* الترابي يصنع الحدث في حياته وموته مسيرة الترابي الطويلة، هي عطاء من التمرّد، فبالرغم من دوره الكبير في إلهام الإخوان المسلمين، إلا أنّه يرى نفسه أكبر من الانتماء إليهم، ويحرص على تقديم نموذجه كتطور لا غنى عنه، ربما لا يصلون إليه، فهو صنع سلطة، ودمج المسيحيين، وتوسيع عطاء المرأة السياسي، والشباب، وحسن إدارة التنوع الكبير فى البلاد. ليست هذه المرة الأولى التي يغمى على الترابي، فقد تكرر الأمر، منذ التسعينيات، ويقول مقربون منه، إنها جراء الإجهاد ويستشهدون بنقص مفاجئ في السكر، أصابه قبل ندوة في 2010، وفقد وعيه على إثرها، علمًا بأنه يمتاز بنظام صحي دقيق، يحتوي على تمارين اعتادها منذ سجنه الأول، في عهد الرئيس النميري. ويكرر كثيرون تأثره بآثار الاعتداء أو محاولة الاغتيال التي تعرّض لها في مطلع التسعينيات على يدي بطل الكاراتيه السوداني هاشم بدر الدين، الأمر الذي ينفيه بحسب المقربون منه. وكما اختلف أهل السودان على تقويم شخصية الترابي في حياته، كذلك اختلفوا على تعريف إرثه السياسي والثقافي بعد موته، فمنهم من رأى فيه مثالاً للإنسان الدؤوب على العمل، كونه توفي وهو يعمل في مكتبه في دار الحزب صباح السبت، في حين نعته «حركة جيش تحرير السودان» بقيادة عبد الواحد محمد نور، ولكنها انتقدت مشروعه لأنه، في نظرها، المتهم الأول في دفع البلاد إلى حافة الهاوية، وإلى ما نراه من تمزق واحتراب. في الإطار الفكري، وضمن منظومته التي حاول تطويرها، اشتهر بآراء غير معتادة استحوذت على نقاش الرأي العام، مثل إمامة المرأة لأهل بيتها وخاصتها، وزواج المسلمة من الكتابي فى ظروف معينة، ونسب إليه البعض إعادة تفسيره لمعنى الحجاب، الذي قال إنّه شيء آخر غير الخمار والحجاب، هو خاص بزوجات النبى صلى الله عليه وسلم ليقرن فى بيويتهن ولا يخرجن إلا لحاجة، وردّ عليه كثيرون حديثه عن استواء عدالة الصحابة، وإنكار عذاب القبرالمادي لا المعنوي، الذي قال إنه لا يستقيم عقلاً، لأن الجسد يتكون من 70% من الماء، فلا مجال لعذاب يحسه، وانتشر عنه الرأي بأن البيعة الشرعية إنما هي لله وليست لحاكم، وأن الأمر لا يتولاه فرد بل أولي أمر، هم أمراء. يفسر المراقبون آراؤه الدينية بالمجال السياسي الذي يعمل فيه وتنعكس الآثار عليه. يقول أدباء السودان ممن رافقوا مسيرة الترابي أنه تأثر جداً بالثورة المهدية التي أطلقها محمد أحمد بن السيد عبد الله في صيف 1844، وقد بسط سلطاته فوق رقعة واسعة تمتد من البحر الأحمر حتى وسط إفريقيا، وزحف من أم درمان إلى الخرطوم فاحتلها، ثم أعلن «نفسه» مهدياً لحكومة دينية. وكان السودان في حينه خاضعاً لسلطة مصر المحكومة من قِبَل الأمبراطورية العثمانية، ولما حاصر أنصار المهدي الخرطوم تجرأوا على اغتيال الجنرال الإنكليزي غوردون، وقد جزوا رقبته وحملوا رأسه على حربة، بهدف تطمين السكان السذج الذين كان يخيفهم الأجنبي المحتل. وقد أدت هذه الحادثة إلى إعادة احتلال السودان بقيادة الجنرال كتشنر. وفي آخر حياته قبل دعوة الحوار التي وجهها الرئيس البشير لخصومه بينما قاطعتها غالبية أحزاب المعارضة والحركات المسلحة التي تحارب الحكومة، وحذّر الترابي بأن أمر السودان أصبح في يد القوى السياسية، إما أن تحيله إلى فوضى أو إلى بلد مستقر، ودعا إلى تشكيل حكومة تدعم الحريات وتسمح بانتخابات لاختيار مجلس تأسيسي يضع دستورا ثابتا للبلاد. وقال الترابي، في ندوة حول التعديلات الدستورية المرتقبة، نظمتها نقابة المحامين بالخرطوم "إذا جنحوا للسلم فاجنح لها"، كاشفا أن "الحكومة السودانية أيضا متضررة، لذا دعت ل"الحوار"، وبرّر قبوله الحوار بأن المعارضة عجزت عن إسقاط النظام. كان للدكتور الترابي دورا كبيرا في إنجاح الحوار، ليس بمشاركة حزبه، بل