* من قيادة المنظمة إلى الخروج من الأردن في يوم انتخابه على رأس منظمة التحرير، جمع عرفات أكثر من مهمة، فهو رئيس اللجنة التنفيذية، ورئيس قيادة الكفاح المسلح، وغدت م.ت.ف هي الإطار المركزي الذي تنضوي تحته المنظمات الفدائية التي أصبحت تتكاثر حتى بلغ عددها نحو ثلاثين منظمة. لقد بدا عرفات واثقاً من نفسه، يتكلّم بصراحة صلبة، وهو يشق طريقه على رأس المنظمة للوصول إلى أهدافه الوطنية، ولم يكن يخشى من استخدام تعبيرات صدامية في أكثر من موقف ومجال. وفي صفته الجديدة، استقبله الرئيس جمال عبد الناصر وأعضاء اللجنة التنفيذية طالباً منه أن تبقى مصر داعماً للمقاومة المسلحة الفلسطينية. وفي 16 شباط (فبراير) تفقد عرفات قوات القادسية في الأردن، وقابل الملك حسين معلناً نيته نقل قوات جيش التحرير الفلسطيني المرابط في مصر إلى الأردن، طالباً منه الموافقة وتسهيل المهمة، وتفقد جيش التحرير في سوريا يوم 23 شباط (فبراير) واجتمع بالرئيس السوري نور الدين الأتاسي. وبعد ذلك قام عرفات بجولة في عدد من الدول العربية، فزار الكويت في آذار، وليبيا والسودان في حزيران، والعراق في تموز، وقد توخّى من هذه الزيارات أن يؤكد للملوك والرؤساء، وللشعب الفلسطيني والأمة العربية، إصرار المنظمة على الاستمرار في ثورة التحرير الفلسطينية. وفي مؤتمر القمة العربية الخامسة التي عقدت في الرباط 21-23 كانوان الأول (ديسمبر) 1969 احتفل به، احتفال الأبطال، استقبله الملك المغربي في المطار، وهتفت له الجماهير المحتشدة، وخصص له مقعد بين الملوك والرؤساء العرب. ونتيجة انحيازه لقضية شعبه، "أصبح عرفات صديقاً لأعداء الإمبريالية في العالم أجمع، لم يترك مناسبة تمر دون أن يهاجم الإمبريالية الأميركية التي تدعم "الصهاينة" داعياً "فيدل كاسترو" لزيارة قواعد الفدائيين الفلسطينيين في الأردن (لم يوافق الملك حسين عليها)، أو ممجداً "تشي جيفارا" لمناسبة عيد الثورة الكوبية في تموز (يوليو) 1970. كان لعرفات آيضاً أصدقاء مهمون في الشرق الأقصى، فقد زار الصين الشعبية يرافقه خليل الوزير، وبدعم من الجزائر في آذار (مارس) 1964، إلا أنّ هذه العلاقات تطوّرت بعد العام 1968، فاستقبله رئيس الوزراء الصيني "شو إن لاي" باحتفاء كبير، وردد له عبارة "ماوتسي تونغ" الشهيرة، "السلطة موجودة على فوهة البندقية" وتلقى وعوداً بأسلحة وتدريبات. وكذلك زار فيتنام الشمالية، على رأس وفد من المنظمة العام 1970، حيث التقى الجنرال "جياب" الذي أعلن عن تأييده المطلق للثورة الفلسطينية وأهدافها. ومع أن علاقاته مع الصينوفيتنام وبعض بلدان العالم الثالث بدت وطيدة، إلا أن عرفات راح يسعى إلى تأمين دعم آخر: وهو دعم موسكو التي لم تشكك بحق اسرائيل في الوجود، وتؤيد القرار 242، ومع ذلك راح عرفات يسعى إلى فتح حوار مع السوفييت على أمل تطوير موقفهم تجاه القضية الفلسطينية. وكان قد سبق لعرفات أن زار العاصمة السوفييتية برفقة الرئيس عبد الناصر في تموز (يوليو) عام 1968، باسم وجواز سفر مصريين، تمكن خلالها من اللقاء مع