عمر حلمي الغول جاء إعلان الاستقلال الفلسطيني في الخامس عشر من نوفمبر 1988 في مدينة الجزائر العاصمة، في قصر الصنوبر، مع انعقاد الدورة ال(19) للمجلس الوطني الفلسطيني، استجابة لإرادة الشعب العربي الفلسطيني، الذي كان عمد كفاحه التحرري بانتفاضة عظيمة وجبارة، أشعلت الأرض تحت أقدام المحتلين الإسرائيليين في التاسع من ديسمبر 1987، وأعادت الاعتبار للقضية الوطنية بعد أن كادت الولاياتالمتحدةالأمريكية وحلفائها العرب النجاح في مساعيها التآمرية لتهميشها، وإزاحتها عن سلم الأولويات العربية، كما حصل في قمة عمان العربية قبل شهر من انطلاقة شرارتها الأولى. عشية الانتفاضة الباسلة كانت تغطي سماء الكفاح الوطني التحرري غيوم كثيفة، حيث شهدت المخيمات الفلسطينية في أعقاب خروج الجزء الأساسي من قوات الثورة الفلسطينية من بيروت بعد الاجتياح الإسرائيلي للبنان، الذي استمر 88 يوما، وتوزعها على العديد من الساحات العربية، تلاها مباشرة إرتكاب الجيش الإسرائيلي والقوات الإنعزالية اللبنانية مجزرة صبرا وشاتيلا التي ذهب ضحيتها قرابة خمسة آلاف شهيد من الأطفال والنساء والشيوخ والشباب، ثم قيام النظام السوري بشق حركة التحرير الوطني الفلسطيني فتح، وافتعال معارك الأخوة في البقاع ومخيمات اللجوء في شمال لبنان في ماي عام 1983، وبعد ذلك فتح دوامة حرب المخيمات في بيروت من قبل حركة «أمل» المدعومة من نظام حافظ الأسد في العام 1985، إستمرت عامين كاملين، وجاءت القمة العربية في الثامن من نوفمبر 1987 في العاصمة الأردنية لتتوج عملية الإزاحة للقضية الفلسطينية عن مكانتها المركزية للعرب. لكن جدلية وفرادة العلاقة بين مكونات الجسد الفلسطيني الواحد أطاح بالمخطط التآمري مع اشتعال شرارة الانتفاضة الكبرى نهاية 1987، مما أجبر أهل النظام السياسي العربي لعقد قمة عربية طارئة في الجزائر العاصمة في جوان 1988 لتعيد الاعتبار للقضية الفلسطينية، وتضعها على سلم الأولويات العربية والدولية، رغما عن القوى المتكالبة عليها، وعلى قيادة منظمة التحرير الفلسطينية، الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني. من هنا جاءت الدورة التاسعة عشر للمجلس الوطني في الجزائر العاصمة لتعمق التحول في الفكر السياسي الفلسطيني، الذي تم تبنيه في الدورة الثانية عشرة في القاهرة عام 1974، عندما أقرت منظمة التحرير برنامج النقاط العشر، أو ما أطلق عليه البرنامج المرحلي من خلال إعلان وثيقة الاستقلال التي تلاها الرئيس الرمز الراحل ياسر عرفات، وتضمنت إعلان إقامة "الدولة الفلسطينية فوق أرضنا الفلسطينية وعاصمتها القدس الشريف". وجرى تحديد طبيعة ومركبات الدولة المنشودة، كما حددتها الوثيقة العبقرية "إن دولة فلسطين هي للفلسطينيين أينما كانوا، فيها يطورون هويتهم الوطنية والثقافية، ويتمتعون بالمساواة الكاملة في الحقوق، تصان فيها معتقداتهم الدينية والسياسية وكرامتهم الإنسانية، في ظل نظام ديمقراطي برلماني يقوم على أساس حرية الرأي وحرية تكوين الأحزاب، ورعاية الأغلبية حقوق الأقلية، واحترام الأقلية قرارات الأغلبية، وعلى العدل الاجتماعي والمساواة وعدم التمييز في الحقوق العامة على أساس العرق أوالدين أواللون أوبين المرأة والرجل، في ظل دستور يؤمن سيادة القانون والقضاء المستقل، وعلى أساس الوفاء الكامل لتراث فلسطين الروحي والحضاري في التسامح والتعايش السمح بين الأديان عبر القرون". وتابعت الوثيقة بتأكيد العلاقة