بذل جهودا لإقناع غالبية أحزاب المعارضة للانضمام إليه، ووضع تصورا لما بعد الحوار أسماه المنظومة الخالفة، والتي تجمع الأحزاب فى منظومة وفق رؤية إسلامية وطنية، لكن عاجلته المنية وتوفي إثر إصابته بذبحة قلبية توفي على إثرها في مستشفى "رويال كير" في الخرطوم، وذلك يوم 05 مارس 2016. * تجربة أنهت الجدل السياسي ودخلت في مربع الفعل: وعود على بدء فإنه من المفارقات أنك عندما تحاول قراءة مشروع الحركة الإسلامية في السودان وفصله عن رأي الشخص القائد لا تكاد تنجح في ذلك، على اعتبار قوة وغزارة الفكر والخطاب والممارسة التي كان الترابي يتميز بها عن أقرانه، بالرغم من أن وثائق الحركة الإسلامية في السودان منشورة، وهي معلنة وليست سرية، لكن يبقى تأثير القيادة دائما قائما لأنها تنطق باسم الحركة يوميا وتتعاطى مع معطيات الساحة فوريا، ونحن هنا لسنا بصدد دراسة شاملة لفكر الترابي ومواقفه من الأحداث، ولكننا سنتحدث عن خطاب ومقاربة الحركة الإسلامية في السودان كما عرضتها الكتابات المتوفرة لدينا، سواء كانت مواقف للترابي أو سياسات ومواقف للحركة كمؤسسة. يقول البروفيسور حسن مكي: لقد انتهت الحركة الإسلامية السوادنية إلى أن الجدل السياسي والمدافعة السياسية مهمة ولكنها غير كافية، في ظروف حرب أهلية موصولة بالجدل السياسي في المدينة، بل حركة سياسية وعسكرية أصبحت طرفا في الجدل السياسي بالبنادق وبإذاعتها وبخطاب جماعات اليسار، لذا عمدت الحركة الإسلامية لإبراز نفسها نصيراً للدولة ممثلة في جيشها وأجهزتها العسكرية، فكانت مسيرة أمان السودان وجمع المال والذهب لمناصرة الجيش ومده بعربات الأهالي المنضوين تحت خط الحركة. وفي ذات الإطار، تم تفعيل إستراتيجية التمكين بالتغلغل في الأجهزة ولكن في إطار خطاب سياسي أدى إلى أن تفوز الحركة وبجدارة في أكثر من خمسين دائرة نصفها جغرافي والنصف الآخر في المدن " دوائر الخرطوم ودنقلة وبقية مدن السودان "، ولأول مرة اكتسبت الحركة الإسلامية شوكة شعبية أصيلة مكنتها من التحالف وأخذ نصيب من السلطة السياسية القائمة على مشروعية انتخابية، بل حتى إخفاقها في كسب دائرة أمينها العام د. الترابي في دائرة الصحافة عنى أن الحركة الإسلامية استطاعت أن تخرج بنتيجة مشرفة مع تكتل كل القوى السياسية ضدها، ورمزية ذلك أن ولاءها الخاص في الخرطوم كاد أن يصل إلى 50% من حركة الجدل السياسي. وفي إطار الجدل السياسي، كان صوت الحركة الإسلامية هو الإعلام في الصحافة والإعلام والخطابة والعمل السياسي بين الطلاب والنقابات. سعى اليسار معززا باستدراج القوى الدولية لوضع القوى السياسية الحاكمة "الحزبين الكبيرين" في تسوية سياسية تضع الحركة الشعبية لتحرير السودان في مركز الحياة السياسية السودانية وإقصاء الحركة الإسلامية، وكان لكل فعل رد فعل مساو له في القوة ومعاكس له في الاتجاه. ويؤكد الشنقيطي على مقاربة الحركة في علاقتها بالسلطة، حيث لم تتعامل مع حكام السودان بعقلية جبرية متصلبة، بل كانت مرنة جدا، فشارك زعيمها الرشيد الطاهر في محاولة انقلاب على الجنرال عبود عام 1959، وشاركت الحركة في انتفاضة أكتوبر 1964م، ووقفت في وجه نميري 1969-1976، وتحالفت معه 1977-1985، وكان هذا الحلف هو الذي أكسبها النمو والامتداد، واختراق أجهزة الجيش والأمن، واكتساب الخبرة السياسية والمراس الإداري. وبين يدي هذه الجدلية ولدت ثورة الإنقاذ الوطني في 30 جوان 1989م، من رحم الحركة الإسلامية وكابن شرعي لمشروعها السياسي القائم على إيجاد كيان للدولة السودانية القائم على مشروعية وطنية /إسلامية، مثَّل الجنوب والخارج، التحدي الأساسي لمشروع الحركة الإسلامية، وحسب قراءتها للوقائع، فالحركة السياسية التقليدية قد شاخت واليسار والجنوب دون المدد الخارجي لا يسوي كثير شيء ، كانت هذه هي القراءة، أكان من الأفضل أن توالي الحركة تطورها في اتجاه التمكين السياسي القائم على التفويض الانتخابي والعمل السياسي الدؤوب أم بالطفرة والشوكة العسكرية؟، ما يهم قد تختلف الآراء ولكن في النهاية، اتخذ القرار وكانت النتيجة حكم صغار الضباط في إطار رايات الحركة الإسلامية.