سكرتير اللجنة المركزية للحزب الشيوعي "بوريس بونوماريوف" فتمكن من الحصول على أسلحة بقيمة مليون دولار، سوف تصل عن طريق سورية. وفي داخل المنظمة، لم تكن بداية الانتقال إلى التبديلات الإدارية والعسكرية نموذجية جداً، فقد بدأت تظهر أمام عرفات عدة ظواهر يجب معالجتها قبل أن يتفاقم خطرها. منها: تعدد المنظمات الفلسطينية وبعضها تابع للدول العربية، الوضع في لبنان والتصادم مع الجيش اللبناني، وانتشار واسع في الأردن. ففي بداية تشرين الثاني (نوفمبر) بدأت أولى المواجهات بين الجيش الأردني وقوات الفدائيين في مخيمي الوحدات والحسين، تمكّن عرفات من عقد اتفاق مع الملك حسين على خروج المقاتلين، لكنهم ما لبثوا أن عادوا مرة أخرى، وظل الوضع متردياً، في حين كان عرفات غارقاً في فض النزاعات بين التنظيمات، والحيلولة دون تنفيذ ما أراده من تبديلات إدارية وعسكرية للشعب الفلسطيني وقواه العسكرية، حتى فتحت عليه جبهتان جاءت لصالح النظام الأردني، وانتكاسة لطموح عرفات: الأول: الإعلان في 9 حزيران (يونيو) 1970 عن قبول القاهرة وعمان موافقتهما بتطبيق مشروع روجرز، وزير الخارجية الأميركية، ويضمن المشروع إجراء تسوية سلمية ترتكز على مضمون القرار 242 المتخذ في مجلس الأمن، ما انعكس سلباً على موقف المنظمة التي رفضت تأييد هذا المشروع. الثاني: قيام الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، باختطاف أربع طائرات مدنية، ورغم غضب عرفات من إجراء هذا الاختطاف، وتعليقه عضوية الجبهة الشعبية في اللجنة التنفيذية، إلا أن المواجهات مع النظام الأردني قد تصاعدت، حتى جاءت الصدمة الثالثة لعرفات، فقد عقد الرئيس جمال عبد الناصر مؤتمر قمة عربية في القاهرة، أفضى إلى اتفاقية بين المنظمة والملك حسين على وقف اطلاق النار، وغيرها من البنود، وبينما يودع عبد الناصر آخر الزوار من الملوك والرؤساء، أصيب بنوبة قلبية أودت بحياته مساء يوم 28 أيلول (سبتمبر) 1970. وبحزن فائق، قال عرفات، "لقد فقدت المقاومة حليفاً غالياً". وعلى الفور تحرّك عرفات على رأس وفد من حركة "فتح" ومنظمة التحرير الفلسطينية للمشاركة في الجنازة التي أقيمت في القاهرة، وأعلن هناك، عن منح لقب الزعيم الخالد "جمال عبد الناصر، شهيد الثورة الفلسطينية". هذه العوامل الثلاثة، مكنت من الإخلال في التوازن، ساهمت في خروج المقاومة الفلسطينية من الساحة الأردنية، وكذلك استشهاد عضو اللجنة المركزية لحركة فتح أبو علي اياد، واعتبرت جميع اتفاقيات "حسين" "وعرفات" لاغية. * الاعتراف الدولي بمنظمة التحرير حمل ياسر عرفات والقيادة الفلسطينية جرحهم العميق بعد الخروج من الأردن، ولم يبق لهم سوى ترتيب الأوضاع الداخلية، وإعادة بناء المقاومة في لبنان، ولهذا قال عرفات جملته المشهورة "يا سارية الجبل" عندما طلع إلى جبل الشيخ. في ضوء ذلك، انعقد المؤتمر الثالث لحركة فتح، في سوريا عام 1971، وبعد نقاشات ومداورات، استطاع ياسر عرفات وبعض أعضاء اللجنة المركزية، التخفيف من حدة التوتر والثأر من النظام الأردني، وأدخل