عملية نقل طيران الطاسيلي إلى الجوية الجزائرية تخضع لمبدأ العدالة والشفافية    المهدي وليد يشرف على حفل اختتام السنة التكوينية 2024    الجزائر-فنزويلا: السيد شرفة يبرز أهمية الاسراع في انشاء مجلس أعمال ثنائي    محكمة ورقلة: إصدار أمر بإيداع ضد شخص متورط بنقل أزيد من 54 كلغ من الكوكايين    هاتف نقال: منح رخص الاستغلال لشبكات الاتصالات الإلكترونية النقالة من الجيل الخامس    الجيش يُوجّه ضربات موجعة لبقايا الإرهاب    قانون التعبئة العامّة في مجلس الأمة    اختتام مشروع باورفورماد بوهران    مقاولاتية : وكالة "ناسدا" تطلق موقعا ومنصة جديدين لتسهيل الولوج إلى المعلومات والخدمات    هذه تفاصيل هدنة ترامب في غزّة    ندوة حول الأمر اليومي للعقيد هواري بومدين    مستقبل الهجرة ونظرية الاستبدال العظيم    المجتمع الدولي مطالب بالعمل على رفع الحصار الجائر المفروض على الأراضي الصحراوية المحتلة    نهائي كاس الجزائر/ اتحاد الجزائر- شباب بلوزداد: قمة واعدة بين اختصاصين    الجزائر تتوفر على مؤهلات لوجيستيكية ومنشآت رياضية لاحتضان أي تظاهرة عالمية    ندوة وطنية لمديري التربية    توزيع آلاف السكنات ومقرّرات استفادة من قطع أرضية    الشواطئ ملك وطني مفتوح لكل المواطنين    توزيع 550 سكن عمومي بالبليدة    المجلس الأعلى للغة العربية ينظم احتفائية    سورة الاستجابة.. كنز من فوق سبع سماوات    غزة : ارتفاع حصيلة الضحايا إلى 57130 شهيدا و135173 مصابا    رئيس الجمهورية يصل إلى قصر الشعب للإشراف على الحفل السنوي لتقليد الرتب وإسداء الأوسمة    أمطار رعدية مرتقبة على عدة ولايات بشرق البلاد    جانت: انطلاق تظاهرة ''السبيبا'' الثقافية وسط حضور جماهيري غفير    إسبانيا: فعاليات تضامنية تربط الفن برسالة دعم للصحراء الغربية    البطلة الاولمبية كايليا نمور سفيرة جديدة لمؤسسة "أوريدو"    نصاب الزكاة لهذا العام قدر بمليون و ستمائة و خمسة عشر ألف دينار جزائري    ضرورة إعادة الاعتبار للضحايا وتحقيق عدالة تاريخية منصفة    المشاريع السكنية أصبحت تُنجز في غضون سنة واحدة فقط    تغيراتها وانعكاساتها الإقليمية ج1    رصد تطوّر الإنتاج وفرص التصدير    متابعة المشاريع المهيكلة الكبرى    نشكر الجزائر لحرصها على تقوية العلاقات بين البلدين    أخبار اليوم تُهنّئ وتحتجب    تعيين حجيوي محمد رئيسا جديدا لمجلس الإدارة    المغرب من يعرقل الحل في الصحراء الغربية    دعوة لانتهاج خطط تحمي المواد المائية الحيوية    عقوبات صارمة تطول مافيا الشواطئ بالعاصمة    مشروع مستشفى ب500 سرير في قسنطينة قريبا    الأمن الفرنسي يوقف بلايلي في مطار باريس    توأمة بين البلديات : انطلاق قافلة ثقافية من تيميمون باتجاه مدينة أقبو    كرة اليد/كأس الجزائر (سيدات)..نادي بومرداس- نادي الأبيار: نهائي واعد بين عملاقي الكرة الصغيرة النسوية    فاطمة الزهراء سليماني و عبد الباسط بودواو يتوجان في المهرجان الوطني السادس للمواهب الشابة في فنون الغناء    دعوة إلى الاستلهام من الثورة الجزائرية للتحرر من قيود الاستعمار    الفاف" تقرر تقليص الطاقة الاستيعابية لكل الملاعب بنسبة 25 بالمائة    ستة مؤلفات جزائرية في أربع فئات    ياسين بن زية يتجه لتوقيع عقد جديد في أذربيجان    الجزائر تطمح للعب دور إقليمي في مجال الهيدروجين الأخضر    مدّ جسور الإنشاد من البلقان إلى دار السلام    630 مليار دينار مصاريف صندوق التأمينات الاجتماعية    برنامج خاص بالعطلة الصيفية    الكشف المبكر عن السكري عند الأطفال ضروريٌّ    الدعاء وصال المحبين.. ومناجاة العاشقين    فتاوى : حكم تلف البضاعة أثناء الشحن والتعويض عليها    تنصيب لجنة تحضير المؤتمر الإفريقي للصناعة الصيدلانية    الجزائر تستعد لاحتضان أول مؤتمر وزاري إفريقي حول الصناعة الصيدلانية    صناعة صيدلانية: تنصيب لجنة تحضير المؤتمر الوزاري الافريقي المرتقب نوفمبر المقبل بالجزائر    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



التصوف المفترى عليه
نشر في الحوار يوم 05 - 03 - 2009

اختلف الباحثون في سبب تسمية ''التصوف'' وأرجعوها إلى أربعة فروض الأول: أن يكون الصوفي منسوبا إلى ''صوفة'' وهو اسم رجل كان قد انفرد بخدمة الله سبحانه وتعالى عند بيته الحرام واسمه ''الغوث بن مر''.
