الدكتور فاروق طيفور مؤسس مركز المنظور الحضاري/ الجزائر إن التحولات المتسارعة التي تقع في المفاهيم المتعلقة بحقل العلاقات الدولية وغيرها، لاسيما في مرحلة ما بعد 11 سبتمبر 2001، ثم مرحلة مابعد فضيحة ويكي ليكس ونشر الوثائق السرية وكشف المستور في العلاقات مابين الدول، وهو الأمر الذي أنتج فيما بعد مرحلة هشة في الثبات على مصطلحات مستدامة ليس فقط على مستوى الموقف والخطاب، بل حتى على مستوى المناهج والنظريات، على اعتبار أن العالم دخل في دائرة جديدة متعددة الأطراف عادت فيها بعض القوى الكبرى إلى الاستثمار في مجالاتها الحيوية التقليدية بطريقة ذكية تجعل من المجرى الحضاري نقطة انطلاق نحو التنافس على احتلال مواقع جديدة في العالم الموصوف بعالم من دون أسرار وحرب من دون دموع. إنها المرحلة التي انكشفت فيها الدولة بمفهومها الواستالفي، وصار أمنها القومي ومعادلاتها الاجتماعية الحاكمة لاستقرار مجتمعاتها في حالة ارتهان كبيرة، سواء تعلق الأمر بمرحلة الأمركة التي أدخلت العالم إلى الأحادية القطبية أو في مرحلة العودة إلى الحرب الباردة، حيث تتنافس قوى إقليمية ودولية على صياغة منظومة علاقات دولية جديدة تخضع إلى فواعل متجددة غير الدولة التي كانت تعدّ وحدة أساسية من وحدات العلاقات الدولية، وأصبح مفهوم الاستقلال والسيادة والخصوصية مرتهنا لدى قوى تملك ناصية عصر المعلومات الذي دخل العالم فيه ما بعد العصر الصناعي، وأصبح التكيف مع المرحلة الجديدة أمرا في غاية الأهمية والخطورة، سيما بالنسبة للدولة المستقلة حديثا، والتي عمل الاستعمار على تنشئة جيل من النخبة التي تنتصر لمشاريعه أكثر مما تتمسك بالهوية الوطنية ومكتسبات الاستقلال والمقاومة والانعتاق والحرية، وهو ما يطرح علينا بإلحاح بحث التحول الذي يحدث في حقل العلاقات الدولية وصولا إلى تحقيق نظرية كوسموبوليتينية (ونقصد بهذا المصطلح نظرية ذات بعد عالمي من حيث نظرتها للمبادئ الأخلاقية كمبادئ عالمية يتم تطبيقها في مختلف أنحاء العالم، وبهذا الوصف هي نظرية مزيج من تلك النظريات التفسيرية الوضعية والنظريات التكوينية المابعد وضعية للعلاقات الدولية في المستقبل المنظور، والتي ستكون بلا شك لبنة أساسية باتجاه الحد من أزمة التنظير (جندلي عبد الناصر، التنظير في العلاقات الدولية بين الاتجاهات التفسيرية والنظريات التكوينية، ص 355-356). وتحديد المخاطر التي ترهن الاستقلال، سيما في مرحلة تتشكل فيها محاور إقليمية لا تمثل متغيرات مستقلة، بل هي متغيرات تابعة إلى محاور أكبر في العالم تتفاعل معها بعلاقة تبادلية شكلت تحديا جديدا في طبيعتها وطرق التعامل معها، وهذه الدراسة ستحاول الإجابة عن تساؤلات مركزية تتمحور حول القضايا التالية: هل يمكن أن يحدث تعزيز للاستقلال الوطني في ظل التحولات التي تحدث في العلاقات الدولية والمحاور الجديدة التي أنتجتها؟ كيف يمكننا قراءة هذه التحولات وفي أي اتجاه؟ ماذا تبقى من الاستقلال الوطني في ظل ثورة المعلومات ووسائل الإعلام والاتصال الجديد؟ ماهي مستويات التحليل والإدراك الاستراتيجيين في فهم المعادلات الدولية والإقليمية الجديدة؟ هل يمكن توظيف هذه التحولات في صناعة النموذج الذاتي وتعزيز الاستقلال، وماهي الأدوات الكفيلة بتحقيق هذا الطموح؟ أولاً: الإطار المفاهيمي (العلاقات الدولية- الاستقلال- الاستعمار) التحوّل في مفهوم العلاقات الدولية منذ حقب طويلة ومفهوم العلاقات الدولية يثير الإشكاليات النظرية والتحليلية، ويعرف تغيرات متعلقة بالفاعلين الرسميين وغير الرسميين في المنتظم الدولي، لاسيما أنه مفهوم يتشابك مع العديد من المفاهيم الأخرى المجاورة له، حيث تنوعت التعاريف وتعددت المدارس وتنافست أيضا في فرض مفهوم احتكاري أنتج فجوة بين معنى المصطلح الشائع استخدامه فى الغرب (International Relations) وترجمته الحرفية “العلاقات الأممية”، وبين الترجمة العربية الشائعة لهذا المصطلح وهي “العلاقات الدولية”، فالعلاقات بين الأمم تختلف فى مفهومها ومضمونها عن العلاقات بين الدول. ومن تلك المصطلحات التي تترصع بها الدراسات والبحوث مصطلح (International Affairs)، وترجمته الشائعة فى اللغة العربية هي “الشؤون الدولية”، ومصطلح (Intentional Politics)، وترجمته الشائعة “السياسة الدولية”؛ ومصطلح (Foreign Affairs) وترجمته “الشؤون الخارجية”، ومصطلح(World Politics)، وترجمته “السياسة العالمية”، ومصطلح (Global Politics) وترجمته “السياسة الكونية”. وفي هذا إطار يرى البعض (نادية مصطفى محمود، مدخل في دراسات نظرية العلاقات الدولية ص11)، أن الخلاف بين الباحثين حول تسمية التفاعلات التي تقع خارج حدود الدول يدور حول محورين: أولهما يتعلق بماهية هذه التفاعلات، وما إذا كان من الأفضل تسميتها علاقات، أم شؤون. وثانيهما يدور حول أطراف هذه التفاعلات، وهل الأفضل نسبتها إلى الأمم والشعوب أم إلى الدول أم إلى العالم ككل، وهو نقاش ينطوي على الرغبة في التأكيد على وجود فواصل أو حواجز بين الأبعاد المختلفة للتفاعلات الدولية، وأهمية التمييز بينها حسب طبيعتها ونوعها. ومن ثم، تبدو “الشؤون الدولية” وكأنها تتعلق بأحداث منفصلة في طبيعتها، ولا رابط بينها. ومن جهة آخر قد ينطوي على الرغبة في التأكيد على الطبيعية الديناميكية للتفاعلات التي تتجاوز حدود الدول بصرف النظر عن نوع هذه التفاعلات وموضوعها، حيث ينظر إليها باعتبارها تشكل نسقا مترابط المكونات والأبعاد وتتفاعل عناصره ووحداته جميعها؛ حيث يؤثر كل مكون منها على الآخر ويتأثر به، وهو ما يعكس اختلافا حول طبيعة الفاعلين الذين يشكلون الأطراف التي تصنع تلك التفاعلات أو “الأحداث” أو “الشؤون” أو “العلاقات”، فالدولة بالنسبة لهذا النقاش هي الوحدة الأساسية المتفردة في العلاقات الدولية، ولكن التحولات الحالية أفرزت فواعل جديدة أصبحت تؤثر تأثيرا جوهريا في المنتظم الدولي ومخرجات هيئاته الرسمية وغير الرسمية، بل وتطور الأمر إلى تحكم تلك الفواعل غير الرسمية في الفواعل الرسمية، حيث وصل الأمر إلى حد صناعة المواقف وصياغة السياسات وبناء الاستراتيجيات، سيما بعد الخروج المنظم والمبرمج للولايات المتحدةالأمريكية من قيادة النظام الدولي في سياق دولي ما بعد الأزمة المالية العالمية سنة 2008 (زبيغنيو بريجنسكي، رؤية استراتيجية: أمريكا وأزمة السلطة العالمية، ص91)، وتفرغها إلى بعض الشؤون الداخلية ومراقبة منطقة الباسفيك لتحجيم الدور الصيني المتزايد في العالم. ورغم وجود هذه التحولات المركزية وورود متغيرات جديدة، فإنه يمكننا القول بأن تعريف العلاقات الدولية يدور حول محورين أساسيين هما: أنماط العلاقات ونطاقها وطبيعتها، والوحدات الأساسية التي تقع بينها هذه العلاقات، وهو ما يثير التساؤل حول: الوحدات الأساسية في دراسات العلاقات الدولية، ومستويات تحليل الظاهرة الدولية، ونطاق امتداد مجال دراسة العلاقات الدولية، وهل يضم كل أنماط العلاقات بين كل الوحدات الدولية؟. وبعد هذا العرض المكثف لمفهوم العلاقات الدولية والتشابك الحاصل بين الباحثين والسياسيين بشأنها، حيث لم يكن الهدف هو فك الاشتباك، وإنما هو فحص للحالة الجديدة، لنتمكن من وضع أرضية للنقاش حول إشكالية الموضوع المطروحة لدينا، ومحاولة تدقيق المفاهيم بحثيا بغرض فك أو تركيب العلاقة بين الخارجي والداخلي، وكيف يتأثر الاستقلال الوطني تعزيزا أو تهشيشا، وبالتالي اقتراح آليات الاستقلال المستدام. الحلقة الأولى يتبع