شاعت في الغرب منذ سنوات، لا سيما بعد أحداث 11 سبتمبر/ أيلول الإرهابية ما سمي "بالإسلامفوبيا" أي الرهاب من الإسلام، مثلما انتشرت في الفترة الأخيرة ما يمكن اصطلاحه ب"العربفوبيا" أي كراهية العرب والعداء لهم، ولعل ذلك ليس بمعزل عما يمكن نحته من "الزينوفوبيا" Xenophobia أي الرهاب من الأجانب، بمعنى كراهيتهم وعدائهم، وقد اتسعت هذه المسألة على نطاق كبير بصعود وانتشار بعض التيارات والاتجاهات العنصرية والفاشية في أوروبا. وقد تلمسنا حجم الهجوم الشديد على مؤتمر جنيف (ديربان-2) حول العنصرية وانسحاب الولاياتالمتحدة وإسرائيل وعدد من دول الاتحاد الأوروبي منه، وتأييد مواقفها لدى جهات وجماعات ودول غربية كثيرة، لمجرد استنكار ما ذهب إليه مؤتمر ديربان الأول في العام 2001 من دمغ الممارسات الإسرائيلية بالعنصرية.ولعل حدثا مثل مؤتمر ديربان يمكن استحضاره دليلا على أن هناك أكثر من جهة هي التي تقف مسؤولة أمام تشويه صورة الإسلام في أعين العالم، فإضافة إلى سيل الدعاية الصهيونية، التي سعت إلى تصوير الصراع العربي-الإسرائيلي، باعتباره صراعا بين أديان، أي بين الإسلام واليهودية، وقوى متخلفة عربية لا تؤمن بحق الوجود والديمقراطية و"دولة" يهودية تسير في طريق الممارسة الديمقراطية، في حين أن الصراع هو بين حقوق مغتصبة وأرض محتلة وشعب مشرد في غالبيته الساحقة، ومغتصب إجلائي استيطاني، رغم أنه يتعكز على حقوق "سماوية" بأرض الميعاد المقدسة لشعب الله المختار، في حين أن الصراع دنيوي لتحرير الأرض والوطن، وليس حول تعاليم الدين الإسلامي وشريعته واليهودية وتلمودها.أما في الغرب عامة فتندفع بعض الأطروحات الرسمية وغير الرسمية لتساوي بين الإسلام كدين للتسامح والرحمة والمغفرة والجدل والتنوع والحوار والسلام، وبعض الاتجاهات المتطرفة والمتعصبة الإسلاموية التي تستخدم تعاليم الدين أحيانا على نحو مشوه ضد الدين نفسه، وهو ما نطلق عليه اسم "الإسلاملوجيا" أي توظيف التعاليم الإسلامية بالضد منها رغم أنها ترفع راية الإسلام. ولعل العرب والمسلمين دفعوا ثمن هذه الاتجاهات قبل غيرهم، رغم أن هذه الاتجاهات حتى وقت قريب وقبل حدوث إرهاب 11 سبتمبر/ أيلول لقيت تشجيعا علنيا ومستترا من بعض القوى والجماعات والدول الغربية مباشرة أو بصورة غير مباشرة.وأستطيع القول إن الكثير من النخب الفكرية والسياسية والثقافية الحاكمة وغير الحاكمة في الغرب لم تتفهم حتى الآن وربما بصعوبة، طبيعة العلاقة مع العرب، طالما يصور الصراع العربي-الإسرائيلي على نحو مشوه، لا سيما من خلال ممارسات خاطئة وضارة يقوم بها بعض المتطرفين بهدف إثبات أفضليات الإسلام على المسيحية وعلى اليهودية، وجعل مسألة النصوص الواردة في القرآن الكريم مبررا لمواصلة هذا الصراع بطريقة لا تخلو من عبثية، بحيث يمتد من أقصى المعمورة حتى أقصاها، وكأنه لا علاقة للمصالح الدولية بذلك، بما فيها مصالح المسلمين أنفسهم، والسياسة منذ بدء الخليقة وحتى تنتهي ستبقى تحكمها الصراعات واتفاقات المصالح، باقترابها أو ابتعادها عن المبادئ.لا شك أن هناك نظرة ارتيابية مسبقة لدى الغرب والشرق بما فيه الإسلامي إزاء الآخر، والغرب ليس وحده المسؤول عن ذلك، فثمة مساهمات نحن مسؤولون عنها، لا سيما وقد انتشرت لدينا تيارات "أصولية" متعصبة ومتطرفة ومعادية للغرب، وهو ما نطلق عليه اصطلاحا "الغربفوبيا" أي كراهية الغرب، والعداء لكل ما هو غربي بما فيها للحضارة الغربية وإنجازاتها العلمية والتكنولوجية والفنية والجمالية والعمرانية الهائلة، بكل ما لها وما عليها.