الديالكتيكية بين الشعب الفلسطيني وأمته العربية، حيث أكدت أن دولة فلسطين جزء لا يتجزأ من الأمة العربية، ومن تراثها وحضارتها، ومن طموحها الحاضر إلى تحقيق أهدافها في التحرر والتطور والديمقراطية والوحدة. كما، وأكدت إلتزامها بمبادىء وأهداف ومواثيق الأممالمتحدة والإعلان العالمي لحقوق الإنسان. وعلى هذة الأرضية طالبت الأممالمتحدة بتحمل مسؤولياتها تجاه الشعب العربي الفلسطيني ووطنه، وأهابت بها وبشعوب ودول العالم المحبة للسلام إلى أن "تعينها على تحقيق أهدافها، ووضع حد لمأساة شعبها، بتوفير الأمن له، وبالعمل على إنهاء الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية"، وهنا ألقت القيادة الفلسطينية المسؤولية على الأممالمتحدة وعلى شعوب العالم لدعم كفاح الشعب الفلسطيني في تحقيق أهدافه الوطنية في العودة والحرية والاستقلال السياسي وتقرير المصير. كما أن منظمة التحرير أكدت من خلال وثيقة الاستقلال على قبولها بخيار التسوية السياسية، واعتمادها شكل النضال السلمي لتحقيق الأهداف الوطنية، فجاء فيها: " أنها تؤمن بتسوية المشاكل الدولية والإقليمية بالطرق السلمية وفقاً لميثاق الأممالمتحدة وقراراتها، وأنها ترفض التهديد بالقوة أوالعنف أوالإرهاب أوباستعمالها ضد سلامة أراضيها واستقلالها السياسي، أوسلامة أراضي أي دولة أخرى، وذلك من دون المساس بحقها الطبيعي في الدفاع عن أراضيها". وفور إعلان وثيقة الإستقلال في الجزائر بلد المليون ونصف المليون شهيد، تم الإعتراف بدولة فلسطين من قبل 105 دولة، وهو ما أعطى لوثيقة الاستقلال المصداقية والأهمية السياسية التي تستحق. وعكس رغبة دول وشعوب العالم في دعم كفاح الشعب العربي الفلسطيني من أجل الإنعتاق من براثن الاستعمار الإسرائيلي البشع، لاسيما وأن القيادة الشرعية للشعب الفلسطيني أعلنت بجلاء إلتزامها بمبادىء ومواثيق وقوانين الأممالمتحدة. ولم يكن ممكنا إعلان وثيقة الاستقلال دون إنبلاج شعلة الإنتفاضة العظيمة، ودون العملية الكفاحية التحررية التي شقتها الثورة الفلسطينية المعاصرة منذ مطلع 1965، والدعم العربي والأممي للحقوق الوطنية، التي مهدت جميعها الأرضية الصلبة لتقدم القيادة الفلسطينية خطوات جدية ونوعية في تعاملها مع متطلبات اللحظة السياسية الإنعطافية في مسيرة النضال الوطني. وكما هو معروف، لم تكن وثيقة الاستقلال عام 1988 هي الأولى في سجل الكفاح الوطني، بل سبقها إعلان حكومة عموم فلسطين في أكتوبر 1948 عن الاستقلال الأولأاثناء إنعقاد مؤتمر المجلس الوطني في مدينة غزة، وهو ما يؤكد توق وطموح الشعب العربي الفلسطيني لبناء دولته المستقلة وذات السيادة وعاصمتها القدس الشرقية الذي لم يتوقف، رغم كل المصائب والمؤامرات الإستعمارية والرجعية التي لاحقت كفاحه التحرري طيلة عقود الصراع الطويلة. وفي الذكرى ال29 لإعلان وثيقة الإستقلال لدولة فلسطين، مازالت القيادة والشعب العربي الفلسطيني حتى الآن تواصل مشوار الكفاح لتحقيق تسوية سياسية عادلة تقوم على أساس خيار حل الدولتين على حدود الرابع من جوان 1967، وضمان حق العودة للاجئين الفلسطينيين على أساس القرار الدولي 194 ومبادرة السلام العربية 2002، رغم تخندق حكومات إسرائيل المتعاقبة في خنادق الإستيطان الإستعماري، وترفض الإلتزام بإستحقاقات التسوية السياسية الممكنة والمقبولة من الشعب والقيادة الفلسطينية، الأمر الذي يفرض على الأممالمتحدة وشعوب ودول العالم، وخاصة الأقطاب