فانتسب الصوفية إليه لمشابهتهم إياه في الانقطاع إلى الله (ينظر: تلبيس إبليس - ابن الجوزي، ص 161)
الثاني: أن يكون منسوبا إلى ''الصفاء'' لأن أربابه عرفوا بصفاء القلب، والتخلي عن السعادة الدنيوية طمعا بالاتحاد الكامل بالله، وقد عبر عن ذلك أبو الفتح البستي قائلا:
تنازع الناس في الصوفي واختلفوا
فيه وظنوه مشتقا من الصوف
ولست أنحل هذا الاسم غير فتى
صافي فصوفي حتى لقب الصوفي
ولم يرض عن هذه التسمية أبو العلاء المعري فرد على البستي بهذا البيت
صوفية ما رضوا للصوف نسبتهم
حتى ادعوا أنهم من طاعة صوفوا الثالث: أن يكون منسوبا إلى ''سوفيا'' اليونانية، التي معناها ''الحكمة'' وقد ترجمها العرب فسموا الطب حكمة، وكلمة ''حكيم'' لا تزال تؤدي معنى كلمة طبيب، والعرب كانوا مولعين بحفظ ما يدخل لغتهم من الألفاظ الأجنبية، ولو كان التصوف من ''سوفيا'' لنصوا عليه في كثير من المؤلفات وهذا يرد هذه النسبة كما يقول زكي مبارك (التصوف بين الأدب والأخلاق، ص 55)
الرابع: أن يكون منسوبا إلى ''الصوف'' وإلى هذا الطرح مال أكثر الباحثين كابن خلدون في ''المقدمة'' والسهروردي في ''عوارف المعارف'' وبعض المستشرقين ك نيكلسون ونولدكه (ت 1931) NOLDEKE، (ت 1945) NICHOLSON وآخرون يندون عن الإحصاء، مستدلين بأن لباس الصوف كان غالبا على المتقدمين من سلف الصوفية، لأنه أقرب إلى التواضع والزهد، ولكونه لباس الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وقد جاء أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يركب الحمار ويلبس الصوف. ويؤيد هذا ما جاء في مرثية عمر بن الخطاب رضي الله عنه لرسول الله صلى الله عليه وسلم إذ قال: ''بأبي أنت وأمي يا رسول الله، لقد اتبعك في قلة سنك وقصر عمرك ما لم يتبع نوحا في كثرة سنه وطول عمره، ولقد آمن بك الكثير وما آمن معه إلا القليل، بأبي أنت وأمي يا رسول الله، و الله لو لم تجالس إلا كفؤا لك ما جالستنا، ولو لم تنكح إلا كفؤا لك ما نكحت إلينا، ولو لم تؤاكل إلا كفؤا لك ما واكلتنا، فلقد والله جالستنا ونكحت إلينا وواكلتنا ولبست الصوف وركبت الحمار وأردفت خلفك ووضعت طعامك على الأرض ولعقت أصابعك تواضعا منك) ''ينظر، إحياء علوم الدين، الغزالي، ج ,1 ص ,''123 وهذا النص على جانب عظيم من الأهمية، ومن المحتمل أن يكون الصوفية لبسوا الصوف أول الأمر ليصلح لهم الاقتداء بتواضع الرسول الله صلى الله عليه وسلم. وسئل أبو علي الروزباري، وهو من كبار الصوفية، فقيل له: من الصوفي؟ فقال: ''من لبس الصوف على الصفاء''، فلبس الصوف عنده إشارة إلى الزهد ولكنه لا يغني عن الصفاء. ويؤكد التزام الصوفية للبس الصوف حرصهم على المرقعة -أي الثوب المرقع- فابن الجوزي يرى أنهم لما سمعوا أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يرقع ثوبه وأن عمر بن الخطاب كان في ثوبه رقاع اختاروا المرقعات، وكذلك صارت المرقعة عنوانا عليهم، وروي عن الثوري أنه قال (كانت المرقعات غطاء على الدر فصارت جيفا على مزابل) ''ينظر، تلبيس إبليس، ص ''190 وهذا لما أصاب القوم من انحراف عن الجادة واهتمام