها حسابات شخصية، ومنابر تحفل بالمديح الكاذب والمنافق الذي لا يقصد النص وما قد يكون حاملا له من قيم، بل المقصود اعتبارات شخصية وكل هذا مندرج في هيمنة الزبائنية التي أخصبت الرداءة· ويتصل بما ذكر التوثين الذي يخصص لرموز محددة، تخصيصا يلغي المعرفي والجمالي، ويسجن الرموز في قوالب معينة لتحويلها إلى رساميل لتمويل وإبرام الصفقات· 3 في بلادنا تراكم ما شكل رصيدا يجدر بنا تمثل ما فيه ورأسملته، رصيدا تدرج وتنوع ليفصح عن تميز الممارسة النقدية بالجدل، جدل متصل بالواقع وبالمنجز المعرفي وبالعلاقات التثاقفية·· وطيلة المراحل المتعاقبة كان التعاطي النقدي الممارس عبر المنابر الإعلامية والممارس أكاديميا، أفضل مؤشر دال على الثقافي والفكري والمعرفي في البلاد· عقب الاستقلال، ورغم كل ما التبست به فترات التحوّل، تشكلت منابر بلورت ما يمكن اعتباره تأسيسا ليس فقط للممارسة النقدية الأدبية بل للجدل الفكري والثقافي بصفة عامة· منابر بالعربية والفرنسية، فتحت فضاءات ونوافذ للحوار والسجال وكانت ورشات تشكيل وانبعاث لأسماء تكرست أدبيا ونقديا وثقافيا· منابر كالحصة الإذاعية التي كان يعدها الشاعر جان سيناك وكالحصة التلفزيونية ''أقلام على الطريق'' التي كان يعدها عبد الله الركيبي، وملاحق في الصحف، ومجلة آمال التي احتضنت المواهب الشابة·· وفضاءات النقاش التي اتسعت لتشمل حتى بعض المقاهي· وتشكلت الممارسة النقدية بتراكم المنجز من البدايات بمقاربة النصوص وصفيا ووظيفيا، مقاربات كانت انعكاسا للمرحلة، فكان الهاجس السياسي والإصلاحي حاضرا، حضورا نرصده في ما كانت تنشره صحف جمعية العلماء، وفي ما كانت تكتبه الصحف بالفرنسية، نرصده في قراءة قصيدة ''ليلاي'' لمحمد العيد آل خليفة ونقرأه في النقد الذي وجهه لشرف لرواية ''الربوة المنسية'' لمولود معمري التي كتب عنها طه حسين· وقراءة السياق تدفعنا إلى الوقوف عند الدرس الأدبي بشموليته، فالمثقف الفرانكفوني أنذاك كان متقدما بحكم اعتبارات متعددة، منها أن الرصيد الأدبي الفرنسي كان ملهما دوليا وكان مؤثرا على الحراك الأدبي العربي، ومنها أن الجزائر احتضنت أنذاك في مدرسة الجزائر، كما عرفت، نخبة من الأسماء المهمة ومنها النوبلي ألبير كامي·· وأكاديميا تموقعت جامعة الجزائر مغاربيا كإحدى أهم الجامعات، وكانت مدارس كالمدرسة العليا للمعلمين والثعالبية من المراكز المهمة بما تقدمه من رصيد يروي عنه الكثير لشرف، فبرزت أسماء مهمة في الدراسات التراثية كبن شنب· عقب الاستقلال وتتابع افتتاح الكليات المتخصصة في الأدب برزت أسماء اشتغلت في النقد وأسست فعليا للممارسة النقدية، أسماء كالركيبي ومصايف ودودو ومحمد ناصر وصالح خرفي وعبد الملك مرتاض وأسماء كعبد الله مازوني وجمال الدين بن الشيخ··· أسماء كانت نواة لحراك تواصل متمثلا مختلف التيارات النقدية· ومن ثمانينيات القرن الماضي بدأ المنعطف المهم في مسار الدرس النقدي مع نضج مثلته أعمال نشرت ومع بروز أسماء سلكت مسالك أبعد عن الأيديولوجي أقرب إلى المعرفي والفكري والجمالي·· وضع النقد مرتبط بالمنظومة التربوية وغياب تنمية الحس الجمالي وتغييب التحفيز على المطالعة وإبطال آليات العقل النقدي· وضع النقد مرتبط بالجامعة وما تنتجه، بالتحصيل المتأثر بالتقلبات وبوظيفية التخصص التي قضت على الشغف المعرفي· وضع النقد مرتبط بفضاءات النقاش وبمنابر الإعلام·