يروى عن أحد شيوخ وأعلام وأركان المقاومة الفكرية في الجزائر زمن الاستعمار الفرنسي، وأعتقد أنه الشيخ عبد الحليم بن سماية إن لم تخني الذاكرة، وهو ينشط في إحدى مناطق العاصمة بعلمه وسلوكه جاءه أحد المواطنين شاكيا له معاقرته المبالغ فيها للخمر، وسائلا إياه بقوله ''هل من توبة''، فأجابه الشيخ بأن لا ذنب عليك ولا حرج، والذنوب كل الذنوب تتحملها فرنسا الاستعمارية التي جعلت أمثالك يعاقرون الخمرة صبحا وعشيا، لتفعل فرنسا ما تريد وهي ترى من تخشى مقاومتهم غائبي العقول بعد أن أخذت منهم حمى الاستعمار كل مأخذ، ناصحا إياه بأن الطريق الأسرع لمسح درن ذنوب الخمرة أن يمسك مسبحة ويرطّب لسانه بلعن فرنسا كذا مرة في اليوم على شاكلة الأوراد الصوفية، إلى أن يترقى في درجات ذكر لعن فرنسا الاستعمار من مقام اللعن باللسان إلى اللعن بالقلب والجنان إلى اللعن بالجوارح والسنان. تذكرت هذه الحادثة المؤثرة التي تنم وتؤرخ لحشد الطاقات وحسن استغلال الظرف من أجل تصحيح الوضع وإرجاع البلاد إلى سكتها والطريق التي وضعها فيه الآباء والأجداد، بأساليب بسيطة تنم عن فقه الواقع، والوعي بضرورة التغيير وطرد الغاصب، باستغلال كل الطرق المتاحة والطاقات الممكنة لتنظيف البلاد من درن الاستعمار، وكنسها من آخر مستعمر، في الذكرى السابعة والأربعين لاسترجاع السيادة الوطنية ذات الخامس من جويلية سنة ,1962 بعد أنهار من الدماء والدموع وجبال من الجثث والأشلاء، وقرابين تعجز الآلات الحاسبة عن عدها من خيرة أبناء هذا الشعب وأحسن رجاله، وأنبغ شبابه. فلم يتركوا وسيلة اعتقدوا فيها النجاعة إلا ووظفوها، ولم يتخلفوا عن نداء لحمل السلاح بشتى أنواعه ولو بدا لهم في المنظور القريب أنه لن بكون ناجعا إلا أنهم استثمروا في غير الناجع القريب من أجل الناجع البعيد، على قاعدة أهالي المدر والوبر، غرسوا فأكلنا ونغرس فيأكلون، وكذلك كان ديدن الثورات الشعبية المنظمة وغير المنظمة إلى أن باكورة الثورات، ثورة التحرير الكبرى التي جعلت عبد الرحمن عزيز ومن ورائه ملايين الجزائريين ''أمحمد مبروك عليك الجزاير رجعت ليك''. ومن محاسن الصدف أو غرائبه أن تتزامن الذكرى السابعة والأربعون لاستعادة السيادة الوطنية وطرد المحتلين مع إعادة دفن رفاة أحد أكبر وأشهر قادة الثورات الشعبية ضد المستعمر الفرنسي الشيخ الحداد في مرابع الصبا ومراتع الخيام، بعد أن احتضنته مقابر قسنطينة مكرها ومغصوب الإرادة فترة ناهزت أو فاقت عدد سنين الاستعمار. وبغض النظر عما قيل ويقال عن تأخر تنفيذ وصية الشيخ الحداد في أن يدفن إلى جانب ذوي القربى، وإخوان الروح ومنطلق المقاومة والثورة ضد أرذل وأبشع استعمار عرفه التاريخ الحديث في المنطقة إلا أن دلالة الارتباط بالأصل والعودة إليه، وقود النصر بعد الهزيمة، والوقوف بعد الكبوة، والقوة بعد الضعف، والاستقرار بعد الاضطراب والتذبذب، وتلك معان أدرك كل معانيها آباؤنا وأجدادنا وهم يحملون العصي بعد أن عدموا البنادق والبارود وهم يجسدون قول شاعر الثورة المرحوم مفدي زكريا ''تأذن ربك ليلة قدر''، فلم يبق أمامهم مكان ولا لحظة تأمل أو تفكر بعد وقوع واقعة الثورة، وصدور بيان الرب عز وجل المتجسد في بيان ثورة أول نوفمبر الخالدة في ليلة صادفت ليلة ميلاد خاتم الأنبياء والمرسلين، ليلة 12 ربيع الأول، ليلة أعلن فيها شباب الجزائر وشيوخها ونساؤها ورجالها الثورة على الكولون وثقافة الكولون، التي حولت الجزائر من خزان إقليمي للقمح إلى خزان عالمي للعنب والخمور وما ينجر عنهما.. ثورة ما كان لها أن تنجح أو ترى النور ويحصد من ورائها الجزائريون الاستقلال التام لولا شيوخ وعجائز وشباب وشيب ممن حملوا المسابح في أبسط أحوالها، وهم يلعنون قلبا وقالبا، قولا وفعلا فرنسا الاستعمارية آناء الليل وأطراف النهار، وما دامت المسابح موجودة وسلوكات الاستعمار مستمرة، فسنظل نسبح بلعن فرنسا الاستعمارية إلى أن نجبر الضرر، وننال الاعتذار كما ناله غيرنا، وكما نلنا قبله الاستقلال الذي لن يماري أحد في أنه أصعب من الاعتذار، وقد نلنا الصعب في انتظار ما دونه.