ما فتئت دنيا الفكر العربي الإسلامي تتلبد غيومها، وتسود تخومها، بتساقط كواكبها، وأفول نجومها . لحاها الله أنباء النعي - هذه - التي توالت، وتواترت، على مسامعنا، حاملة إلينا أخبار الشؤم، المنذرة بتهاوي سلسلة من جبال المعرفة، ومجموعة من أساطين القلم . * فمن فؤاد زكرياء، إلى عبد الوهاب المسيري، ومحمد عابد الجابري، ومرورا بنصر حامد أبي زيد، وحمودة سعيدي، وانتهاء بعبد الله شريط، والطاهر وطار، وأخيرا محمد أركون. إنها تصدعات في جدار الخطاب العربي، يصعب ترميمها، وخسارة علمية من النوع الذي يورث ذبحة في الصدر، ولوعة في الفكر . * كانت آخر بنت من بنات الدهر أصابتنا، هي رحيل الباحث الأكاديمي الإسلامولوجي محمد أركون. فهذا الكوكب الذي كان آخر الآفلين، يمثل استقلالية نفسية، وتحررا روحيا، اجتمعت، على صياغته عدة عوامل، لعل أبرزها، نشأته بين أحضان "الآباء البيض"، وترعرعه وسط المنهج الفرنسي، وتمرده على العمل الوطني، وتبنيه للخط الاستشراقي، واقتناعه بالإيديولوجية العلمانية، واتخاذه المنهج التوفيقي وسيلة لذلك . * إن محمد أركون، من الذين خلطوا - في الفكر الإسلامي - رأيا صالحا وآخر سيئا، عسى الله أن يتوب عليهم. وأيا كانت مجالات اتفاقنا معه أواختلافنا، فهو يمثل في الفكر الإسلامي المعاصر ظاهرة فكرية خاصة، هي ما أصبح بعرف "بالظاهرة الفكرية الأركونية"، التي صارت بما تحتله من حيز في فضاء ثقافتنا حقيقة فلسفية لا يمكن لأي دارس، تجاوزها أو القفز عليها . * ويكمن مصدر أهمية "الظاهرة الفكرية الأركونية" في كونها معقدة العناصر، متعددة الفصول، واسعة الانتشار، وهو ما يضاعف من صعوبة مهمة كل دارس لها، في محاولته الإحاطة بخصوصياتها أو ملاحقة سيرورتها، ورصد محدداتها. ويمكن حصر عناصر الفكر الأركوني في ثلاثة منطلقات، هي المصطلح، والمنهج، والمضامين . * فالمصطلح الأركوني مشتق من ثقافته الموسوعية التي تطبع فكره بلغاته المختلفة، هي الفرنسية، والعربية، والإنجليزية، من حيث الأداء، وإلى تخصصاته المعرفية المتنوعة، كالتاريخ، والفلسفة، والأدب، وعلم الاجتماع، والقانون والشريعة من حيث التوجه، وإلى المراحل الزمنية المتداخلة في اهتماماته، قديمها وحديثها، جاهليتها وإسلاميتها، مسيحيتها، ويهوديتها من حيث العصور . * من هنا جاءت هذه الأدوات المعرفية التي اتخذها محمد أركون لبناء نسقه الفكري، فجاءت "كثوب ضم سبعين رقعة وفكرة، وكلها تهدف إلى تحقيق غايته الاستشراقية، وإن أنكر ذلك، وأهدافه العلمانية، وإن لم يصرح بذلك.. وللقارئ أن يخضع للتأمل بعض ما سنعرض من أدوات ليستنبط بعض المعاني التي سقناها، ومن هذه الأدوات: الأرثودوكسية، والعقلية الدوغمائية، واللاإيمان، واللاعقائد، واليوطوبيا، والأبستمية، ومنهجية الحفر والتعرية، ومنهج التفكيك، والتراث المفتت، والسيكولاستيكية، والتكرارية، والقراءة السيميائية، والتحليل السيميائي، والقطيعة التاريخية، والمعارف القرطوسية، والمنهج الفيلولوجي، ومنهج التاريخانية، والممارسة التبشيرية للنبي محمد (عليه الصلاة والسلام)، والدراسة التفكيكية للفكر الديني الإسلامي، والانتقادات الاصتباطية، والعلمنة والعلمانية، والخطاب الاستشراقي، وعامل التقديس، والتيولوجيا، وعلم لاهوت مثالي، والتاريخ التفكيكي للفكر الإسلامي، وغير ذلك من المفاهيم والمصطلحات . * إن نقطة القوة في فكر محمد أركون هي الشجاعة في نحت أدوات معرفية، من فكر "الآخر"، واقحامها بطريقة تعسفية في فكر "الأنا". أما نقطة الاختلاف معه، فهي محاولته وضع القبعة الغربية المسيحية الاستشراقية المزركشة، على الرأس العربي الخشن بالعمامة، والقوي بالإيمان. وتلك هي الظاهرة التوفيقية التي حمل الباحث الإسلامولوجي لواءها .. وهل يمكن اصلاح الشرق المريض لشرقيته، بالغرب المريض بغربيته؟ L ' occident malade de son occident * إن من شأن هذه المصطلحات التي تعج بها لغة محمد أركون، أن تقود إلى خطورة اللغة المستعملة، وغرابتها، وثقل المفاهيم المتضمنة إياها . * كذلك، فإن من شأن هذه المصطلحات المساهمة في فك أسرار وألغاز محمد أركون، في الكشف عن المطبات العقلية والكمائن الأيديولوجية التي قد لا يأمن قارئ فكره من الوقوع فيها . * فإذا مددنا الخطى، يعد المصطلح إلى المنهج، اكتشفنا أيضا مزيجا من المناهج مثل : * 1 - منهج القراءة السيميائية، أو التحليل السيميائي للنصوص المقدسة [ أنظر كتاب الفكر الإسلامي قراءة علمية، بيروت 1987 ص 32 ] . * 2- منهجية الحفر والتعرية أو منهج التفكيك للتراث، على أساس أن هذا التراث كما يعرفه الأستاذ محمد أركون "هو مجموعة متراكمة ومتلاحمة من العصور والحقب الزمنية، كطبقات الأرض والجيولوجيا الأركولوجية" [المصدر السابق ص10]. * 3- منهج التاريخانية، وتطبيق علم الإنسان والمجتمع على دراسة الإسلام، وفي هذا المنهج يعمل د/ محمد أركون على القيام بما يسميه "مواجهة الرفض العنيف الخاص، بالمناضلين من أجل الإيمان، الذين يشكلون اليوم في كل مكان، مجموعات عديدة تهدد بالخطر كل الأنظمة الراهنة" [المصدر السابق ص 87 ] . * فإذا أضفنا إلى عنصري المصطلح والمنهج، عنصر المضامين، والذي يمثل ثالثه الأثافي في الفكر الأركوني، تجلى لنا - عنده - طغيان الهاجس النقدي الرافض لمعنى المقدس في النص، ويكفي أن يستعرض الدارس مجموعة عناوين مؤلفات أركون، ليدرك كنة هذه الأحكام. * ولعل أهم ما يسترعي الانتباه في دراسة فكر الأستاذ محمد أركون هو حمله لواء الدعوة، إلى اضفاء الطابع الكاثوليكي، والأديولوجي على الفكر العربي الإسلامي، كرد فعل للدعوة المرفوعة في الفكر الإسلامي والعاملة على أسلمة المعرفة في ثقافتنا الخاصة، أو أسلمة الحداثة، على حد تعبير المفكر المغربي عبد السلام ياسين . * ففي حديثه - مثلا - عن قضايا منهجه ضمن الفصل الذي خصصه في كتابه "الفكر الإسلامي قراءة علمية" لما سماه القدسي، والثقافي والتغيير، يتحدث المؤلف عن مفهوم السيادة العليا في الفكر الإسلامي فيقول: "إن أول صعوبة ينبغي علينا مواجهتها هي مسألة المفردات والمصطلحات المستخدمة من قبل المفكرين القدامى والمعاصرين بخصوص معالجة الظاهرة الدينية ودراستها " * ولا يكتفي المؤلف بإلباس الكلمات العربية الطابع الكاثوليكي أو الزي الغربي الحضاري كالتقديس، والطقوس، والثيولوجيا، وعلم اللاهوت، بل أنه يمضي إلى أبعد من ذلك، فيلبس المفكرين المسلمين القدامى أيضا قبعة الفلاسفة الغربيين العلمانيين، من ذلك ما فعله بالماوردي، وأبي حامد الغزالي، حيث يقول: "نجد من وجهة النظر هذه أن تنظير الماوردي، أو الغزالي، لا يختلف في شيء عن تنظيرات دوركايم، أو علماء الإجتماع الماركسيين بخصوص الدين [الفكر الإسلامي قراءة علمية، ص 160]. * وأخطر من ذلك، ما يصدره الدكتور أركون من أوصاف بخصوص المؤمنين الذين يعلون من قيمة العصر الذهبي للمسلمين، أو يتطلعون إلى الجزاء الأخروي. فالإيمان بالجنة يحيلنا وفق منظور أركون "إلى طوباويين ذوي أحلام وردية". وتمسكنا بالتقوى والاستقامة، يجعل منا دوغمائيين، ولا نجد من تفسير لما يذهب إليه الفيلسوف العقلاني محمد أركون، سوى طغيان الثقافة الفرنسية المسيحية على عقله الذي لا ينظر إلى الفكر الإسلامي إلا من خلال فكر القرون الوسطى المسيحية . * وبعد فقد أفضى الأستاذ محمد أركون إلى ربه، بعد أن ملأ الفضاء المكتبي، كتبا، والفضاء الفكري صخبا، وهو في كل هذا له أجر المجتهد، ولكل مجتهد نصيب، وإنا لفراقه لمحزونون . *