التقت "المساء" على هامش الملتقى الدولي السادس للصوفية بجانت، بالدكتور الباحث زعيم خنشلاوي وطرحت عليه العديد من الأسئلة حول التصوّف، والطرق الصوفية بالجزائر بصفة خاصة، ومسارها، وكذا كيفية تعاملها مع الفكر التجديدي والأصولي والاستعمار الفرنسي، إلى جانب راهنها ومواجهتها للتحديات الراهنة، فكان هذا الموضوع: - نهج التصوّف واحد والمعبود واحد، فلم هذه الاختلافات بين الطرق الصوفية؟ * لا يتعلق الأمر بوجود اختلافات بين الطرق الصوفية، وإنما بمسألة تعدد الطرقية بحسب تفرع أوراق الشجر، فهل يمكن تصور شجرة بورقة واحدة وبغصن واحد؟ لا يمكن ذلك، فالتعدد هو الطبيعة، بالمقابل الشجرة أصلها واحد،"محمدي"، وهي الطريقة الأم، وبعد ذلك يمكن أن نتكلم عن المشارب والأوراق. وفي هذا السياق، هناك من المتصوفين من يقول أن الطرائق في الصوفية بعدد أنفاس الخلائق، إذن في الصوفية توجد الطريقة المحمدية التي تفرعت إلى طرائق، وإذا تحدثنا عن الطرقية في الجزائر، فنقول أنها تضم حوالي 40 طريقة، منها الطرق الأم وطرق الفروع، والطرق الأم هي "القادرية" نسبة إلى عبد القادر الجيلاني المولود بإقليم جيلان بإيران والمتوفى في بغداد، والطريقة الشاذلية لسيدي أبو الحسن الشاذلي وهو تلميذ عبد السلام بن مشيش، أحد أقطاب الطريقة المدينية (التي أسسها أبو مدين شعيب البجائي "سيدي بومدين الغوث"، دفين تلمسان)، وهناك الطريقة التيجانية، وهناك طرق متفرعة مثل الطريقة الرحمانية التي تفرعت عن الطريقة الخلواتية (أصلها من أذربيجان) وطرق أخرى كالعيساوية المتفرعة عن الشاذلية، أي أن هناك مشارب ومناهج ومسالك، وهذا لا يعني وجود تناقضات بينها. - هل توجد روابط وعلاقات بين الطرق الصوفية بالجزائر؟ * يجتمع مريدو الطرائق المختلفة في لقاءات وحلقات الذكر، خاصة في المناسبات الكبرى مثل مولد النبي وليلة القدر، وأعود هنا لأذكر مدينة بجاية التي ظهرت فيها أول مدرسة صوفية أسسها أبو مدين الغوث الذي لقبه ابن عربي بشيخ الشيوخ، وتتفرع طريقته في اليمن والهند وإيران، ونذكر"الطريقة العلوانية" باليمن، وهي أكبر طريقة باليمن، وكذا "طريقة النعمة الإلهية" بإيران وفروعها النوربخشية والذهبية. بجاية التي يقال أنها مدينة 99 وليّا من أولياء الله ولو ختمت بمائة لكانت شبيهة بالكعبة، وكانت تسمى ب"مكة الصغرى"، فالناس الذين كانوا يزورون بجاية في القديم يتوضأون ببئر تسمى "بئر السلام"، ما تزال لحد الآن، وهذا قبل أن يدخلوا إلى بجاية لأنها مدينة مقدسة بزاويتها المركزية لزكريا يحيى الزواوي التي تربى فيها أبو مدين وكانت النواة الأولى للمدرسة الأولى للصوفية في إفريقيا، بحيث كانت الطرق الصوفية تجتمع في بجاية لإحياء ليلة القدر، المدينة التي شهدت فتح بصيرة وقلب ابن عربي، الذي يقال أنه تزوج بامرأة من بجاية وسافرت معه إلى بلاد الشام وتركيا ومن ثم توفي بالشام والتحق به بعد قرون الأمير عبد القادر أحد الشارحين الكبار لكتاب ابن عربي "الفتوحات المكية" ومات في الشام أيضا، ويدفن بوصية منه قرب ضريحه في سفح جبل قسيون بدمشق. - تحدثت عن"الطريقة المحمدية"، هل هذا يعني أن الرسول صلى الله وعليه سلم، كان متصوفا؟ * لا يمكن أن نقول أن الرسول كان متصوفا، كما لا يمكن أن نقول أنه كان فقيها أو مفسرا، ما دام هو مصدر التشريع والفقه والتصوف، أي أنه عين "المعرفة الإلهية" أو كما يقول عنه المتصوفة،"عين الرحمة محمد"، ومنها سال هذا الغيث عن طريق التلقين من حيّ إلى حيّ. وأعود لأتحدث عن المشهد الأول للتلقين الصوفي، وبالضبط عندما لقن الرسول صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب قول "لا إله إلا الله" وهو نفسه، كان تلقى هذا التلقين من جبريل عليه السلام وبعدها لقنه إلى علي ومن ثم إلى الحسن البصري ومنه إلى السلسلة التي ترفع إلى الحميد البغدادي الذي يسمى بسيّد الطائفة والتي تسمى بدورها ب"سلسلة الذهب"، والآن تحسب غالبية الطرق الصوفية في سلاسلها ما يقارب الأربعين جيلا، وهو متوسط عمر مشايخ الطريقة الذين تداولوا على هذا الأمر من حضرة النبي إلى المشايخ الحاليين الأحياء، يعني أن التصوف لا يؤخذ من الكتب، بل من قلوب الرجال، كما يتم ذلك عن طريق المصافحة،"البيعة"، لاعتقاد صوفي أن الطاقة الروحية للنبي أول ما يسمى ب"البركة" تمر جسديا بالمصافحة من حيّ إلى حيّ، يعني أن الصوفي الميت مهما كانت درجته لا يمكنه أن يرّبي مريدا، بل يجب أن يكون حيا. - ما علاقة التصوف بالسياسة؟ * التصوف أبعد ما يكون عن السياسة، والصوفي لا يزور رجال السياسة والعكس صحيح، لأن الزاوية مفتوحة لجميع الناس فلماذا تقصي الرجل السياسي؟ الرجل السياسي كغيره من الناس يستحق الرحمة والشفقة. - ولكن الصوفي يتدخل في السياسة بإبداء رأيه في قرارات الحكم؟ * الصوفيون مقصودون لحكمتهم وبركتهم وكرمهم، فالزاوية لا تختار زائرا من حزب معين، بل تفتح أبوابها للجميع، للسياسي وغير السياسي وحتى للمتدين وغير المتدين، وفي القديم وبالضبط في زمن الحكم العثماني بالجزائر، كان آمنا كل من يدخل حرم سيدي عبد الرحمن ولو كان مجرما، فهي أماكن آمنة وحرم مقدس ومحترم. - وماذا عن قضية الوساطة (بين الله والفرد) التي يتهم بها الصوفي؟ * قضية الوساطة هذه لا تهم المسلمين بقدر ما تهم المسيحيين، هي مشكلة سربت لنا مؤخرا، بحيث أصبحنا نتكلم باسم المسيحيين ولا ندرك ذلك، فالوساطة، مسيحية المصدر ولا تعنينا لا من قريب ولا من بعيد باعتبار أن الإسلام ليس فيه كهنوت، كما أن الصوفي يبحث عن شيخ بإرادته ولا يفرض عليه، فهو الذي يقصد الشيخ لتربيته الروحية بكل حريّة. كما أنه في الإسلام، لا يوجد شيخ واحد ولا وساطة عكس المسيحية التي توجد فيها وساطة، والمجتمع المسيحي مكوّن من رجال الدين والمؤمنين، وفي الإسلام لا يوجد هذا، فكل مسلم يمكن أن يؤدي الصلاة بالمسلمين، بالمقابل، إذا كان يقصد بالوساطة، الإرشاد، فهذا لا مناص منه، ونحن مرشدنا الأكبر هو الرسول الكريم، حامل الرسالة وهمزة الوصل بيننا وبين الله، حتى الرسول كان له وسيط بينه وبين الله المتمثل في جبريل عليه السلام. وبالنسبة للتصوف، يوجد ما يسمى ب"الوراثة المحمدية" أي أن الرسالة أعقبتها الولاية والمدد الإلهي لا ينقطع ويأتي في شكل ولاية، النبوة مختومة بخاتمها، ولكن الولاية مستمرة بمعنى امتداد للبركة النبوية، فختم النبوة لا يعني قطع الصلة بين الأرض والسماء، فهي مستمرة من جيل إلى جيل، وهذه الوراثة الباطنية نسميها اصطلاحا "التصوف". - إذا كان الله هو الذي يختار رسله من الخلق، فكيف يتم الأمر فيما يخص الأولياء الصالحين؟ * الأولياء خلافا للأنبياء لا يطالبون أحدا بالاعتقاد فيهم، هذا هو الفرق، وحتى الرؤى والمشاهدات والكرامات للأولياء، فنحن نسلم بها احتراما لهم ولكننا لسنا مطالبين بالاعتقاد بها، بل كل منا مطالب بتحقيق ولايته لأننا جميعنا أولياء الله على الأرض، تحقيقا للآية القرآنية {إنا عرضنا الأمانة على السموات والأرض والجبال فأبينا أن يحملنها، وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوماً جهولا}، لم يقل الله أن هذه الأمانة حملها النبي أو الوليّ، بل كل إنسان مطالب بتحقيق الخلافة الإلهية على الأرض حتى غير المسلم، وهذا عن طريق التشبه بأخلاقيات الله وتحقيق الكمال وبلوغ مرتبة الإنسان الكامل والذي يقابل الفناء في الله وانمحاء هوية النسوت وبقاء هوية اللاهوت. وكل شيء في الدين الإسلامي لديه قراءة شرعية وطرقية وحقيقية يعني مقام الإسلام الإيمان والإحسان، ومقام الإحسان هو مقام باطني، فإذا كانت الكلمة الشريفة "لا إله إلا الله"، أي لا معبود إلا لله بالنسبة لعموم المسلمين، فبالنسبة للصوفية يصلون إليها بالمجاهدة وليس بالكلام، من خلال التحقق من عدم وجود شيء سوى الله، فالمعروف أنه عندهم مقولة " الله بس باقي هوس". فلا موجود حقيقي إلا الله، وحتى هوية الإنسان تنمحي نهائيا، هي غاية الكمال في التصوف يتحقق بالتواضع لجميع المخلوقات، وكم نحن بحاجة إلى هذه الرحمة في هذا العصر. - ما هي مكانة الصوفية في الجزائر، هل عاد إليها بريقها بعد أن حوربت في السابق؟ * ما فتئت الصوفية في الجزائر تعود إلى ذاكرتها الروحية، فقد كانت في شبه غيبوبة روحية، وتعرضت لصراعات من طرف شخصيات فكرية جزائرية تأثرت بالحركة التجديدية التي أسسها المصريان رشيد رضا ومحمد عبده في نهاية القرن التاسع عشر وانجرت عن ذلك صراعات كلامية كانت الجزائر بمنأى عنها، ولكنني أقول أن هذه الشخصيات اعتقدت اجتهادا منها وعن حسن نية، أنه يجب التوجه نحن التقدم وأن الطرق الصوفية لا مكان لها في هذه الغاية. - ألم يكن للاحتلال الفرنسي دور في إلصاق العديد من الشوائب بالزوايا وبالتالي إفقادها العديد من المزايا ودورها التنويري؟ * لا، لم تنجح فرنسا مائة بالمائة في إدخال الشوائب على الزوايا، بالعكس نزعت لها أملاكها الوقفية، كما نكتشف الآن أن الكثير من المباني العمومية التي بنتها فرنسا كانت على أوقاف الزوايا... نعم لم تكن هناك شوائب في الزوايا، بالعكس كان الناس يتوجهون إلى الزوايا لأنها توفر لهم علاوة على الغذاء الروحي، الأكل والشرب ومكانا للنوم، والمشكلة حدثت عندما وضعنا أنفسنا في انقطاع وانسلاخ وقطيعة مع أصولنا الثقافية والروحية وكانت النتيجة التي نعرفها جميعا. - ألم يحوّل الاحتلال بعض الزوايا إلى أماكن للشعوذة وكل ما ليس له علاقة بالإسلام؟ * هناك بعض روافد التصوف، ما يعرف بالممارسات العلاجية والممارسات الشعبية، بحيث كانت هناك زوايا متخصصة في العلاج الشعبي بالأعشاب والقطع، وتوجد أيضا من روافد التصوف الفنون الموسيقية والخط والشعر والقصائد والملحون، وهذا لا يسمى تصوفا، بل هي من روافد التصوف، فمثلا زاوية "الحمامين" بالعقيبة، زاوية رحمانية متخصصة في الرقية (لكن ليس الرقية التي نراها اليوم والتي اعتبرها شعوذة، فأصبح كل من هب ودب يتحول إلى راق ويقتل الناس ويغتصب النساء وأمور رهيبة أخرى)، الرقية في الزوايا كان يقوم بها أناس معروفون ومتخصصون، فكانت عائلات متخصصة مثل سلالة المرابطين التي تسيّر الأمور الدينية، وفي هذا الصدد حاولت فرنسا القضاء عليهم عن طريق ترحيلهم وأخذ أملاكهم وفي نهاية الأمر نجحت فرنسا في قصم ظهر الجزائريين دينيا وروحيا، فصارت أمور الدين في متناول متطفلين. الدين في السابق كان اختصاصا مثل الاختصاص الطبي والعلمي. - هل التصوف مذهب ثابت أم متغير؟ * التصوف ليس مذهبا، التصوف هو الإسلام ويخترق جميع المذاهب، ففي جميع المذاهب الصوفية توجد حياة صوفية، وهي ليست متمذهبة بأي مذهب، بل هي القلب النابض للإسلام، وعلى هذا الأساس، التصوف واحد مثل ما هو الإسلام واحد لا يتقدم ولا يتأخر ولا هو ثابت، فهو من حيث الجوهر الإلهي خارج الزمان والمكان. - وكيف للتصوف أن يتكيف مع متغيرات العصر؟ * العصر؟ الإنسان لم يتغيّر، من قال أن الإنسان تغيّر ؟ ظروفه ربما هي التي تغيرت، إلا أن مخاوفه وقلقه وطبيعته واحدة منذ القدم، ربما يجابه نفس الأسئلة، مثل سؤال: من أين أتى؟ ومسألة الموت وقضايا أخرى، فالإنسان مخلوق ضعيف منذ الأزل، ظروف الإنسان هي التي تغيرّت، فمثلا الزاوية كانت تفرش بالحصير، واليوم تفرش بالسجادة، ونحن مع الأسف نصبو إلى الحديث على حساب القديم وهو شيء غير مرغوب فيه، لأن الزاوية رسالتها واحدة لكنها اليوم مطالبة بتناول مشاكل جديدة وقضايا اجتماعية ترتبت عن عصر العولمة وعن الحياة المدنية الحديثة وتحدياتها المتعددة، لكن لا توجد وصفة واحدة تطبق، يحب التوقف عن التفكير بوصفة موحدة، فالطرائق بعدد أنفاس الخلائق ولكل شيخ مسلكه في الرد على هذه التحديات ومعالجة القضايا، لأن الزاوية التي توجد في القرية لا تواجه نفس المشاكل التي تواجهها الزاوية التي توجد في المدينة أو العاصمة، هناك اختلاف في طريقة الحياة والتكوين الاجتماعي للأفراد، فلكل حالة وصفتها ولكل زاوية منهجها. - ما هو دور الزوايا في المدن الكبرى تحديدا حيث تتأصل المادية وتغرب عنها الروح؟ * سأتكلم عن حاضر التصوف في الجزائر العاصمة، يمكن القول أننا بصدد إحياء تراث كاد يفلت من أيدينا، لكننا بلطف من الله شرعنا في محاولة استرداد هذا التراث، وعلينا العمل بوتيرة سريعة وبإخلاص لأن هذا الشيء مقدس ولا يمكن التلاعب به. أرى أن الزوايا حاليا في طور الإنعاش، نعم، حاضر الزوايا في الجزائر في طور الإنعاش ولم يخرج منها بعد ، ويحتاج إلى زمان وجهد خارق لإعادة إحيائه من جديد، لأن الزاوية ليست مجرد جدران أو ديكور أو شخص معمم، فالزاوية لها باطن وظاهر، نحن بصدد إحياء ظاهر التصوف لكن باطنه يحتاج إلى وقت أطول وجهد أكبر لاستعادة جوهره ونضارته. - وكيف يمكن للطرق الصوفية أن تساهم في إيجاد حلول للمشاكل التي يتخبط فيها المجتمع الجزائري وبالأخص الشباب منه؟ * يجب أن نعرف أن الصوفية اليوم ليس لهم المفعول الذي كان لهم من قبل، ولا يمكن أن نطالبهم بمجهودات ليست في متناولهم، في السابق كان للزاوية دور كبير في البلد، وأذكر الأمير عبد القادر الذي استطاع بزاوية القيطنة القادرية بمعسكر، تعبئة شعب بأسره وتأسيس جيش وإقامة نظام وإدارة وتأسيس دولة، كل هذا بفضل الزاوية التي كان لها آنذاك وزن، واليوم نحن بصدد استرجاع هذا الدور وفي المستقبل إن شاء الله سوف يكون هناك دور للزوايا في التوعية والإرشاد وتأطير قطاعات المجتمع على اختلاف شرائحه. وأعتقد أن الصوفية في الجزائر خرجت من حالة الركود، فهي تخرج منها تباعا، وهذا السبات هو سبات صحي في نهاية الأمر، لأن التصوف مدد إلهي لا يموت، فمثلا الطرق الصوفية كانت ممنوعة في الاتحاد السوفياتي سابقا منذ سبعين سنة، والآن تعود إلى الحياة فهي إراديا تجمد إلى أن تسمح لها الظروف في العودة إلى الساحة ولكن هذا الجمود إرادي وعن وعي. - وكيف تقاوم الصوفية الفكر الأصولي؟ * أقول أن حضور التصوف وترسيخ قيمه في المجتمع، القائمة على مبادئ الشفقة والرحمة والتضامن وتأصيل قيم الوطنية والوفاء والتضحية في سبيل الصالح العالم، هذا من شأنه أن يزرع ثقافة السلم في المجتمع وتضامنه وتعبئته من أجل بناء دولة الخير. - وكيف قاومت الصوفية حملات التبشير؟ * التبشير ليس قضية جديدة ولكنها قديمة من وقت "لافيجري" الذي كان يطمح إلى تنصير الجزائريين، وما فتئت الحملات التبشرية تهتم وتسعى إلى تنصيرنا، ولكن في جميع الأحوال كانت محاولاتهم تبوء بالفشل، وعلى سبيل المثال كان الشيخ سي أحمد مصطفى العلاوي مؤسس الطريقة العلوية، يعمل على فتح زاوية مقابل أي كنيسة تبنى على التراب الوطني، حتى أنه كان يختار المكان المقابل لهذه الكنسية ويشتريه بأموال الطريقة ويحبسه وقفا، فتمتص الخلق الذي كان بالإمكان الانجذاب إلى الفرق التنصيرية، وهذا يعني أن التصوف والزوايا حافظت على الهوية الوطنية طيلة الفترة الاستعمارية، لأن غالبية الجزائريين كانوا أميين في الفترة الاستعمارية، فالإسلام استمر عن طريق هذه الممارسات الطرقية التي نحن اليوم نتجرأ عليها ونسعى إلى إبطالها، فمثلا عن طريق الاحتفال بالمولد، تعرّف أجدادنا الأميين على حليمة السعدية وآمنة أم الرسول لأنهم سمعوا حكايات عنها في المولد والأعياد والمواسم الصوفية، عكس شباب اليوم المتعلم الذي قد لا تختلط عليه هذه الشخصيات. - لماذا تتحول النوافل والطقوس في الطرق الصوفية إلى واجب وفرض، وأذكر مثلا عدد التسبيح في اليوم الواحد؟ * لا، هي ليست فرضا ولا قال بها شيخ، وهذا التحديد في التسبيح هو ما يميّز طريقة عن أخرى، مثلا الطريقة الفلانية تقول أن مريديها يتعين عليهم وليس واجبا عليهم ذكر عدد معين من اسم الله أو أسماء الله الحسنى لبلوغ مرتبة ما من مراتب السلوك الصوفي، ولكنها ليست مطلقا واجبا بالمفهوم الفقهي للوجوب والفرض. - هل التصوف موجود في الديانات الأخرى وما الفرق بينه وبين التصوف في الدين الإسلامي؟ * التصوف موجود في جميع الديانات فكل ديانة لها ظاهر وباطن، فظاهر الدين هو فرائض الأحكام وباطنه روحانية هذه الأحكام، فهذه الروحانية موجودة في جميع الديانات إلا أن لكل دين خصوصياته، ولا يمكن لنا أن نقر بنوع من توحيد الأديان فلا مجال لهذا، فلكل دين خصوصياته وتصوفه الخاص، إذن لا خلط في هذه الأمور، ولكن الاحترام والحوار والتواصل موجود بين جميع الديانات والروحانيات بشرط احترام التعددية المسلكية والخصوصية الثقافية للمجتمعات والدول، فلكل بلد خصوصياته الدينية والمذهبية ومشربه الروحي الخاص به.