الحلقة 2 التاريخ الممتد والمواقف الشاهدة المشهودة ونظرا لبعد الشقة وعراقة التجربة التي عاصرتها وفرحت بها الأجيال الأولى للصحوة الإسلامية ولم تتعرف عليها الأجيال الحالية، سنعرض بتكثيف كبير بدايات الحركة الإسلامية في السودان من خلال ما كتبه مؤسسوها الأوائل، يتعلق الأمر بما كتبه إبراهيم أحمد محمد صادق الكاروري "الحركة الإسلامية السودانية، مدخل ومقومات حول مشكلات الفكر والسلطة"، أو الأمين الحاج محمد أحمد، "الحركة الإسلامية في السودان 1944م – 1989م، الإيجابيات والسلبيات"، والمفكر د. حسن عبد الله الترابي، "الحركة الإسلامية في السودان، التطور والكسب والمنهج"، و د. حسن مكي محمد أحمد "حركة الإخوان المسلمين في السودان ( 1944- 1969)" وكتابه الموسوم ب"الحركة الإسلامية في السودان، 1969 – 1985م، تاريخها وخطابها السياسي"، و د. علي عيسى عبد الرحمن "الحركة الإسلامية السودانية من التنظيم إلى الدولة (1949 – 2000)"، وهي مراجع مهمة في قراءة وفحص تجربة الحركة الإسلامية في السودان لانها ببساطة كتابات صناع التجربة وهو الميزة التي تتفرد بها السودان على المستوى القيادي، فقد كان في قيادة الحركة الإسلامية في السودان ألمع المفكرين في التيار الإسلامي وعلى رأس كل هؤلاء المجتهد المجدد حسن الترابي الذي كان له ورد سنوي في الكتابة، حيث كان يصدر عنه في كل سنة كتاب يؤرخ للمرحلة ويطرح الإشكاليات ويجيب عنها بطريقة انسيابية متجددة قلّ نظيرها في العالم الإسلامي، وهو ما سوف نتحدث عنه في مقامه إن شاء الله. يقول الدكتور علي عيسى عبد الرحمان في كتابه "الحركة الإسلامية السودانية من التنظيم إلى الدولة (1949–2000)": إن الحركة الإسلامية السودانية نشأت في العام 1949م ،حيث بدأت بداية متواضعة من عناصر طلابية استفزها الواقع بأطروحاته في ذلك الوقت، فرأت أن تتمرد عليه وتطرح البديل الإسلامي وفي ثنايا هذا الظرف وفي وسط الطلاب نشأت الحركة من عناصر طلابية تائبة إلى الدين، من بعد ما غشيت بعضهم غاشية الشيوعية واستفزت بعضهم أطروحاتها السافرة التي فرضها التعليم النظامي الذي يسوسه الإنجليز، فنبتت النواة الأولى للحركة في صميم البيئة الطلابية بجامعة الخرطوم وفروعها في المدارس الثانوية، ولم تتخرج تلك الثلة المسلمة من الطلاب إلا نحو 1955م. ويوضح هنا الشيخ الترابي نشأة الحركة الإسلامية السودانية وذلك عام 1949م، حيث يتحدث عن دواعي النشأة، فأشار إلى استفزاز أطروحات الشيوعيين والتي تنافي العقيدة وتعكس وجها ملحدا لا يتماشي وعقيدة السودانيين، كما يبين سببا آخر دعا لإنشاء الحركة الإسلامية السودانية، وهو المتمثل في غلبة التصور والأنماط التي فرضت من قبل التعليم النظامي الذي يسوسه الإنجليز ليصبح السبب الآخر هو غربة التعليم الذي خطط له الإنجليز لخدمة أهدافهم، فهذان السببان وراء نشأة الحركة الإسلامية السودانية والتي تكونت بالجامعة الخرطوم وفروعها من الثانويات، ولعل في هذا الإيضاح بيان لمفاهيم ظلت سائدة في أذهان كثير من السودانيين والعالم بأن الحركة الإسلامية السودانية إنما هي امتداد طبيعي ومولود شرعي لحركة الإخوان المسلمين بمصر، بينما الحقيقة وكما يروي المؤسسون لها بأن الحركة الإسلامية السودانية سودانية النشأة والأصل، ولا بأس بأن تأثرت بأدبيات الحركات الإسلامية في مصر أو باكستان، وكان هذا المشروع الطلابي الإسلامي موازيا لنشأة رافد