في فيلم ''تدخين'' اختتم المخرج واين ونغ ، وبول أستر السيناريست أيضا، المشهد الأخير في أحد المقاهي، وعرض البطل أوغي صاحب متجر لبيع صنوف التبغ والسجائر (هارفي كيتل) على صديقه الكاتب بول (بوب ونستن) قصة لعيد الميلاد، ولما فرغ أوغي علق بول قائلا :''قول الهراء هو موهبة حقيقية''؟ وعندما استفسر أوغي عما يقصده بالضبط، أردف الكاتب قائلا: ''إنها قصة رائعة''؟ ثم انتهى الفيلم الماتع. أعود بالذاكرة إلى ماقبل مرحلة الكتابة، وأتوقف على منظر شاب مراهق مربوع القامة، لا يني في الثرثرة و متابعة الأفلام الهوليودية . فعلا كنت أحسب ممن يميلون إلى قول الهراء بكثرة، إن كان الخجل أحيانا يظللها، وبلا تحفظ كأوغي أيا كانت المناسبة ملائمة أو لا؛ على كل هذه رؤية المقربين إليّ دونما فخر؟، ولا أظنني حينذاك كنت قادرا على إدراك ما أريده من العيش، كنت كباقي الناس ولكن لا حياة لمن ''تعيّط''؟ ففي جوّ مكظوط بالرتابة، وحياة ملآى بالبطالة، كنت قبالة أمرين، إما أن أركن إلى السائد ثم رأسا إلى جبانة الملائكة *، أو أصنع عالما جديدا على طريقتي الخاصة، وأستخرج المعاني الجديدة للأشياء العتيقة التي حولي، وطبعا كنت مهووسا بالأفلام كما أسلفت، وكان لا بد لي من لمسة سحرية تجعل للزمن الراكد قيمة معنوية ما. وابتدأ الأمر يوم عثرت في جريدة ''التايمز'' الأمريكية المشهورة، وكان العدد قديما بثلاث سنوات تقريبا، - بالصدفة- ألفيت عنوان إحدى الممثلات الشهيرات، مونيكة بولتشي، وقد أفردت لها يوم ذاك صفحة كاملة لها مزينة بصورها المثيرة. وبالرغم من أن الفكرة نزلت علي ساذجة ونيئة إلا أني تشجعت لها. وأخذت أدون على الماكينة أكثر من 4000 حرف أبجدي طيلة أربعة أيام بمعدل ألف حرف يوميا، ولم أتوقف ألبتة، فالرغبة الملحاحة التي كانت بداخلي كانت رغبة لا تقهر. وأرسلت لها رسالة طويلة، قسمتها إلى أربعة فصول أو متتاليات، الأول فصل حول آرائي السينمائية متأثرا برؤية أنطونيوني وتاركو فسكي، والفصل الثاني لملاحظاتي على سيرتها منذ الاستعراض إلى التمثيل، والفصل الثالث طرحت فيه أسئلة جريئة وصريحة، فيما كان الفصل الرابع سيناريو لمسرحية بفصل واحد، مقتبسة كلها من مسرحية الكاتب هارولد بنتر حسب ما أذكر، وأسميتها: ''البحر في قارورة حبوب منومة''، وكانت مسرحية نزقة من غيرتي من زوجها الفرنسي، حيث جعلتهما لا يتفقان في شيء، ولا طبع إلا في أنهما يحبان كلبا ضالا - الغريب أنني لم أك أعرف أنني أكتب حقا؟. لا شك أن إنجليزيتي كانت بسيطة جدا، فاتكأت في ذلك على أحد صحابتي ممن يحسنون الإنجليزية، وكان يعاني من جائحة كآبة مثقلة بسبب البطالة وهو المتخرج من كلية الآداب الأجنبية منذ أربع سنوات، ولكني ، وعدته أن مونيكة ستقرأ ترجمته لرسالتي ستوقع اسمه على ظهر صورة من صورها المثيرة الفاتنة فاندفع متشجعا. كان أترابي وصحابتي في القرية وإن لم يعرفوا ماهية مونيكة على أنهم شاهدوا لها أفلاما كثيرة في البرابول، إلا أن الكثرة منهم كانوا يرونها شهوانية مثل سمكة أسطورية، لذا أوصيت على شريط فيديو لأحد أبرع أدوارها، وهو فلم ''مانييللا''، وأشعت الخبر لدى زمرة معينة، وعرضته عليهم في أحد البيوت المهجورة . كنت أحضرّهم نفسيا ولئلا أكون غامضا حين أباغتهم بالمفاجأة، بأنني مع علاقة وثيقة مع حسناء دي كاستيلو. ولا يفوتني أن أقول أننا أمضينا ساعات بكاء حارّة لنهاية الفلم المؤثرة، ولعلي كنت أشدهم حزنا وارتباكا، لأنني لم أنبس ببنت شفة طيلة العرض الملتهب الدراماتيكي. مرت أربعة أسابيع وبعد مشقة كبيرة انتشر النبأ بأنني أكاتب الممثلة الإيطالية، مع أني كنت منكسرا بحيث لم يصلني مكتوب من طرفها البتة، واستمر الحال شهران، وثلاثة من الارتقاب. ولا أنسى سكان القرية الذين كانوا يتربصون حضورها المشهود إلى القرية. لقد اختلقت كثيرا من الأكاذيب، والهراء، بحيث أن الجميع كان يعد نفسه ليصافح مونيكة بولتشي، أو يلتقط صورة معها، أو يستضيفها في عريشة فنائه الشاسع. لقد مرت الحكاية خفيفة و لذيذة، ولو أنها كانت فارغة المعنى تماما، وبالعكس فقد انتابني شعور أن الجميع كان يريد أن يقنع نفسه بمصداقية الحكاية، بحيث لم يكونوا سذجا أجلافا، إنما حلاوة الكذبة كانت تنسيهم حرارة القيظ والروتين المخيّم، فيما أنا كنت كالكولونيل الذي لا يكاتبه أحد. في النهاية، لعلني إلى الآن لم أفقه معنى الهراء جيدا، ولعمري أن أوغي كان صادقا في أقصوصة الكريسماس التي سردها لبول، وكذا بول عندما قال جملته الجميلة: ''قول الهراء هو موهبة حقيقية''؟ وبغض الطرف على أن الهراء صيرّني كاذب قصص كسول، محققا نبوءة الفيلم، فلا مرية أنني لم أزل أرجو أن تكون مونيكة بولتشي قد قرأت المكتوب، لأنني ما سطرت عليه إلا رغبتي المستشيطة نحوها كاتبا ؛ مونيكة أريد قبلة حارّة كالقمر . *جبانة الملائكة، مقبرة في قريتنا، مخصصة للموتى من الأطفال والرضع.