أساليب الدعاية والتشهير أخذت في العصر الحاضر أشكالا وألوانا مختلفة، يصعب معرفة خباياها ويدق على أعين الناظرين معرفة كنهها، لكن هل تعلم أن أسلوبا فريدا كان يعتمده القدماء قبل استحداث التقنيات الجديدة، كان في فعله وأثره الرائي والمذياع والمجلة والصحيفة، وكان يكفي أن ينشد الرجل حينها بيتا أو قصيدة ليطير ذكرها في الآفاق، ويخترق صداها الطباق، وغير المحبوب ولا المراد في مثل هذه الحالات هو قلب الحقائق، وظلم الخلائق، فكم من جواد صيروه مادرا، ومن عيي جعلوه قس بن ساعدة، وكم قالوا للشمس لونك حائل ، ووصفوا السها بأنه نور الأكوان ... وكم وكم ، وفي سلسلة الحلقات التي تحدثنا فيها عن المظلومين والمشوهين في التاريخ، كان أحد صانعيه ممن نالته شظايا القنابل الصوتية، عبر البوق الدعائي الرهيب، الشعر....فحبذنا الحديث عن آخر المظلومين كافور الذي شوهته القصائد، حسبما ورد في كتاب ''المظلومون في التاريخ'' : مسكين كافور الإخشيدي ، أبو المسك . نحن نجعل اسمه شتيمة ، لماذا ؟ . لأن شاعرنا الأثير المتنبي ، هذا البوق الدعائي الرهيب ، أطلق أحرفه كالكلاب تنبحُ وراءه عبر العصور . وصدقنا تطريبَ تلك القوافي ، وإلى الشيطان بالحقيقة والتاريخ . اثنتان وعشرون سنة من الحكم الفاضل الطيب ، محتها بعض القصائد ، شوهتها وشوّهتْ وجه كافور الحقيقي . ألبسته القناع البغيض وضاع كافورُ التاريخ ، غاب وراء القناع وبقي لنا كافورُ المتنبي وما أدراك ما كافور المتنبي ؟. إنه '' أبو النتن '' بدل أن يكون أبا المسك . وحدّثْ ما شئت بعد ذلك ، عن صورته المنكرة تارة ، والكاريكاتورية تارة أخرى وحدّثْ ما شئت عن كتلة المخازي التي تحمل اسم '' كافور '' . أ مَينا وإخلافا وغدرا وخسة وجبنا ؟ أ شخصا لُحتَ لي أم مخا زيا ؟ . وحدّثْ عن الصورة : ومثلك يؤتى من بلاد بعيدة لُيضحكَ ربّات الخدور البواكيا . يفرش المتنبي ملاءة الشتيمة لكافورَ بلسان تحسَبُه الافعوان المسموم . إني نزلتُ بكاذبين ضيفُهمُ عن القرى وعن الترحال محدودُ من كلّ رخو وكاء البطن منفتق لا في الرجال ولا النسوان معدودُ جوعان يأكل زادي ويمسكني لكي يقالَ عظيمُ القدر مقصود صارَ الخصيُّ أمامَ الآبقين بها فالحرُّ مُستعبدٌ والعبدُ معبودُ لا تشتري العبد إلا والعصا معه إنّ العبيدَ لأنجاس منا كيد فهل ضلّ الناسُ حقا بهذا الكافور، واكتشفه المتنبي وحده ؟ . أين كافورُ الحقيقي ، من هذا الكافور الشعري الأسود ؟ . في الواقع : إن كافورَ المسكين ، كان ضحية هذه الإذاعة المجلجلة التي شكلتها قوافي المتنبي عبر العصور . كافورُ التاريخ شئ آخر ، مختلفٌ تماما عن هذا الكافور الذي خلقه شاعرنا المدلل من أحقاده، وأنزلَ عليه الصواعق . بلى : كان كافور عبدا أسود خصيا ، بل كان أيضا قبيح الشكل ، ثقيل البدن ، مثقوب الشفة السفلى . ولكنْ : كل عيوبه تنتهي عند هذا الشكل الجسدي . كانت بلادُهُ ( مصر والشام الجنوبية ) تابعة رسميا للعباسيين ، ولكنهم كانوا ضعفاء في بغداد ، في حين يطمع بمصر أعداؤهم ، الخلفاء الفاطميون الذين قاموا في المغرب واستطاع كافور بدهائه أن يحتفظ بالعلاقة الطيبة مع الطرفين حتى مات . بعد موته بسنة واحدة ، أخذ الفاطميون البلاد . وإلى هذا شدا الكثير من العلم باللغة والأدب ، وبرع في فنون القتال وانتصرَ مرات 0 وهكذا ارتضى الناس طريقته وارتضوه قرابة ربع قرن . وكان المتنبي أكثرَ صدقا مع التاريخ حين قال له قبل غضبته الكبرى : أجفل الناسُ عن طريق أبي المسك وذلت له رقابُ العباد هذه دولة المكارم والرأفة والمسجد والندى والأيادي وكان الرجل ثانيا كثيرَ التواضع ، لم تأخذه العزة بالحكم مرة . ذكروا بأنه لحقه أيام بؤسه جرب كثير ، حتى طرده صاحبُه ، ومرّ بالسوق على طباخ وسأله بعض الطعام ، فضربه بالمغرفة الحارة على يده حتى احترقت وغشي عليه ، وأخذه بعض أهل الإحسان فداوى حروقه . ويقولون : إنه كلما عزّ تْ عليه نفسُه ، ذكر ذلك لنفسه وقال : اذكر ضربَ المغرفة. وربما ذهب إلى السوق ، وسجد شكرا لله . !ئ؟ وقد قضى حكمَه كلَّه لم يحملْ لقبا من ألقاب الملك ، اكتفى بلقب الأستاذ. وثالثا : كان الرجل كثيرَ التدين ، كثيرَ الصدقات ، كثيرَ الاحترام لآل البيت ،عارفاً بالناس وبأساليب احتوائهم ، بين اللين والشدة ، وبين العطاء والحلم والغضب . وقعت مِقرعته مرة في الطريق فناوله إياها أحد العلويين فكاد يبكي ..... وقال : ما كنتُ أظنّ أنّ الزمانَ يبلغني حتى تفعل بي أنت مثلَ هذا . !ئ؟ فلما بلغ قصرَهُ ، أعطى ذلك العلويَّ ما في الموكب من متاع ومال ، وكانت قيمته تزيدُ على خمسة عشرَ ألفَ دينار . ذكروا أنَّ السماط المفتوح في بلاطه كان يذبح يوميا مائتين وخمسينَ خروفا ، ومثلَه من الإوزّ ، وخمسمائة دجاجة ، وألف طير من الحمام ، عدا عن مائتين وخمسين قربة من الشراب ، ومئات الصحون من الحلوى. وقالوا : إنه كان يرسل كلَّ ليلة عيد حِملَ بغل من المال في صرر ، على كلّ صرة اسمُ من جُعلتْ له ، من بين عالم ، وزاهد، وفقير ، ومحتاج مستور ، ويمرغ وجهَه في السجود قائلا : اللهم لا تسلط عليَّ مخلوقا . وما كان كافورُ ينتظرُ أنْ يتسلط عليه المتنبي ، فيهدم اسمَه في العصور . سألوهُ مرة : لم لا يُرضي هذا الشاعرَ ببعض الإمارة ؟ . فقال : يا قوم !! رجلٌ ادعى النبوة مع خير البشر ( صلى الله عليه وسلم) كيف يوليه كافورُ إمارة ؟؟!.. ودفع كافور ثمنَ هذا الموقف غاليا جدا.....