شعبي محدود أقام فرعا لحركة الإخوان المسلمين المصرية عبأته زيارات من دعاتهم الذين وفدوا في سياق تحرك مصر عامة نحو السودان، ووجدوا قبولا خاصا في الدوائر التي كانت أميل للاتحاد مع مصر، ويضيف وكانت هاتان الحركتان المتوازيتان تتصلان ولا تتحدان، ولكن انقطاع المدد الإخواني من مصر بما اعتري الحركة من ابتلاء هناك وقوة الخريجين الصاعدة في قيادة المجتمع السياسي في السودان والصلابة النسبية لحركة الطلاب أمور تناصرت لتجعل للمنظومة التي نشأت في الجامعة وراثة لحركة الإسلامية في السودان. وذكر هنا حسن الترابي العوامل التي جعلت الحركة الإسلامية التي نشأت في السودان هي الوارثة للعمل الإسلامي بديلا عن الوافدة، وما يلبث أن يذكر الشيخ بأن الحركة الوارثة أيضا كانت الحركة في هذه المرحلة أقرب إلى أن تكون عالة في زادها الفكري والتنظيمي على الخارج، وكانت تتناول أغلب أدبها من كتب الإخوان المسلمين في مصر أو كتابات المودودي، وكذلك كانت أشكال التنظيم السائدة فيها هي تقريبا من التجارب التنظيمية في مصر. ويري د. حسن مكي، أن الحركة الإسلامية كانت استجابة لثلاثة تحديات تتمثل: 1. انحلال المجتمع الإسلامي وابتعاده بالتدرج عن القيم الإسلامية وفقدانه لأسباب الحيوية والنشاط خاصة بعد أن فقدت الخلافة الإسلامية. 2. الاستعمار الأوروبي الذي أضاف تعقيدا جديدا للوضع المتردي، حيث عمل على استئصال الحضارة الإسلامية عمق الشعور بالنقص، مما أدى إلى فساد الحياة الفكرية والثقافية لغياب الحرية. 3. النشاط العلماني، والذي تجسد في الإدارات السياسية الموجودة في البلاد، وكانت حركته شرسه جدا وعدائية خاصة اليسار العلماني. 4. تكون هذه الأسباب وغيرها تداخلت واستفزت الشعور الطلابي المسلم في ذلك الوقت، وأدي هذا الاستفزاز إلى تكوين الحركة الإسلامية السودانية التي هدفت إلى العودة بالأمة إلى نقاء المجتمع الإسلامي الأول والانتقال بها من التمزق والشتات إلى الوحدة والانسجام، ورد الخلق عن كل ما يمكن أن يفتنهم ويبعدهم عن تعاليم الإسلام وعبادة الله. * تلاقي تيارين يصنع حركة ممتدة وبمناسبة مرور ستون سنة على تأسيس الحركة الإسلامية السودانية كتب البروفيسور حسن المكي واصفا الحركة الإسلامية السودانية بأنها نتاج لتلاقح تيارين – تيار حركة الإخوان المسلمين القادم من مصر، والذي وجد طريقه للسودان في منتصف الأربعينيات على أيادي معاوني البنا الذين أرسلهم للسودان، وكذلك على جهد جماعة حركة التحرير الإسلامي التي صدر بيانها التأسيسي في مارس 49 – من رائديها الأستاذين المرحوم بابكر كرار، والأستاذ محمد يوسف محمد. ومع أن حركة الإخوان المسلمين سبقت حركة التحرير الإسلامي في الميلاد والتأسيس، إلا أن مؤرخي الحركة الإسلامية السودانية يختارون ميلاد حركة التحرير الإسلامي أساساً للبناء الذي قامت عليه الحركة الإسلامية السودانية نسبة لأنها مثلت حركة النخبة. ولأنّها ولدت في الجامعة والمدارس العليا، وظلت الجامعة والمدارس العليا هي حاضنة العمل الإسلامي ورحمه الخصيب، ومعظم قادة الحركة الإسلامية التاريخيين، تشكلوا في رحم الجامعة والمدارس العليا " بابكر كرار، يوسف حسن سعيد، محمد يوسف محمد، الرشيد الطاهر، عبد الله محمد أحمد، د. الترابي، مرورا بدفع الله الحاج يوسف وعثمان خالد مضوي والبقية"، ولأنها كذلك أعلنت عن ولادتها عبر بيان تأسيسي. و قد ساعدت مدرسة حركة الإخوان