د. صبحي عبيد كان إعلان وثيقة الاستقلال الفلسطيني في الجزائر، حدثاً بارزاً في تاريخ القضية الفلسطينية، إذ أُعلنت الدولة الفلسطينية بتاريخ 15 /11 /1988م، في الدورة التاسعة والعشرين للمجلس الوطني الفلسطيني الذي انعقد في الجزائر. وكانت الجزائر صاحبة المواقف المبدئية، أول دولة اعترفت بالدولة الفلسطينية، وكان ذلك الاعتراف الفوري في قاعة المؤتمر، بعدما أعلن الزعيم ياسر عرفات رحمه الله: "باسم الله وباسم الشعب العربي الفلسطيني، نعلن قيام دولة فلسطين على أرضنا الفلسطينية وعاصمتها القدس الشريف". لم يكن هذا الإعلان إلا تصميماً من الشعب العربي الفلسطيني على حقه في دولته المستقلة على أرضه، وقد رسخت وثيقة الاستقلال مبادئ الدولة الفلسطينية في الحرية والعدالة الاجتماعية، ووصفت الصورة الحضارية للشعب الفلسطيني أمام العالم في جميع المجالات. كان إعلان وثيقة الاستقلال، استناداً إلى جميع القرارات الدولية، بدءاً من قرار التقسيم رقم181 مروراً بجميع القرارات الدولية بما فيها القراران، 242 الصادر عام 1967م، والقرار 338 الصادر عام 1973م، وهذان القراران ينصان على انسحاب إسرائيل من الأراضي العربية التي احتلتها بعد جوان عام 1967م. إن اعتراف منظمة التحرير الفلسطينية بجميع القرارت الدولية التي تخص القضية الفلسطينية، جاء من أجل وضع إسرائيل أمام التطبيق العملي لهذه القرارات، والانسحاب من الضفة الغربيةوالقدس وقطاع غزة، مما يتيح المجال لإقامة السلطة الوطنية الفلسطينية على أي جزء يتم انسحاب إسرائيل منه، تطبيقاً لقرارات المجلس الوطني الفلسطيني في القاهرة عام 1974م، وهي القرارات التي تعرف بالنقاط العشر. وتتوالى الأحداث وترفض إسرائيل الانصياع للقرارات الدولية تحت حجج واهية، لكن القيادة الفلسطينية استمرت في تحركها السياسي مما نتج عنه توقيع اتفاقية أوسلو عام 1993م. وبموجب هذا الاتفاق بسطت السلطة الوطنية الفلسطينية نفوذها على مناطق في الضفة الغربية وقطاع غزة، لكن الاحتلال الإسرائيلي أجهض اتفاق أوسلو الذي تم برعاية أمريكية ودولية، عندما تم اغتيال إسحق رابين، رئيس الوزراء الإسرائيلي، لأنه كان أكثر المتفهمين لضرورة توقيع اتفاقية سلام مع الفلسطينيين من أجل استتباب الأمن في المنطقة. إن اغتيال رابين كان بتشجيع من اليمين المتطرف في إسرائيل، الذي سرعان ما استولى على دوائر الحكم في إسرائيل، وتنكر للاتفاقيات الموقعة مع الجانب الفلسطيني، مما أدى إلى اندلاع انتفاضة النفق وانتفاضة الأقصى، فالاحتلال الإسرائيلي مُصر على تهويد مدينة القدس والاستيلاء على المسجد الأقصى المبارك من أجل إقامة الهيكل المزعوم مكانه. واستمر الشعب الفلسطيني في انتفاضته ضد كل المشاريع الإسرائيلية وضد المستوطنات التي انتشرت في الضفة الغربية من أجل تدمير حل الدولتين ومحاصرة الفلسطينيين في كانتونات ومعازل يتحكم في الدخول إليها والخروج منها الجيش الإسرائيلي والمستوطنون. وقد تمكن الفلسطنيون من خلال تصديهم الميداني على الأرض، وتصديهم السياسي في المحافل الدولية، من ترسيخ حقهم أمام العالم، وقد تمثل ذلك في اعتراف الأممالمتحدة بالدولة الفلسطينية باعتبارها عضواً مراقباً في نوفمبر 1912م، كما تم رفع العلم الفلسطيني بين أعلام دول العالم في مبنى الأمم اللمتحدة في نيويورك بعد موافقة الجمعية العامة. إن هذا