المؤثرة في صناعة القرار الدولي، وتحديدا الولاياتالمتحدةالأمريكية، الضغط على دولة إسرائيل الإستعمارية بالإنسحاب الكامل من أراضي دولة فلسطينالمحتلة عام 1967، والتي إرتقت مكانتها في ال29 من نوفمبر إلى دولة مراقب في الأممالمتحدة. آن الآوان للعالم أن يقول كلمته الفصل دعما لكفاح الشعب العربي الفلسطيني في تجسيد استقلاله السياسي، لاسيما وأنه مضى على النكبة الفلسطينية سبعون عاما، وعلى نكسة العام 1967 خمسون عاما، وقدم الشعب الفلسطيني وقيادته كل الإستحقاقات السياسية المطلوبة منه، وقدم سلفا كل التنازلات المطلوبة وأكثر منها، كون قرار التقسيم الأممي 181 الصادر في 29 نوفمبر1947 يعطي الفلسطينيين دولة على مساحة 43% من فلسطين التاريخية، وهي تطالب الآن بإقامة الدولة المستقلة وذات السيادة وعاصمتها القدس الشرقية على مساحة 22% من فلسطين التاريخية، إذاً لم يعد هناك مبرر أو مسوغ سياسي أو قانوني أو أخلاقي يعفي الأممالمتحدة وأقطاب العالم الإنتظار، والكيل بمكيالين تجاه المسألة الفلسطينية، والصمت على جرائم إسرائيل واحتلالها الأخير في العالم. في الذكرى ال29 لإعلان الاستقلال لدولة فلسطين، لا يملك المرء سوى أن يقول للجزائر شعبا وقيادة وحكومة شكرا لكل جهد قومي قدمتموه لفلسطين والشعب الفلسطيني، ولا يمكن لفلسطين في هذة الذكرى أن تنسى مقولة الرئيس الجزائري الأسبق هواري بومدين "نحن مع فلسطين ظالمة أومظلومة"، ولا تنسى الدعم غير المشروط من قبل كل القادة والرؤساء الجزائريين المتعاقبين بدءا من الرئيس أحمد بن بلا وصولا للرئيس الحالي عبد العزيز بوتفليقة، لأنهم جميعا، ومن موقع الوفاء والإنتماء للقومية العربية، وقفوا مع فلسطين، التي كانت دوما مع الجزائر وثورته واستقلاله وسيادته دون تردد. __________________________ حركة فتح وصناعة اللحظة التاريخية بقلم/ عماد مخيمر تتخذ مسألة صناعة التاريخ الشكل الأصعب في مسيرة الشعوب، فصناعة التاريخ لها ما لها من محددات واشتراطات وسياقات ومسارات، كلها تتمازج وتتفاعل وصولاً لحالة من التماهي تنتج حلقة في صيرورة تاريخية في حياة الشعوب، هذه الحلقة تتمفصل لتكون نتاجاً لما قبلها وإرهاصاً لما بعدها من حلقات أخرى في تسلسل عقلاني محكم. إن صناعة التاريخ ليست ترفاً أو رغبة آنية سطحية، بل هي مسألة تضرب عميقاً في الوعي والفكر المقترن بالممارسة والتأثير المفصلي، والقدرة على إحداث تغيير جذري يؤسس لمرحلة جديدة ترتكز إلى رؤى واقعية قادرة على مجابهة تحديات واقع له سطوته وتأثيره المضاد الذي يحاول نفي ولادة لحظة تاريخية تشكل تهديداً لوجوده المستند إلى مقومات تتناقض مع إرادة الشعوب في صناعة لحظتها التاريخية الراهنة. في الخامس عشر من نوفمبر 1988، ومن قلب الجزائر بلد الثورة والمليون شهيد، وقف الزعيم التاريخي الشهيد ياسر عرفات ( أبو عمار) ليعلن للعالم أجمع إرادة وإصرار الشعب الفلسطيني في صناعة لحظته التاريخية، بالإعلان عن ولادة دولة فلسطين المستقلة، هذا الإعلان الذي جاء متماهياً مع المحددات والإشتراطات والسياقات لشعب يواجه واقع شاذ جاء نتاجاً لتحالف النظم الإمبريالية الاستعمارية مع الحركة الصهيونية تلك الفكرة العنصرية التي لا تستند إلى أدني المقومات العقلانية أو التاريخية، بل تستند إلى فكرة عنصرية تتخذ من تزييف التاريخ مبرراً لها، وتتحالف مع الإمبريالية الاستعمارية الساعية إلى الحفاظ على مصالحها، ضاربة بكل استهتار وصفاقة القيم.