مضى القول في مدونة الخميس الفارط أننا سنتبع المظلوم جحا بمظلومين آخرين وما أكثرهم، في أمة لا تقدر جهد علمائها ولا مفكريها ولا قادة الرأي والسياسة لديها، وقد ذكروا أن الظلم أنواع ظلم مادي وظلم معنوي، وأعلاهم خطرا وأخطرهم شررا إطلاق أحكام وتقييم أقوام بخلاف ماهو موجود في واقع الأمر، وعندي أن المفتئتين عن الناس أحكاما ومزوري وقائع التاريخ يشملهم حتما حكم ''من سن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة''، إذ كيف يجرمن شنآنك أقواما أن تجني عليهم بأقوال ظالمة وأحكام مجحفة، يبقى عوارها وعيبها يسري خلفا عن سلف، ولعل أصحابها -في حكم أهل الملكوت- من المصطفين الأخيار. وبعد ذكر هذا نعرج على ذكر المظلومين الثلاث من خلال كتاب ''المظلومون في التاريخ'' ل''الدكتورالمرحوم شاكر مصطفى'' وأولهم: هارون الرشيد المظلوم : إذا جاء ذكر هارون الرشيد، انداحت أمامنا الصور الذهبية ، ورقصت الأحلام وانطلق الخيال وراء خطرات الجواري على المرمر ، وأستار الحرير تهتز وهدير الأعواد والليالي التي لا تحن إلى الشمس. والرشيد : له الحبّ والكأس والمزهر وللناس منه الصدى المسكر. هذه الصورة (الألف ليلية) هي التي عشعشت في أذهان الناس ، وطلتْ بالذهب عصرَ الرشيد وقصورَه والجواري والمزامير . هل أفاجئك إذا قلت إنها ليست سوى أسطورة ، وأسطورة كبيرة ؟ . أبدا لم يوجد على عرش الخلافة ذلك الرشيد اللاهي . بل إن الثلاثي المشهور ( الرشيد بغداد أبو نواس ) إنما هو ثلاثي قصصي ليس غير. ابتكرته وربطت بين جوانبه مخيلات القصاصين، لقد كانت القاعدة التي أقاموا عليها ملحمة ألف ليلة وليلة . الرشيد بالذات كان من التعساء في الحياة .ومن المظلومين بهذه الصورة العابثة الشائعة . هل أقص عليكم حقيقته التاريخية ؟. وصل إلى الخلافة سنة 170 هجرية وهو في الثالثة والعشرين من عمره وقد شهد في نفس السنة قتلَ أبيه المهدي ، ثم أخيه الهادي في مؤامرات البلاط، وقد قضى السنوات الثماني الأولى من الخلافة يعتمد على البرامكة ، ثم كانت حياته بعضَ الجحيم لأمرين : الأول: أحسَّ بانحراف البرامكة عنه وتدبير هم ضده فأقبل يواجه عملا بعمل ، وتدبيراً بتدبير . كان يقضي الليالي في التفكر والتدبر حتى فتكَ بهم قبل فتكهم به . وفي سبيل ذلك هجر بغداد ، ومضى إلى الحيرة ثم إلى الشمال من بغداد '' القاطول '' ثمّ أقام في الرقة واتخذها مسكنا ومستقرا له وعاصمة . الثاني : مرضُ الرشيد المزمن الطويل كان هذا الخليفة السعيد الذي تتغنى به الليالي . . . . مريضاً بالسرطان ، وكان يهربُ من علته تارة إلى الغزو ، وتارة إلى الحج ، وثالثة إلى التعبّد ، مائة ركعة كان يصلي كلَّ يوم ، ويتصدق كلَّ صباح بألف درهم يوزعها بيده أو بأمر منه. حجَّ الرشيد تسعَ مرات - تقريبا حجة كلَّ سنتين- . وقد أبى في آخر حجة له إلا أن يزحفَ ماشيا ، من الرقة إلى مكة على قدميه وقد فعلَ ذلك سنة 188 للهجرة. كان إذا حج يحج معه مائة من الفقراء على نفقته ، وإذا لم يكتبْ له الحج أرسلَ إلى عرفاتَ 300 رجل بالنفقة الكاملة وقد ختم به الخلفاءُ الحجاج فما من خليفة حج من بعده أبدا . وكان الرشيدُ يقسم ليالي أسبوعه : ليلة على الوزراء ورجال الدولة يذاكرهم أمورَ الناس ويشاورهم في المهمّ منها . وليلة للكتاب ، يحاسبهم عما لزم من أمور المسلمين ، وليلة للقواد وأمراء الجند ، يذاكرهم في شؤون الأمصار. وليلة للعلماء والفقهاء ، وليلة للقراء والعبّاد . وليلة يخلو فيها بنفسه ، لا يعلم أحد قرُبَ أو بعُدَ ما يصنع . ضمن هذا الإطار أين عالم اللذة واللهو ، وضحكات الجواري وعربدات الندماء ؟ . يقول الدكتور في الختام : لعلنا يجب أن نعرف أن امتلاك الجواري في ذلك العصر كان برهان ثروة لا دليلَ مجون ، فهنَّ مدبرات القصر وهنّ المربيات والخادمات والطابخات والعازفات والمغنيات . و كان الرشيد حتى في مجلس أنسه يُضرب بينه وبين الخدم والمغنين بستر يحجبه، وللسمر قواعد وحرمات .. وقال الجاحظ : من أخبرك أنه رآه يشرب إلا الماء فكذبْهُ . أليس الرشيد مظلوماً ؟! . حين نتعرفُ عليه من خلال كتاب وضعَ كيداً وتشويها لهذا الرجل العظيم ؟!!ئ؟ كلكم يذكر قوله المشهور '' إلى نقفور كلب الروم '' . ثم إن ثاني المظلومين الذي أردنا ذكره في هذا المقام: خليفة لم يسجله التاريخ إنه عبد الله بن الزبير الصحابي ابن الصحابي، وأمه الصحابية أسماء بنت أبي بكر الصديق ، لا تذكره كتب التاريخ إلا أنه بعضُ الثائرين على بني أمية ، ولكنه كان الخليفة الثامن من خلفاء المسلمين . وقد نُودي بالخلافة وبإمرة المؤمنين حوالي اثنتي عشرة سنة ! ولا تذكره الكتب إلا في اليوم الأخير: حين جاء إلى أمه أسماء وقد أصابها العمى وقال لها : أماه ، لقد خذلني الناسُ حتى ولداي فماذا أصنع ؟ . قالت : يا بني إن كنت قاتلت لغير الله فقد هلكتَ، وأهلكت، وإن كان لله فلا تسلّم نفسك . وكان يومَ صُلبَ في الثالثة والسبعين من عمره . إنه مظلوم آخر. يتبع...