الاعتراف الدولي مكّن دولة فلسطين من الانضمام للمنظمات الدولية، مثل محكمة الجنايات الدولية، ومنظمة اليونسكو وغيرها من المنظمات الدولية، وكان آخرها الانضمام لمنظمة الأنتربول الدولية، مما يتيح لدولة فلسطين ملاحقة مجرمي الحرب الإسرائيليين والفارين كذلك من وجه العدالة الفلسطينية. إن هذه الإنجازات تمت من خلال صمود الشعب الفلسطيني وإصراره على الوصول لأهدافه والبقاء في أرضه، كما أعلن سيادة الرئيس محمود عباس "صامدون هنا، باقون هنا، ولنا خيار واحد أن نكون وسنكون"، وهو القائل "ارفعوا رؤوسكم فأنتم فلسطينيون". وهاهي المصالحة الفلسطينية قد بدأ تطبيقها في الميدان، ونرجو أن تتسارع حتى يلتئم الشمل، وهاهي المسيرة النضالية للشعب الفلسطيني تتقدم يوماً بعد يوم وفاء لدماء الشهداء وعذابات الأسرى والجرحى، وفاء لعهد الشهيد الرمز ياسر عرفات في الذكرى الثالثة عشرة لاستشهاده، الذي قال "سيرفع شبل من أشبالنا وزهرة من زهراتنا علم فلسطين فوق أسوار القدس ومآذن القدس وكنائس القدس»، فليس منا وليس فينا من يفرط بذرة من تراب القدس. رحمك الله يا أبا عمار، رحم الله الشهداء، وإننا بعون الله سائرون حتى النصر، وإقامة الدولة الفلسطينية وعاصمتها القدس. _________________ ياسرعرفات يغرق في البحر! بكر أبو بكر حين الكتابة عن الخالد فينا ياسرعرفات، تنفتح الطرقات والمسارات والمسالك أمامك، إلى الدرجة التي لا تستطيع معها بفكرك أو قلمك أن تتخير أيها تسلك. لا يكون الدرب الواحد متيسّر الدخول إلا حين تكون العدّة مكتملة والهدف واضح ومحدد، ويكون الإقدام فعل العزيمة والإيمان، فما بالك عندما تصبح المسارات متعددة، وأنت واثق أنك بأيها سلكت… ستصل؟. من هنا تأتي الحيرة في الكتابة عن الزعيم الراحل ياسر عرفات، الذي استطاع أن يربط في حزمة واحدة الشوك والورد، ويسلك مختلف الدروب، فينوّع الوسائل، في حين أن الهدف أمامه كان – وظلّ- واضحا جليا رغم المضاء الذي اختاره، وهو المزروع بالآلام والألغام. تنفتح المسارات أمامك حينما تفكر من أين تكتب عن ياسر عرفات، بمعنى أنك تستطيع أن تكتب في كلها، في كل الدروب، وكل الزوايا وكل المسالك التي سلكها أو تشكلت منها شخصيته، فإن نظرت له كجنرال حرب، كما أسماه الراحل، هاني الحسن، رفيق دربه، ومن صناع النجم، تجد فيه من الميزات ما تقتدي به فتحتفي بالنضال، وإن نظرت له كسياسي عملاني (براغماتي)، لن تجد لعملانيته مضارع أيضا. فما بالك إن كان الدرب الذي تسلكه أوتتلمسه في الكتابة عن ياسر عرفات، هو درب قدرته الاتصالية الفائقة، تلك الظاهرة والخفية، هو درب علاقته الجماهيرية الرائقة التي لم يستطع أحد من قادة الثورات حتى اليوم –برأيي- أن يصلها. إن الطاقة الجماهيرية التي تتركب منها شخصية ياسر عرفات، قادرة أن تُعبئ البنادق والمدافع فتطلق النار بالاتجاه الذي يشير إليه، وقادرة أن تشحن النفوس بالروح المعنوية اللامتناهية، وقادرة أن تجعل من الأذان المرفوع من منارات المساجد، ومن صدى قرع أجراس الكنائس في القدس وكل فلسطين زغرودة حب، أوإيذانا بحرب أوأنشودة فرح ونصر. ياسر عرفات الذي اختار طريقه منذ الصغر، ورسم المسارات وسلك الدروب، هو ورفيق النضال الثائر، والرئيس الكوبي "فيديل كاسترو" كانا يسيران في سياق واحد، فحين قال مؤلف كتاب "قاموس فكر فيدل كاسترو"، سالومون سوزي، إنه-أي