في تشكيلات الحركة (اللجنة المركزية والمجلس الثوري) بعض رموز اليسار الفتحاوي، وبدأ التوجه نحو لبنان. إلا أن لغة الثأر ظلت سائدة لدى البعض، فأخذته سرية تشكّلت من أعضاء في حركة "فتح" أفرغ اثنان من أصل أربعة مقاتلين رصاصهما في جسد رئيس الوزراء الأردني "وصفي التل"، وكانت هذه أولى عمليات "أيلول الأسود" وعرف فيما بعد أن صلاح خلف (أبو اياد) يقف وراءها. أما عرفات فكان يردد: "هذه ليست "فتح" وليس بمقدوري أن أمنع هؤلاء من القيام بعملياتهم"، لكنه لم يدن هذه العملية إطلاقاً. إلاّ أن العملية الأكثر عنفاً، هي تلك التي وقعت في 5 أيلول (سبتمبر) 1972، حيث تمكّن سبعة رجال من الدخول إلى مقر إقامة الوفد الإسرائيلي المشارك في الألعاب الاولمبية في ميونيخ، وخطفوا بعضاً منهم، فجرى اشتباك بعدها مع القوات الألمانية باشراف من الموساد الإسرائيلي، ادّى إلى مقتل تسعة لاعبين من الفريق الإسرائيلي، كما قتل خمسة من المهاجمين، إلا أن هذه العملية تركت أثراً كارثياً على الرأي العام، وأدان العالم كلّه هذا العمل "الإرهابي". ثم جاء الرد الإسرائيلي، "رهيباً" وأشد قسوة، فقصفت طائراته 11 مخيماً في لبنان، أسفر عن أكثر من 200 ضحية. الأمر الذي دفع عرفات إلى القول: "مئات من الأبرياء قتلوا في مخيمات اللاجيئن، دون أن يتحرك المجتمع الدولي، يبدو أن دمنا أرخص من دمهم". وأصدرت "غولدا مائير" رئيسة وزراء إسرائيل، قراراً بقتل كل من له علاقة، من قريب أو بعيد بايلول الأسود. فراح ضحية "حرب الأشباح" التي شنتها مقتل أحد عشر كادراً فلسطينياً في أوروبا وغيرها. إلى أن جاءت عملية "فردان" التي راح ضحيتها ثلاثة من قادة منظمة التحرير الفلسطينية هم: يوسف النجار (أبو يوسف) وكمال عدوان وكمال ناصر، قامت بها وحدة كوماندوس، وتعتبر إحدى أبرز العمليات التي قامت بها إسرائيل ضد المنظمات الفدائية. ما أجج الغضب بين الأوساط الفلسطينية وأنصارهم اللبنانيين، فانطلقت جنازة للقادة الثلاثة بمشاركة نحو ربع مليون مشارك، ما دفع الرئيس اللبناني "سليمان فرنجية" للقول لعرفات: "نحن لسنا قادرين على الدفاع عنكم، ما عليكم إلاّ أن تدافعوا عن أنفسكم بأنفسكم إن استطعتم". في هذه الفترة، جرت تطورات مهمة منها، إعلان الملك حسين عن مشروع "المملكة العربية المتحدة" فرفضه عرفات والقيادة الفلسطينية. واعلنت سلطات الاحتلال عن تنظيم انتخابات بلدية (هي الأولى) في الضفة الغربية، فقاطعها المؤيدون للمنظمة ففشلت. الأمر الذي دفع عرفات للدخول في العملية السياسية والدبلوماسية، التي تؤيدها الأنظمة العربية، أو غالبيتها، وتجد صداها لدى الرأي العام الدولي. في هذا المجال، دعا عرفات واللجنة التنفيذية المجلس الوطني للانعقاد، ومؤتمر شعبي مرافق له، دعي إليه قرابة 500 شخص، انعقد في القاهرة، نيسان (أبريل) 1972، وقد "أسهم ذلك في بلورة الاتجاه نحو الاستقلال الوطني على الساحة الفلسطينية، وفي إضعاف معارضيه من الفلسطينيين ممن كانوا يعارضون حتى ذلك الوقت لتبرز بصورة جدية مسألة "القرار الفلسطيني المستقل".