نظر الإنسان منذ القدم إلى ظواهر الكون المادية كالزلازل والبراكين والكواكب والنجوم نظرة حائرة، تركته مصلوبا على جدار الدهشة لحقب، ثم استطاع بعد ذلك أنْ يجد تفسيرات -وإنْ لم تكن منطقية في أغلب الأحيان- تتناسب مع المغامرة الأولى التي خاضها العقل آنذاك، فجعل من هذه الظواهر كلها آلهة تغضب وترضى، تأخذ وتعطي، بل أصبح يتقرب إليها بالقرابين والصلوات والابتهالات، لأنّ العقل كعادته لا يزال يجسّد ما لا يُحسه، ولا يلمسه والذي يستعصي على فهمه في قوالب وأشكال، إما يجدها في الطبيعة جاهزة كالشمس والقمر والنجوم، أو يصنعها بيديه ويتخذ منها آلهة تمنحه الأمان وتذود عنه . ولعل حيرة الإنسان أمام الموت كانت أكبر بكثير من حيرته أمام تلك الظواهر، لأنه كان يرى أخاه يلعب ويتحرّك أمامه ثم في لحظة يسقط جثة هامدة لا حياة فيها، فكان سعيُ الإنسان إلى المحافظة على وجوده عن طريق اكتساب القوّة بسبب خوفه من الموت وحبه للحياة، فكل واحد كان يُسعده لو بقيَ حيا إلى الأبد دون خوف من مرض أو موت. ليس إذن جلجامش هو الوحيد الذي تحدّى عجلة الزمن التي تُبلي الحجر والشجر، حين توجَّه إلى جده أوتو-نبشم- طالبا منه معرفة سر الخلود، بعدما رأى صديقه أنكيدو يموت أمام ناظريه وهو لا يزال فتيا شابا، فيجيبه الجدّ بعد نكد : "سأكشف لك عن سر من أسرار الآلهة: يوجد نبات مثل الشوك ينبت في المياه، وشوكه يخز يديك كما يفعل الورد، فإذا ما حصلتْ يداك على هذا النبات وجدتَ الحياة" فالإنسان عبر مراحله التاريخية المختلفة كان يبحث عن خلود من نوع ما، ولعل تطوّر العقل جعله يُدرك أنّ الخلود ليس بمكوث الجسد وطول عمر الإنسان البيولوجي وعدم انتهائه فقط، وإنما هناك عدّة أفهام للخلود مختلفة، فهناك من يُخلّد نفسه بولده واتصال نسله، فيُذكرُ بعد أجيال عديدة، وهناك من وَجَدَ فيما يقوله ويكتبه سببا لخلوده وبقائه، أفليس المتنبي واعيا بما يفي بهذا الأمر حين قال : وما الدهر إلا من رواة قصائدي إذا قلتُ شعرا أصبح الدهر منشدا إنّ الدليل على خلود المتنبي، هو بقاؤه إلى الآن مقروءًا من طرف القراء، ومحفوظا في الذاكرة الجماعية والفردية في مختلف البلدان حتى الغربية التي إليها تُرجم هذا الشعر ونُقِل، وخلود الفراعنة من خلال قبورهم (الأهرامات)، والرومان من خلال آثارهم يدخل ضمن هذا السياق. ولعلّ هذا الخلود أشْرَفُ لأنه يُبقي على ذكر صاحبه بما قدّم للبشرية من أعمال راقية لا تزال شاهدة على فكره وذوقه وحضارته . وإذا أردتُ أن أشاكس جلجامش وقد وجدته متسكّعا في الجنان وبجانبه صاحبه أنكيدو تُحيط به الجواري الحسان، كنتُ سأقول له: ''حياك الله يا جلجامش وبيّاك، ورفعكَ منازل من الفضل وأعلاك، أهلا بك أيها الجبار الذي قهر بقوته العباد والأمصار.'' وأكيد كان سيتعجّب من معرفتي له ومن طريقتي المسجوعة في الكلام، فيقول : كيف تعرفني؟ أنت من؟، طبعا هذا كلام من كان يريد الخلود ومن عاش متربعا على عرش القوة والجبروت. فأجيب مستهزئا : أنا وُلدتُ بعدك بقرون كثيرات، وعصور غابرات، وأعرف عنك كل شيء وعن صاحبك هذا. أما كان من السخف أن تُنهك نفسك وراء نبتة شائكة أعتقد أنّ حصان امرئ القيس أكلها-مثل الأفعى تماما- فكُتِب له الخلود في شعر هذا الشاعر فقال فيه: مكرٍّ مفرٍّ مقبلٍ مدبرٍ معا كجلمود صخر حطّه السيل من علِ فلم هذا كله يا رجل؟؟؟ " ولا ريب أنه كان سينبهر أيما انبهار هو وصاحبه ويأكل من رأسيهما طير الحيرة. ما أريد أنْ أقوله هو أنّ جلجامش الذي أزهق عمرا في رحلة البحث عن الخلود، كان خلوده كامنا في الحكاية التي رُوِيتْ عن مغامراته والأحداث التي مرّ بها، فهو لم يجد الخلود الذي يُبعد عنه شبح الموت في تلك الرحلة، لكن حكايته تلك وجدتْ الخلود الذي به نُقِلتْ إلى زمننا هذا. فهو خاب في مسعاه في حياته، ونحن سعدنا بعد موته بالظفر بخلود أدب رائع ما كان له أن يكون لولا ذاك الحلم الكبير الذي دفعه إلى الخروج إلى الجد الأكبر، ثم إلى البحيرة، ثم العودة خائبا بعدما فقد تلك النبتة التي ما صدق أنه وجدها. يا لك من غافل يا جلجامش ، تموتُ متحسرا على ضياع النبتة، ونحن إلى الآن نروي عنك ونقرأ ملحمتك هاته بشغف وشوق. عجيب والله أمرك. لكن الأعجب هو هذا الأدب الراقي الذي تجاوز يد الفناء وخلد في جعبة الدهر وذاكرة الشعوب بسحره وجماله الأخّاذ.