كاسترو- "رسم لنفسه صورة عامة جذابة جدا تشكل جزءا من أسطورة فيدل"، كان هكذا تماما أيضا أمر ياسر عرفات برمزيته وأسطوريته وجماهيريته، فبرزت لحية كاسترو وغيفارا، وبزّة الأول العسكرية في مقابل كوفية الختيار ولحيته وبزته العسكرية الكاكية…وجماهيريته. الرجل العسكري والفاعل السياسي، وذو العقل الأمني الحذِر، متعدّد المواهب، ما بين صفة الشخص الصلب حيث وجب، والمرِن الواقعي حيث يناور ويداور، هو ذاته الشخص الذي يبكي بحرارة لأصغر الأمور المتعلقة بشعبه وآلامه اليومية، وحين يضحك لا يحبس الضحكة عن الآخرين، فتنتشي. عندما ترى الختيار معتزّا بشبعه في مواجهة خصومه تَمُور فخرا، حتى وأنت تلمح الغرور في عينيه البراقتين، وفي وقفته كالطود الشامخ، بل وفي طريقة تعاليه على أعدائه أوأشياعهم، فنحن شعب الجبابرة، ونحن أصحاب فلسطين وحراس الأرض منذ كانت وكنا معها مقترنين. لن أتحدث عن معلّمنا وقائدنا عرفات هنا إلا في سياق نظرته لذاته بين الجماهير، فهو لا يعيش خارج الماء أبدا، وما كان يوما كائنا برمائيا، بل كان وأصرّ حتى آخر يوم في حياته أن يكون كائنا مائيا، حوتا، أو سمكة لا تجد نفسها إلا في بحر الجماهير غريقة. ياسر عرفات الجماهيري، ربط القضية بالأرض والشعب وبه، فلم يرى هذا الثالوث إلا من عينيه الضيقتين شكلا الواسعتين أفقا، وعبر خطواته الطويلة وبردائة الأخضر الزاهي، ومع قلمه الأحمر السيّال وعباءاته السياسية المتبدلة، وأيضا فيما تراه بكل تسجيلاته المرئية من قبل. لم ينفكّ عرفات الجماهيري يوزع فيوضَ روحه وإحسان اتصالاته مع الناس، ربما بإسراف على عموم الجمهور ما بين قُبلات تُطبع على رأس الصبية الفلسطينية الزاهرة، وقبلات الوجنتين للأخوة مع الأحضان، وما بين قبلات اليدين والرأس لأسر الشهداء، ولأيدي الجرحى. كُنتَ ترى شعبيته الطاغية في قدرته الفائقة على استثارة الحس الوطني والقومي، والحس الثوري في الجماهير بكلمات نراها عفوية. فهو بكلمات بسيطة وقليلة ومتكررة، ولكنها واضحه ومحددة ومهدفة، كان قادرا على إشعال نار الغضب المجنّح، وتفجير ثورة، وبكلمات أخرى بنفس المواصفات الفنية كان قادرا على إطفاء شحنات الغضب وتهدئة الخواطر. الرجل الناري ذاته، هو رجل الماء، يعلم جيدا كيف يوفّق بين ما لا يتوافق نظريا وما يشكل التناقض بعينه خاصة حين يتعامل مع الجماهير، كلٌّ على قدر فهمه وعلمه وموقعه، ومصداقا لما قاله علي بن أبي طالب "حدثوا الناس بما يعرفون"، أو لما قاله الإمام الغزالي في إحيائه: " أن يقتصر بالمتعلم على قدر فهمه فلا يلقى إليه مالا يبلغه عقله فينفر". وإن كان لأبي عمار المُقرِّب وليس المُنفِّر من خطاب عام، فإنه كان ينحو نحو البساطة والمباشرة والسهولة بما يفهمه كل الناس كبيرهم وصغيرهم عالمهم وجاهلهم، رابطا خطابه الجماهيري هذا بالتحفيز وشحنات الكرامة، والإنشداد للتاريخ المفعم بالحقائق والآيات والأحاديث والأشعار والاقتباسات التي تجر من خلفها جبالا من الكتل الثورية المتأججة، وكيف لا وعباراته الخالدة وهو الفدائي الطريد للاحتلال الصهيوني العنصري الجاثم على صدر فلسطين ما زالت تدوي في سماء الوطن وفي رؤوسنا حتى الآن: "على القدس رايحين شهداء بالملايين"، و"شبل أو زهرة سترفع علم فلسطين فوق مساجد وكنائس وأسوار القدس"، و"يريدونني قتيلاً أوأسيرا أوطريدا، وأنا اقول شهيدا شهيدا شهيدا".