الغرب ليس كله غربا، فإلى جانب الغرب الإمبريالي- العنصري في الماضي والحاضر هناك الغرب التقدمي المؤيد لحقوق الإنسان وحقوق الشعوب في تقرير المصير، وهو ما حاول مفكر بريطاني مرموق مثل الفريد هاليداي أن يضع إصبعه عليه في كتابه الموسوم "ساعتان هزتا العالم" وقبله كتابه "الإسلام والغرب". وكان عرفان نظام الدين قد تناول العلاقة بين العرب والإسلام في الغرب بوجهيها، وذلك في كتابه "العرب والغرب"، مثلما أطل إعلاميا على ذلك في كتاب "الإسلام والإعلام" مؤشرا إلى التقصير لدى الجانبين، خاصة في فهم العلاقة المتميزة والمتناقضة والمتداخلة، إضافة إلى التعقيدات والأوهام والتشويهات التي صاحبتها ورافقتها، وهو ما أسماه الدكتور غازي القصيبي الأساطير الأربعة التي حكمت نظرة الغرب إلى الإسلام ما بعد أحداث 11 سبتمبر/ أيلول.ما زالت بعض تفسيراتنا قاصرة لفهم ما نطلق عليه "الصراع التاريخي" الذي يستمر بين الغرب المسيحي والشرق المسلم، وهو ما ندعوه الحروب الصليبية والمقصود "حروب الفرنجة" التي حدثت في القرن الحادي عشر الميلادي، ومن ثم الصراع مع الدولة العثمانية، وذلك لتأكيد حتمية الصراع باعتباره صراعا تناحريا غير قابل للحل أو التوافق، رغم أن الصراع يمكن أن يؤدي إلى اتفاق مصالح حسب منطوق السياسة الدولية تاريخيا.إن إبقاء صورة العدو حاضرة في الأذهان، رغم اختلاف المواقف، حملت معها خرافات وأوهام كل طرف إزاء الآخر، فالإسلام حسب بعض الأطروحات الغربية يشجع على الإرهاب ويحض على العنف، ويستند بعض هذه التصورات على عدد من غلاة الإسلامويين الرافضين لكل تقدم أو حضارة باعتبار الغرب كلّه " شرٌّ مطلق"، وهكذا تستكمل صورة العدو، وإن لم يوجد بالفعل، فقد تمت صناعته مثلما حصل بعد انهيار الشيوعية الدولية، فوجدت بعض التيارات في الغرب، اختراع الإسلام عدوا بديلا، وحسب أحد المعلقين البريطانيين جورج مونبيت، فلو لم يكن بن لادن موجودا، لكان على أميركا أن تخترعه، فقد اخترعته ال CIA العام 1979 واليوم تبحث عنه الFBI، وهكذا استبدل مصطلح المجاهدين الأفغان أيام الغزو السوفياتي إلى أبالسة وشياطين بسبب مواجهتهم للسياسة الأميركية لاحقا.إن صورة العدو الذي تتم صناعته في الغرب ليست بعيدة عن الخرافات والاختلافات بمجابهة مزعومة مع الإسلام، وهي الصورة التي يقابلها لدى الإسلامويين والتيارات المتشددة، بوضع الغرب في صورة العدو المستمر والمواجهة الحتمية الأبدية، ويميل هاليداي إلى اعتبار نموذج صموئيل هنتنغتون بشأن الصدام الحتمي للحضارات هي الأكثر رواجا لدى الفريقين، ولذلك لقي كتابه صدام الحضارات اهتماما منقطع النظير مثل كتاب فرانسيس فوكوياما "نهاية التاريخ".ولعلي طرحت باستمرار سؤالا على نفسي، هل يستطيع المواطن الغربي أو الأوروبي أن يدرك وأن يتفهم أن من يضحي بنفسه في فلسطين، ليس من أجل تطبيق الشريعة الإسلامية، وليس من أجل فرض ارتداء الحجاب للنساء أو إقامة الحد أو لفرض دفع الجزية أو التعامل مع أهل الذمة أو حتى إقامة الحكم الإسلامي، بل إنه يفعل ذلك من أجل تحرير وطنه وأرضه المحتلة والمغتصبة، سواء كان متدينا أو غير متدين، مسلما أم مسيحيا أم غير ذلك!وأدركت في حوارات مختلفة مع الكثير من النخب الفكرية والسياسية والثقافية، الحاكمة وغير الحاكمة في الغرب، أنه ليس من السهولة عليها فهم طبيعة الصراع، طالما جرى تصويره على نحو مشوه ودون دلالة تُذكر، لا سيما من خلال ممارسات وتطبيقات خاطئة وضارة يقوم بها بعض المتطرفين بهدف إثبات أفضليات الإسلام على اليهودية، وجعل مسألة النصوص الواردة في القرآن الكريم حول نكث العهود مبررا باعتبار الصراع الديني بين اليهودية والإسلام استئصاليا وبالتالي فهو صراع دائم لا نهاية له.