بالمظاهر الكاذبة. هذا من حيث النسبة، أما من حيث المضمون: فهو التماس الحق عن طريق تطهير النفس التي تلوثت بأدران المادة عند حلولها في الجسد، بعد أن كانت طاهرة شريفة، وإعدادها لقبوله بالإلهام الإلهي، بمجاهدة النفس والسمو بها إلى الطريق الحق. والتصوف الإسلامي في واقعه تربية علمية وعملية للنفوس وعلاج لها، وغرس للفضائل واقتلاع للرذائل وقمع للشهوات وتدريب على الصبروالرضى والطاعات، فهو مجاهدة للنفس ومحاسبة لها على الأعمال والتروك، وانقطاع عما يعوق السالك في سيره إلى الله، وزهادة في كل ما يلهي عن ذكر الله ويعلق القلب بسواه. وهو توجه إلى الله تعالى وإقبال عليه وعكوف على عبادته، وتعرض لنفحاته وهباته التي يختص بها أولياءه وأحباءه، كل ذلك مع السعي والعمل الصالح في الدنيا بما يتزود به للآخرة، وبما به قوام الحياة والعمران في الحلال الطيب، وهو مطلوب شرعا، حسن ممدوح في كتاب الله ''فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه''، ''وتزودوا فإن خير الزاد التقوى''. وجملة القول فيه -قبل تدوينه كفن وبعده- أنه تربية وتهذيب، وعلم وعمل، ووقاية وعلاج، ودين ودنيا، وعبادة وزهادة، وتقوى طاعة واستقامة وصبر وعلاج، وفرار من فتنة الدنيا وزينتها. وهو لب الشريعة وروحها وثمرتها وحكمتها، وقد كان ذلك شأن جمهور الصحابة والتابعين والسلف الصالح من أئمة الدين، ولا نبعد إذا قلنا أنهم كانوا جميعا صوفية بهذا المعنى الجامع الذي صار موضوع التصوف المدون فيما بعد وغايته ولكن على تفاوت بينهم فيه. ذلك هو التصوف النقي من الشوائب الذي لم يخالطه زيغ ولا شطط ولا جهل ولا ابتداع، وهو تصوف العلماء والزهاد والنساك القائمين على حدود الله، الواقفين عند شريعته أمثال الحسن البصري (ت 110 ه) سيد التابعين، وأبي اسحاق ابراهيم بن أدهم البلخي (ت 161 ه)، وأبي سليمان داود الطائي (ت 165 ه)، وأبي علي الفضيل بن عياض (ت 187 ه)، وأبي الفيض، ذي النون المصري (ت 245 ه)، وأبي الحسن السري السقطي (ت 253 ه)، وأبي محمد سهل بن عبد الله التستري (ت 283 ه)، وأبي القاسم الجنيد البغدادي شيخ الطائفة المقدم (ت 297 ه)، وأبي القاسم عبد الكريم بن هوزان القشيري صاحب الرسالة القشيرية (ت 465 ه)، وحجة الإسلام أبي حامد محمد الغزالي (ت 505 ه) وأبي محمد عبد القادر الجيلاني (ت 561 ه)، وأبي حفص السهروردي صاحب ''عوارف المعارف'' (ت 632 ه)، والإمام أبي الحسن الشاذلي (ت 656 ه)، وأبي العباس أحمد بن عمر المرسي (ت 686 ه)، وأبي الفضل أحمد بن محمد بن عطاء الله السكندري (ت 709 ه)، والقطب أبي البركات أحمد الدردير العدوي (ت 1201 ه) رضي الله عنهم جميعا وغيرهم من المتقدمين والمتأخرين من الأئمة العارفين ولهؤلاء الأئمة وأضرابهم كلام جيد شاف في الأذواق والمواجد التي تنشأ عن المجاهدات، ثم تستقر للمريدين مقامات، ثم يترقون فيها درجات، على تشدد من بعضهم في السلوك وتفاوت بينهم حسب تفاوت أقدارهم في العلم والذوق والعرفان. ولهم اصطلاحات علمية وإشارات ذوقية ورموز دقيقة ومعان علوية وحكم رفيعة يعرفها أهلها، ويتذوقها من وهب رقة الشعور