المسلمين الحركة الإسلامية ودعمتها بكوادر أساسية، منها أسرة المرحوم عوض عمر وأشقائه، وعلى رأسهم الأستاذ يسن عمر الإمام والأستاذ صادق عبد الله عبد الماجد ومحمد الخير عبد القادر والأستاذ علي عبد الله يعقوب والبقية. وقد برزت الحركة داخل المجتمع الطلابي باسم حركة التحرير الإسلامي، ولكن خصومها كانوا يطلقون عليها اسم " الإخوان المسلمون " نسبة لأن الاسم في مصر أصبح اسما يحمل ظلالا سلبية نتيجة للحملة الإعلامية الناصرية التي ألصقت بالإخوان تهم الرجعية والعمالة والإرهاب – واندفع اليساريون لتكبيل الحركة بهذا الاسم، لكي يلصقوا بها كل سلبيات الحملة الوافدة من مصر، خصوصا أن حركة التحرير الإسلامي استطاعت أن تبرز مساوئ التيار اليساري وسط المجتمع الطلابي وتهزم مؤتمر الطلاب السودانيين واجهة الحركة اليسارية، وتتسيد اتحاد طلاب جامعة الخرطوم في بداية الخمسينيات. ويبدو أن كثيراً من مكونات حركة التحرير الإسلامي أخذ يتقبل اسم( الإخوان المسلمون)، لما قرأوا كتبهم ورسائلهم، كما أنهم خبروا حركة الإخوان على مستوى الشارع السوداني، كما عاد بعض خريجي الجامعات المصرية من الإخوان السودانيين ليعملوا تحت مسمى الإخوان، ولتجاوز هذا اللبس انعقد مؤتمر العيد في أوت عام 1955م لتحرير اسم الحركة وأهدافها وكتابة دستورها.
* المؤتمر يرسم تسمية الإخوان المسلمين: وفي هذا المؤتمر تم اختيار اسم (الإخوان المسلمون) وتم تعريف الإخوان بأنَّهم حركة إسلامية مقرها السودان، وأكدت كلمة مقرها السودان أنها مستقلة نوعا ما عن حركة الإخوان في مصر. وأدت الاستجابة لتحدي اختيار اسم (الإخوان المسلمون) لردود أفعال مختلفة، كما مهدت لأول انقسام في تاريخ الحركة الإسلامية، حيث تبرأ الأستاذ المرحوم علي طالب الله، أول أمين عام لحركة الإخوان المسلمين على المستوى الشعبي، من تيار مؤتمر 55 ووصفهم بأنهم لا إخوان ولا مسلمين، لأنهم أولا خرجوا عليه وعلى إمامته، كما خرجوا على المنظمة الأم في مصر، وكذلك انسلخ الأستاذ المرحوم بابكر كرار ومجموعة من مؤيديه، نسبة لإسقاط الاسم التاريخي "التحرير الإسلامي "، وربما نسبة لأن الاسم سيضعهم خصوماً للثورة المصرية التي ليس لهم قضية ضدها في خصومتها للإخوان في مصر وخطورة توريد ذلك للسودان (ورغم اختيار الاسم فإنه لم يستخدم فى الساحة العامة، حيث عملت الحركة تحت عنوان جبهة الدستور الإسلامى، ثم جبهة الميثاق الإسلامى بعد ثورة أكتوبر)، وفي هذا المؤتمر تقلد التيار المحلي مع غلبة الاتجاه الحركي والمحافظ، واستمر هذا الشكل حتي ثورة 21 أكتوبر 1964 التي أطاحت بنظام الفريق (عبود) (1958-1964)، وعادت الأحزاب من العمل السري، ومن بينها (الإخوان المسلمون). وبعد تشكل التنظيم الجبهوي الفضفاض، الذي اعتبرته الأغلبية هو الشكل المناسب للمرحلة، تقرر تأسيس (جبهة الميثاق الإسلامي)، وانتخاب الشيخ (حسن الترابي) أمينا عاما. وجاء بيان 25 /11 /1964معلنا انتصار التوجه السياسي علي الدعوي في نشاط الإخوان، ورأت القيادة الجديدة بزعامة (الترابي) أن العمل الجبهوي هو أفضل صيغة للعمل السياسي، تختفي خلفه جماعة الإخوان المسلمين لمواجهة الأحزاب الطائفية والطرق الصوفية من جانب، والشيوعيين والقوميين والعلمانيين من جانب آخر. ويري المتابعون في هذا التطور انتصارا للتيار السياسي-الحركي والبراغماتي على حساب التوجه التربوي-الفكري، وهو السائد حتي اليوم.