ووفقاً لهذا المنطق الخاطئ فإن هذا الصراع يمتد من أقصى المعمورة إلى أقصاها، وهو غير محصور في بقعة معينة من العالم محتلة بقوة السلاح باستعمار إجلائي استيطاني وإرهاب دائم ومستمر بكونه يشتبك مع مصالح دولية ويعبر عنها في جزء متقدم من إستراتيجيتها الكونية في الشرق الأوسط، حتى وإن تعكز على "حق ديني" أو مزاعم أيديولوجية روجت لها الصهيونية العالمية منذ مؤتمرها الأول في مدينة بازل السويسرية العام 1897 وبعد صدور كتاب تيودور هيرتزل "دولة اليهود" بعام واحد.إن ما يقوم به الفلسطينيون مدعومين من المسلمين وأحيانا تحت راية الإسلام لإضفاء نوع من القدسية على هدفهم النبيل، إنما ينسجم مع قواعد القانون الدولي، الذي يجيز للشعوب التابعة والمستعمرة استخدام جميع الوسائل بما فيها القوة المسلحة، لاسترداد وطنها واستعادة سيادتها، وذلك لا علاقة له بالرؤية المشوّهة لإعطاء الصراع طابعا دينيا.وإذا كان الإسلام يذهب إلى تأييد مثل هذه التوجهات بما فيها استرخاص الغالي والنفيس وصولا إلى الهدف بالسلم أو بالجهاد، فإن دعوته هذه أرضية وحقوقية وقانونية وضعية، حتى وإن يتم فيها توظيف التعاليم السماوية أداة فلسفية وروحية، لهدف أرضي وإنساني وهو تحرير الأراضي المغتصبة وحق تقرير المصير، في حين ان دعاوى الصهيونية سماوية تتعلق بأرض الميعاد وتحقيق الوعد الإلهي لشعب الله المختار.على النخب الفكرية والسياسية والثقافية العربية والمسلمة التمييز دائما بين مفهوم الحضارة التي ننسبها إلى الغرب وهي نتاج إنساني وبشري، وبين مفهوم الغرب السياسي، فالأولى هي منظومة من الفلسفات والأفكار لما وصلت إليه البشرية نتاجا لتطورها السياسي والثقافي والجمالي والعمراني والفني والتكنولوجي والأدبي، في حين أن الغرب السياسي يعني النظم والأيديولوجيات الحاكمة في أوروبا والولاياتالمتحدة، القائمة على المصالح بالدرجة الأساسية وقد تكون أحيانا في تعارض مع مقتضيات السلوك الحضاري أو مثله وقيمه الإنسانية العليا، خاصة مع شعوب وأمم أخرى.لكن هذه النظم المتمثلة بأوروبا وأميركا في الوقت نفسه تعد مستودعا للتقدم العالمي لعصرنا بجميع إيجابياته وسلبياته، وبالتالي لا يمكن تبسيط الموقف من الغرب باعتباره كله "شرا مطلقا"، وهي النظرة التي تتذرع بها إسرائيل لحماية نفسها من "آلة التدمير" العربية والإسلامية، بتأكيد انتمائها إلى الغرب الحديث، ولإثبات تعارضها مع أهداف العرب والمسلمين، ولعل هذا ما حاولت ترويجه أثناء انعقاد مؤتمر جنيف (ديربان-2) حول العنصرية والتمييز العنصري وكراهية الأجانب، وهو ما استطاعت أن تحشد له طاقات وإمكانات دولية هائلة في الولاياتالمتحدة والغرب، مستفيدة من بعض الأطروحات الخاطئة والضارة التي ما تزال تهيمن على بعض التوجهات الإسلامية، فضلا عن تقاعس العرب والمسلمين منذ مؤتمر ديربان العام 2001، وذلك بعد أن حصلوا على نصر سهل لم يستطيعوا الحفاظ عليه أو توظيفه لمصلحتهم، لاسيما بعد أحداث 11 سبتمبر الإرهابية، وهو ما حشدت له إسرائيل جميع الطاقات منذ ثمانية أعوام، حتى تحقق لها ما أرادت رغم مقاطعتها مؤتمر جنيف.لقد عبأت إسرائيل آلة إعلامية وسياسية كبيرة، بما فيها حضور عشرات من منظمات المجتمع المدني بتكليف وإسهام مباشر منها أو بطريق غير مباشر عبر التنسيق والتحالف وضخ المعلومات وتهويل صورة مؤتمر ديربان الذي دمغ الصهيونية بالعنصرية، وكذلك بالإفادة من بعض الأطروحات المتطرفة أو الشعارات ذات النبرة العالية، مستغلة إياها باعتبارها مهددة بالاستئصال، في حين أنها هي التي تحتل الأراضي العربية وتمارس سياسة عنصرية ضد سكان البلاد الأصليين وترفض القرارات الدولية وحق العودة، وتضم القدس والجولان خلافا للشرعية الدولية، وفي الوقت نفسه تلصق كل أعمال العنف والإرهاب بالإسلام في صورة نمطية، ليست بعيدة عن الصهيونية نفسها.