ودقة الإدراك وهم في مجال الإعراب والبيان عن ذلك متفاوتون. وموردهم الذي يستقون منه ذلك كله: كتاب الله تعالى وهدي النبوة وما روي عن العارفين من أئمة الإسلام. وقد اختص هذا النوع من العلم الشرعي في عصر التدوين، كما أشار إليه ابن خلدون في مقدمته باسم''التصوف'' أو ''علم الحقيقة'' كما اختص النوع الآخر منه باسم ''الفقه'' أو ''علم الشريعة'' وهو الخاص بالأحكام العامة في العبادات والمعاملات والعادات، وتساوق العلمان معا في تكوين الشخصية الإسلامية الكاملة ظاهرا وباطنا، حسا ومعنى، روحا ومادة بحيث لا يكمل تكوينهما إلا بهما، فكانا منها كجناحي الطائر. وقد ألف الأئمة كتبهم في كل منهما على حدة، وجمع بعضهم بينهما كما فعل الغزالي في ''إحياء علوم الدين'' وهو موسوعة إسلامية جامعة، وذخيرة ثمينة نافعة، حتى قيل فيه (من لم يقرأ الإحياء فليس من الأحياء) وقديما قالوا في التزاوج بين هذين العلمين (حقيقة بلا شريعة باطلة، وشريعة بلا حقيقة عاطلة)، وهو تصوير دقيق لترابط هذين العلمين الشرعيين وتساوقهما في تكوين المسلم الكامل. هذا هو التصوف الصادق الذي ملأ سمع الدنيا وأمتعها منذ عصر التدوين. وهناك تصوف كاذب وهو الذي انتحله قديما شرذمة من الأفاكين أشربوا تعاليم طائفة من الباطنية الحلولية وتدثروا بدثار الصوفية اجتذابا للعامة وتغريرا، ودسوا في التصوف إلحادهم ومقالاتهم الشنيعة في الدين كأبي سيفين الإشبيلي (ت 669 ه) وأضرابه إفسادا لعقائد العامة من المسلمين، وهؤلاء ليسوا صوفية ولا من التصوف في شيء وإنما هم مرتزقة زنادقة ملحدون. وقد كشف خيبتهم وفند مزاعمهم كثير منهم ابن تيمية (ت 728 ه) وتلميذه ابن القيم (ت 751 ه) رحمهما الله، وهناك آخرون انتموا إلى الصوفية بل احترفوها واتخذوها سمة لهم وتوارثوا فيما بينهم بدعا سيئة وشعارات زائفة وتقاليد منكرة جهلا بالدين الخالص أو تجاهلا، طمعا في متاع الدنيا ثم ظلوا عليها عاكفين لا يأبهون لعلم ولا يستمعون لنصح ولا يخضعون لحكم، وهؤلاء -لا ريب- أدعياء في الصوفية دخلاء في التصوف. وقد انتصب للرد عليهم والتنديد بهم وتبيان بدعهم ومنكراتهم وإرشادهم إلى الحق والهدى كثير من العلماء الصالحين قديما وحديثا، منهم عبد الرحمن الأخضري (ت 983 ه) والأستاذ أبو المعارف الشرقاوي صاحب ''شمس التحقيق'' (ت 1316 ه) وغيرهم. ومع ذلك فقد تنكر أناس للتصوف بأسره وحملوا عليه حملات شعواء عنيفة وحملوه أوزار أولئك المتصوفين الكاذبين وخطاياهم واتخذوها تكأة للطعن فيه وفي أئمته وكتبه. ولو أنهم توفروا على دراسته والإطلاع على كتبه واستقصاء أقوال أئمته وتواريخهم وسيرهم وآثارهم وجهادهم في الدين لتبدل جهلهم بالتصوف علما، وخطؤهم فيه صوابا، وذمهم له مدحا ولتميز الحق لديهم من الباطل، والصحيح من الفاسد، والأصيل من الدخيل المفترى، ولعرفوا أن التصوف البريء من الشوائب النقي من تلك المفاسد ما هو إلا الدين الخالص والحق المحض ولباب الشرع خرج من بين فرث ودم خالط سائغا للشاربين، وأن الطعن فيه جهالة وجحود من أولئك المنكرين.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.