يحرص الصوفية على تربية جملة من الأخلاق في نفوس الأفراد، بحيث تصبح متأصلة فيهم مختلطة بهم، لا فكاك لهم عنها، ويتميز الصوفي عن رجل الأخلاق، أنه يحس المواعظ ويذوق الأمثال، والحكمة على لسان الصوفي متوقدة ملتهبة تأخذ وقودها من الضمائر والقلوب، فهو ينقل جميع ما أثر من أقوال الأنبياء والحكماء والصالحين في تأكيد المعنى الذي يدعو إليه، وربما كان الصوفية هم الذين تفردوا بالإطناب في شرح أدواء النفوس وأمراض القلوب، وبكوا على مصائر العاصين والغافلين أحر البكاء. ولهم شعور بأثقال الأوزار والذنوب، فهم توابون أوابون لا يذنبون حين يذنبون إلا وهم في غاية من الخجل والاستحياء، كما أن الصوفي إن تفلسف لا يعتقد أن الأخلاق وسيلة نفعية تطلب للمعاش وحسن الصلات مع الناس، وإنما يعتقد أن الأخلاق صلة بينه وبين الله تعالى، ولله صورة جميلة في أنفس المخلصين من أهل التصوف وهم يحبونه كل الحب، ويستحيونه كل الاستحياء، وهم من أجل ذلك لا يفكرون إلا في صلاتهم الحقيقية بذلك المحبوب المعبود. والصوفي في تصرفاته وما يأتيه من أفعال يعلم ويربي في الفرد جملة من الشمائل والأخلاق ترتفع به إلى أعلى عليين منها: أنه يخاف شهوة الطعام والشراب، فكل الرذائل تصدر عنهما إذا لم يراع القصد والاعتدال في طلبهما وفيهما، وهل ذل من ذل وضاع من ضاع إلا بسبب الحرص على الطعام أو الشراب؟. فالصوفي يرى الشبع من المهلكات ويرى في الجوع فوائد - عدد الغزالي جملة منها في تفصيل رائع، ينظر: الإحياء، ج ,3 ص .94 والصوفي الحق كسائر عباد الله قد يقع في المعصية، ولكنه لا يرائي ولاينافق، فهو يرى الناس أحقر من أن يتهيبهم ويتقي لغوهم وفضولهم وسفاهتهم، ويرى الحياء لا يكون إلا من الله الذي يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور. الصوفي يؤذيه أن يكون كبعض الأراذل الذين يستبيحون جميع المنكرات في الخفاء، ثم يلقون الناس بوجوه الصالحين الزاهدين المتبتلين وما عرفوا الصلاح ولا الزهد ولا التبتل، وإنما هم لصوص سفلة يسرقون السمعة الحسنة من المجتمع المغفل الذي لا يصدق إلا ما تراه عيناه المفتوحتان بلا وعي ولا إحساس. والصوفي لا يستهويه أن يرى المنافقين والمخادعين في نجاح ورفاهية ونعيم، لأنه يعرف أن حظوظهم في دنياهم ليست إلا حراما في حرام، ولا فرق بين انتهاب السمعة وانتهاب المال، وإن خفي ذلك على الغافلين. وكما يخاف الصوفية شهوة البطن يخافون شهوة الفرج، وهم في أغلب أحوالهم يؤثرون العزوبة على الزواج، ولكنهم يدعون إلى الزواج عند خوف الفتنة، ويتحرزون من كل ما يثير الشهوات، ويستحب الصوفية أن تكون المرأة دون الرجل بأربع: السن والطول والمال والحسب، وأن تكون فوقه بأربع: الجمال والورع والخلق والأدب، ويوجبون على الرجل أن يصبر على امرأته، فقد تزوج بعض الصوفية امرأة سيئة الخلق فكان يصبر عليها، فقيل له: لم لا تطلقها؟ فقال: أخشى أن يتزوجها من لا يصبر عليها فيتأذى بها، وللصوفية أحاديث في الزواج يضيق عن سردها المجال، وللقارئ أن يرجع إلى الإحياء ففيه صور من الأدب الرفيع، ولهم في مدافعة الشهوات آيات، وهذا ينشئ الفرد الصالح والأسرة الصالحة والمجتمع الصالح. وكما يحترس الصوفي من شهوات البطن والفرج يحترس من آفات اللسان، والصوفية هم أكثر الناس كلاما في التحذير من الكذب والغيبة والنميمة والفضول وما اتفق لرجل من الصوفية أن يؤلف كتابا إلا وتكلم على آفات اللسان، فقد علمتهم التجارب أن اللسان يضر كما ينفع وأنه قد يجر صاحبه إلى المخاطر والمعاطب. وما تقدم إنسان أو تخلف إلا كان لسانه من أسباب ما غنم من تقدم أو رزئ من تخلف، فالرجل العاقل يلقى الناس بما يحبون، ويأبى عليه أدبه أن يواجههم بما يكرهون، والرجل الحكيم يستطيع دائما أن يكون عفيفا عفيف القول رطب اللسان، ولا تصدر الكلمة السفيهة عن لسان لرجل إلا وهو مقهور مغلوب وما قهره ولا غلبه إلا ضعف عزيمته عن مقاومة ما في صدره من أهواء وشهوات. كان الصوفية يعرفون أن لا نجاة من خطر اللسان إلا بالصمت، وهم يذكرون أن عقبة بن عامر سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن النجاة فأجابه: ''أمسك عليك لسانك وليسعك بيتك، وابك على خطيئتك) ينظر: الإحياء، ج ,3 ص .116 وفي هذه الكلمات نظام الأخلاق، فحفظ اللسان أصل عظيم من أصول السلامة، وقرار المرء في بيته أدب نفيس لا يتأدب به إلا أحرار الرجال، إن عورات المرء تنكشف حين يخرج من بيته، وماذا يلقى حين تضيق عليه رحبة البيت؟ يلقى اللاغين الآثمين من أكلة اللحوم، لحوم الأعراض، يلقى المتجرين من أهل الغواية والإثم والفسوق، يلقى الذين لا يعرفون كيف يقضون الوقت باستماع إلى موعظة حسنة أو الاطلاع على كتاب نفيس، والناجحون في هذا الوجود هم الذين يعرفون كرامة البيوت، والصعاليك هم الذين يجدون راحتهم في هجر بيوتهم ليعيشوا من فضلات السفهاء. وفي الدنيا ناس لا يجدون القوت ولكن يسترون فاقتهم بالقرار في بيوتهم، وهؤلاء هم المصطفون الأبرار يوم ينصب الميزان. وما مد مخلوق يده إلى صديق أو قريب إلا كان ذلك بداية الخذلان ولا استطاع المرء أن يعيش في حماية أصدقائه أو رعاية أقربائه، إلا وقد عرف أنه مخلوق ذليل مهين، فمن أين جاء للنبي صلى الله عليه وسلم أن يقول في وصاية من استهداه (وليسعك بيتك)، تلك حكمة لا تخرج إلا من لسان رعاه الله واصطفاه. إن الصوفية يخشون شر اللسان، ويستأنسون بقصة معاذ بن جبل إذ قال: يا رسول الله! أنؤاخذ بما نقول؟ فقال صلى الله عليه وسلم: (ثكلتك أمك يا بن جبل وهل يكب الناس في النار على مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم) ينظر: الإحياء، ج ,3 ص .116 ويستقبح الصوفية أن يتكلم الرجل فيما لا يعنيه، ويروون أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: أول من يدخل من هذا الباب رجل من أهل الجنة فدخل محمد بن سلام، فقام إليه ناس من أصحابه صلى الله عليه وسلم وأخبروه بذلك وقالوا: أخبرنا بأوثق عمل في نفسك ترجو به؟ فقال: إني لضعيف وإن أوثق ما أرجو به سلامة الصدر وترك ما لا يعنيني. وأن أبا ذر قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ألا أعلمك بعمل خفيف على البدن ثقيل في الميزان؟ قلت: بلى يا رسول الله، فقال: (هو الصمت وحسن الخلق وترك مالا يعنيك) ينظر: الإحياء، ج.119 ,3 والصوفية يكرهون لمريديهم أن يقعوا في آلة المراء والجدال، ويستأنسون بقول الرسول صلى الله عليه وسلم (من ترك المراء وهو محق بني له بيت في أعلى الجنة، ومن ترك المراء وهو مبطل بني له بيت في ربض الجنة)، فترك المراء من المحق أعلى منزلة لأن المحق يجد عسرا وصعوبة في ترك الجدال، ومن أجل ذلك كان انصرافه عن المجادلة أدل على قوة نفسه وشدة امتلاكه لهواه، والرسول صلى الله عليه وسلم يرى الجدال من أسباب انحلال الشعوب فيقول: (ما ظل قوم بعد أن هداهم الله إلا أوتوا الجدل) ينظر: الإحياء، ج ,3 ص ,123 وشواهد الأحوال تؤيد هذه النظرة النبوية، فالأمم التي تكثر فيها المخاصمات والمجادلات هي الأمم المعرضة للانحلال، والسر في قبح الجدل يرجع إلى ما فيه من شهوة الاستعلاء، ومن هنا كان خطره على الصداقات والمودات، ولا يمكن أن تصح بينك وبين رجل مودة إذا ظننت أنك أفضل منه أو ظن أنه أفضل منك. وكان سفيان الثوري -رحمه الله- يقول: (صاف من شئت، ثم أغضبه بالمراء، فليرمينك بداهية تمنعك العيش) ينظر الإحياء، الصفحة نفسها. ويكره الصوفي لمريده أن يقع لسانه في الفحش، والفحش هو كلام غليظ يجانب سلامة الذوق، وقد نهى الرسول صلى الله عليه وسلم عن أن يسب قتلى بدر من المشركين، فقال: (لا تسبوا هؤلاء، فإنه لا يخلص إليهم شيء مما تقولون وتؤذون الأحياء، ألا إن البذاء لؤم) ينظر الإحياء، ج ,3 ص .128 ويبغض الصوفي لمريده الإفراط في المزاج والمداومة عليه، لأن ذلك يورث الضحك، وكثرة الضحك تميت القلب وتورث الضغينة في بعض الأحوال وتسقط المهابة والوقار. وقد قال عمر بن عبد العزيز: (اتقوا الله وإياكم والمزاح فإنه يورث الضغينة ويجر إلى القبيح، تحدثوا بالقرآن وتجالسوا به فإن ثقل عليكم فحديث حسن من أحاديث الرجال). وهناك آفة أشنع من المزاح وهي السخرية والاستهزاء، وذلك محرم لما فيه من الإيذاء، قال الله تعالى: ''يا أيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيرا منهم، ولا نساء من نساء عسى أن يكن خيرا منهن) الحجرات ,11 ومعنى السخرية الاستهانة والتحقير والتنبيه على العيوب والنقائص على وجه يضحك منه، وقد يكون ذلك بالمحاكاة في القول والفعل، وقد يكون بالإشارة والإيماء.. وهذا إنما يحرم في حق من يتأذى به، فأما من جعل نفسه مسخرة وربما فرح من أن يسخر به كانت السخرية في حقه من جملة المزاح، ينظر: الإحياء، ج ,3 ص .135 إلى غيرها من الأمور التي يتحرز منها الصوفية ويدرسونها بالتفصيل وقد يقال: إن الصوفية لم يأتوا بشيء جديد، فهم يرضون ويغضبون على نحو ما يقع لسائر رجال الأخلاق، ويرد على هذا بأن ما امتاز به الصوفية هو التحرز الشديد من آفات الأخلاق، والإلحاح الموصول في تعرف أهواء النفوس والقلوب. وإنا لنرجو أن يرجع من أراد الاستزادة إلى الجزء الثالث والرابع من كتاب ''الإحياء''، فقد شرح الغزالي ضروب المهلكات والمنجيات شرحا وافيا وفصلها أوسع تفصيل، وجمع بين المنقول والمعقول بأسلوب شائق جذاب، وما عرف إنسان مؤلفات أبي حامد الغزالي إلا أحس بوجوب الرجوع إلى درس نفسه من جديد. E-mail: هذا البريد محمى من المتطفلين , تحتاج إلى تشغيل الجافا سكريبت لمشاهدته