محطات مهمة عقب التأسيس * شاركت الحركة الإسلامية مباشرة بعد تشكيلها رسميا في العمل السياسي عبر المطالبة باستقلال السودان، وعقب الاستقلال الوطني قادت الحركة -بقيادة الأستاذ الرشيد الطاهر بكر- حملة ضخمة للمناداة بدستور إسلامي للسودان من "الجبهة الإسلامية للدستور"، ونظمت حملة لحشد الدعم السياسي والشعبي لفكرة الدستور الإسلامي. * ولكن قطع انقلاب نوفمبر 1958م -بقيادة الفريق إبراهيم عبود- الطريق أمام المطالبة بالدستور الإسلامي، وخاضت الجماعة في 1959م أول مواقفها في المعارضة السياسية، حيث طالبت النظام العسكري الجديد عبر جناحها الطلابي القوي (اتحاد طلاب جامعة الخرطوم)، بالرجوع إلى الثكنات وتسليم السلطة للشعب، فيما يعرف بمذكرة اتحاد جعفر شيخ إدريس، المفكر الإسلامي المعروف فيما بعد. * وفي العام 1959م نفسه شارك قائد الجماعة الرشيد الطاهر في محاولة انقلابية فاشلة ضد حكومة الفريق إبراهيم عبود التي كانت قد جاءت إلى الحكم بدورها بانقلاب عسكري في العام السابق، ونتيجة لذلك أقالت الجماعة بكرا من القيادة -أثناء وجوده في السجن- باقتراح من الدكتور حسن الترابي. (وتحريا للدقة لم يثبت أن الإقتراح كان من الترابي، فهو لم يكن الأمين العام بل كان هناك قيادة جماعية للحركة فيها محمد صالح عمر شخصا رئيسا). * كونت الجماعة في منتصف الستينيات "جبهة الميثاق" وانتخب الدكتور الترابي بواسطة الجبهة، والجبهة كانت وعاء واسعا ضم جماعات صوفية مثل التجانية والسمانية، كما ضم أنصار السنة السلفية رئيسا لجبهة الميثاق، وهو الوعاء التحالفي الذي يجمعها بالحركة السلفية الناشئة آنذاك، والطرق الصوفية من أجل المطالبة بتطبيق الشريعة الإسلامية، وشاركت الجبهة في انتخابات عام 1965، حيث كسبت عددا قليلا من المقاعد في البرلمان، ولكنها استطاعت حشد الدعم والتأييد لمشروع الدستور الإسلامي في البرلمان حتى أوشكت على الإجازة لولا انقلاب الرئيس جعفر النميري في 1969م. * في أواخر الستينيات برز خلاف حاد بين تيارين من تيارات الإخوان المسلمين في السودان حول شخصية حسن الترابي وقيادته للجماعة، (وهناك من يقول إن الخلاف لم يكن الخلاف حول شخصية الترابي، بل هو خلاف بين مدرسة تجعل الأولوية للعمل السياسى وأخرى تجعل النشاط التربوي الداخلي هو الأساس، وكانت الغالبية مع العمل العام لا التربية الخاصة)، وبلغت الخلافات مرحلة الانشقاق بعد فشل المعارضين للترابي في إزاحته من القيادة في المؤتمر العام 1969. * يقول الأفندي: "ولكن الانشقاق تأجل بسبب قيام انقلاب ماي عام 1969، الذي جاء بحكومة يسارية معادية للإسلاميين زجت بهم في السجون، ودخلوا معها في معارك استمرت حتى عام 1977، حين عقدت المعارضة صفقة المصالحة الوطنية مع حكومة الرئيس جعفر النميري، وشارك الإسلاميون في السلطة، ولكن في ذات الوقت خرجت مجموعة بقيادة الشيخ صادق عبد الله عبد الماجد، والبروفيسور الحبر يوسف نور الدائم على الجماعة، وكونت تنظيما خاصا باسم الإخوان المسلمين.(يذكر أن الخلاف مع صادق عبد الماجد حول البيعة للتنظيم الدولي التي رفضها مجلس شورى الحركة..). * استطاع التنظيم الذي يقوده الترابي في جوان 1989م الإنقلاب على الحكومة المنتخبة التي يرأسها السيد الصادق المهدي، زعيم حزب الأمة، ليضع الحركة الإسلامية في سدة الحكم، في تجربة فريدة من نوعها في العالم الإسلامي السني.