بقلم الأستاذ قسول جلول، إمام مسجد القدس – حيدرة المحراب يمثل عنصرًا فنيًا ومعماريًا مهما، يؤكد على الطراز الفريد للعمارة الإسلامية، ويمثل في الوقت نفسه أحد الملامح المعبرة عن جماليات الفن الإسلامي !!. في التسعينيات من القرن الماضي، ظهرت حركة غريبة لم يعهدها المجتمع الجزائري، وهي غلق المحاريب وتنكيس المنابر في بعض المساجد، حيّرت عقولنا آنذاك وأتبعتها بعد ذلك بالتطرف والغلو والإرهاب، فوقف المجتمع الجزائري مدافعا عن قيّمه وتراثه، وتحكم الحكماء في تسيير الأزمة، وبعدها الوئام المدني ثم المصالحة الوطنية، ولكن آثار هذه الحركة ما زالت إلى الآن، ولكن بطرائق تمويهية واحتيالية على المجتمع، فأصبحنا نرى محاريب ومنابر تحمل فكر هذه الحركة كأن يبنى المحراب بخلاف شكله ومميزاته وطرازه الهندسي المغاربي المعروف لدى الجزائريين منذ عقود، وأصبح المصلي لا يعرف أين المحراب لتحديد قبلته..وهل هو في مسجد؟. والمنابير حدث ولا حرج، منابر مطوية!!، منابر مبنية في الحائط على شكل شروفات يطل منها الخطيب !!، منابر مجزأة وأشكال وأنواع لم ير نظيرها من قبل …إلخ. وكما تعلمون أن من مميزات المساجد المحاريب والمنابر!!، لأن المساجد هي محور الحياة الدينية في الجزائر بل وفي العالم الإسلامي، ولكي يتمكن المسلمون من معرفة الجهة الصحيحة للقبلة أثناء الصلاة وضع المحراب؛ ليكون وجهتهم الصحيحة للصلاة نحو الكعبة المشرفة. هذا المحراب الذي أمسي رمزًا للصلاة، وموقعًا جوهريًا يذكّر الناس بعبادة الله عز وجل، وتبارى الناس في تفخيمه، والتركيز على شكله، حتى صار تحفة معمارية تنطق بالجمال والإبداع، وتعبر في الوقت نفسه عن الروح المبدعة، التي تحلى بها المعماري والفنان المسلم. المحراب عنصر معماري، يوجد في المساجد والجوامع والزوايا، وهو عبارة عن تجويف موجودة في حائط القبلة، ولا يتسع إلا لشخص واحد هو الإمام، يؤدي فيه الصلاة وفي الأعياد والمواسم، وازدياد عدد المصلين، فيكون متيحًا فرصة لتكوين صف كامل من المصلين مما يوفر في المكان. ورد ذكر المحراب في أكثر من موضع من آيات القرآن الكريم قال تعالى: {فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا} مريم:11، ونلحظ هنا أن التوجه بالتسبيح صباحًا ومساء كان لوجوده في المحراب، أي: إن المحراب هو موضع لائق لذكر الله والتسبيح والتبتل إليه سبحانه، قال تعالى {وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَامَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ}، آل عمران: 37، وقوله {فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ} [آل عمران: 39]. أي أنَّ المحراب للصلاة ومناجاة الله وذكره سبحانه وتعالى. كما جاءت لفظة محراب في القرآن الكريم بصيغة الجمع "محاريب"، في قوله تعالى: {يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ} سبأ: 13، وفسرت محاريب في هذه الآية الكريمة بالقصور والمساجد يُتعبد فيها. ومحاريب المساجد في الإسلام مسطحة، أو مجوفة، والمادة التي صنعت منها المحاريب، من الجص أو الخشب، والمحاريب المجوفة ظهرت خلال النصف الأخير من القرن الثاني الهجري، والذي نجده بكثرة في المسجد الأموي بدمشق، وجامع قصر الحلايات، ومسجد خان الزبيب، ومسجد أبو الوليد، والمحراب الصغير في قصر المشتي وقصر الطوبة، وجميعها في منطقة الشام، وسرعان ما انتشر هذا النوع من المحاريب المجوفة في بناء المساجد في شرق العالم الإسلامي وغربه على حد سواء، وقد قيل الكثير من الآراء بشأن الحكمة من المحراب المجوف، منها أنه يفيد في تعيين اتجاه القبلة، وفي تحديد مكان الإمام عند الصلاة، ويساعد على تجميع صوت الإمام وتكبيره وإيصاله إلى المصلين، الذين يوليهم ظهره أثناء الصلاة، لا سيما قبل اختراع مكبرات الصوت. كما زاوج المسلمون في المغرب والأندلس في عمل المحاريب وزخرفتها بين استخدام الجص والرخام في عبقرية فنية فريدة، تفصح عن نفسها في محراب جامع قرطبة الكبير، ومحراب مدرسة يوسف في غرناطة. ففي بلاد المغرب والأندلس، خصوصًا في عصر دولة الموحدين، استخدم الزليج بزخارفه الهندسية الدقيقة والمتعددة الألوان على نطاق واسع، حتى بات من مميزات الفن الإسلامي الرئيسية هناك. إن المحراب يمثل عنصرًا فنيًا ومعماريًا مهما، يؤكد على الطراز الفريد للعمارة الإسلامية، ويمثل في الوقت نفسه أحد الملامح المعبرة عن جماليات الفن الإسلامي، أما المنابر فهي رمز الشخصية الإسلامية ََ!!، فالناظر إلى المنابر في عهد الصحابة والخلفاء الراشدين ومن بعدهم العلماء والأمراء اهتموا ببناء المنابر بفتيات وتقنيات جمالية وفنية تعكس جمال الطراز الإسلامي، ومن هذه المنابر المنبر النبوي الشريف، وقد ورد في منبره الشريف أحاديث عدة تدل على فضله، فمن ذلك: ما رواه الشيخان، عن أبي هريرة (رضي الله عنه) أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قال: "ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة، ومنبري على حوضي". ولقد مر المنبر الشريف عبر تاريخه بمراحل عدة: – في عهد الرسول (صلى الله عليه وسلم) وخلفائه الراشدين كان المنبر مكوناً من ثلاث درجات، طوله من الجنوب إلى الشمال أربعة أشبار وشيء، ومجلسه ذراع في ذراع، وارتفاعه ذراعان، له رمانتان، ارتفاع الواحدة نصف ذراع، وكان (صلى الله عليه وسلم) يقف على الدرجة الثالثة منه، ثم نزل الصديق درجة، ثم عمر كذلك، وأقام عثمان على الدرجة السفلى ست سنين، ثم ارتقى بعدها حيث كان (صلى الله عليه وسلم) يقف. – في عهد مروان بن الحكم عامل معاوية (رضي الله عنه) على المدينة زاد فيه ست درجات من أسفله، فصار تسع درجات، يقف الخلفاء على الدرجة السابعة، وهي الأولى من المنبر الشريف، واستمر المنبر على هذا حتى عام 654ه. – في سنة 664ه أرسل السلطان الظاهر بيبرس البندقداري منبراً جديداً بتسع درجات، له باب بمصراعين، في كل مصراع رمانة من فضة، كتب على الجانب الأيسر منه اسم صانعه، فنصب موضع المنبر السابق، وخطب عليه حتى عام 797ه، وفي العام المذكور ظهرت في المنبر آثار الأرضة، فأرسل الملك الظاهر برقوق منبرًا جديدًا استمر حتى عام 820ه. – في عام 820ه أرسل السلطان المؤيد شيخ منبرًا آخر بثمان درجات بعدها مجلس، ارتفاعه ذراع ونصف، له قبة يعلوها هلال، وبابه بمصراعين؛ فحل محله. – في عام 998ه أرسل السلطان مراد العثماني منبرًا جديدًا وضع موضع منبر قايتباي، ونقل منبر قايتباي إلى مسجد قباء، ثم إلى مكتبة الملك عبد العزيز بالمدينةالمنورة. من المعلوم أن منبر السلطان مراد صنع من المرمر النقي، وهو غاية في الجمال ودقة الصناعة، يتكون من اثنتي عشرة درجة، ثلاث خارج الباب، وتسع داخله، تعلوه قبة هرمية لطيفة، محمولة على أربعة أعمدة مضلعة رشيقة من المرمر، وبابه من الخشب القرو يتكون من مصراعين مزخرفين بزخارف هندسية إسلامية، مدهون باللون اللوزي الجميل، كتب عليه أبيات من الشعر، وفوقه شرفات آية في الروعة، كتب في الوسط: "لا إله إلا الله محمد رسول الله". وقد اهتمت حكومة المملكة العربية السعودية بهذا المنبر، وشملته بالرعاية والعناية المستمرة، وتقوم بطلائه بماء الذهب كلما دعت الحاجة إلى ذلك، ووضعت عليه ورقًا شفافًا لحمايته من اللمس حفاظًا عليه، وليبقى شاهدًا على دقة الفن الإسلامي، وأحد أعاجيبه الباقية. أيها القارئ الكريم ندلك على صور لمحاريب ومنابر غاية في الجمال والدقة، فمثلا منبر ومحراب مسجد قباء شاهد إلى الآن، ومنبر ومحراب الجامع الكبير بالجزائر !!، فما لهؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثا!!.