...أما عموم الغوغاء الكاسحين والبسطاء، فكانت تجلس في الفناء المسيّج لمركز البريد، فقد كانوا يخجلون من مزاحمة الخاصة من العمال ومتقاعدي الحرب والمناجم الكولونيالية، فاتخذوا الفناء للعب لعبة الحصى، والتندر بالألغاز، و سرد حكايات زمان المبهرجة، ولم يكن يعنيني شأنهم لا من بعيد أو من قريب، لحجة أنهم لم يكونوا ليصلوا إلىّ حيث أشتغل على الحاسوب. وإن وصلوا في لحظة عبر الزحام الشديد، فلا شك أنها ستكون لحظة انتهاء الدوام العام، ناهيك على أني كنت أحسّ بنحوهم بشفقة متكبرة، وأجد حرجا حين أنظر إليهم، وفي أسوأ احتمالاتي، لم أك أتوقع يوما أني سأحادث أحدهم محادثة النضير للنضير، أو أسعى وراء شخص مدقع منهم، القول أنني كنت أستحي منهم لفقرهم وملبسهم ولغتهم وكل شيء يتعلق بهم، ومع كل هذا كنت متمكنة من إخفاء عواطفي السوداء نحوهم بأن أتجنبهم قدر الإمكان، ويبدو أن الأمر قد جاء بنتيجة طيلة سنوات معدودة، إذ كانت حياتي تسير على ما يرام، وما يجعلني هادئة وقانعة، وجموحة، على قدر المستطاع، إلى غاية يوم 7 تموز وبالضبط على الساعة التاسعة صباحا، بينما كنت منهمكة في غمرة العمل المتراكم، والصخب يعلو ويهبط داخل القاعة، والمروحيات تصدر أنينا مريعا يبعث بالتقزز، إذ بصوت ناعم شجي يشق الضوضاء حثيثا كأطراف الموج، ويرنّ في أذنيّ رنينا لا قِبل لقلبي بسحره ونغمه. اهتززت في مكاني وسرت في جسدي قشعريرة رهبة ممزوجة بالحنين، جعلت نبضات قلبي يندفع متذبذبا ويوشك على السكون، ولولا رحمة إلهية لانفضحت أمام الملأ كأن أنغمس في نوبة بكاء لن أرعوي منها إلا بعد وقت طويل . كان مصدر الصوت الخالب منبعثا من جموع المنسحقين في الفناء المسيّج؛ صوتا ذكرني بأشياء وكأني عشتها من قبل، ولعلي لم أعشها مطلقا، ولكنها آثرت فيها مشاعرا فردوسية وإحساسا محلقا نحو الصفاء والسعادة . أحاسيس قد أكون مخطئا في تفسيرها بحيث أنني كلما أردت أن أترجمها إلى لغة الناس عجزت، ووجدتني نائية كل المنأى عن سبر أغوارها؛ لعمري إنها شبيهة بركوب البحر لأول مرة، أو القيام برحلة على زورق عبر نهر أبدى على ضوء القمر، ترافقك جوقة موسيقية، وعجائز ثرثارات عشن طويلا بحيث يمكنهن سرد قصص كثيرة، والتجديف بلا عبء الزمن، أين لا سلطة للإغواء أو ارتكاب الترّهات وبمعنى صريح إنه نفس الإحساس الذي غمرني أثناء القبلة الأولى في حياتي . استمرأ تردد ذلك الصوت كل يوم، وزادت بهجتي وألفيت عزاء ثمينا أغلى من الفقدان في ذلكم الصوت الساحر، ولا أدري إذا كان ندمي هو ما يحثني أن أقول، أنني لم أهتم بصاحب الصوت ومعرفته، بقدر ما كنت أستمتع باللحظات الآنية تلك بكل أريحية وانتشاء بالغين، على نية أني كنت أعتقد ساعتذاك الأمر شبيها بمعنى كل شيء، ما معنى تفسير السعادة حين نكون السعداء ، أو ما معنى الصورة إذا حضر المعنى، بينما الآن الشيطان بداخلي مغتاظ جدا، لأنه لطالما حاول جرجرتي لرؤية صاحب الصوت، وأغواني ما استطاع حتى ارتبت أن أكون قد بدأت أقع في حبه، ولكني، وطنت النفس ألا أفعل، لسبب أني رأسي صخرة، وحذاء قديم لا فائدة في تحديه. المهم ، أني تغيرت كلية وتطرفت في كل شيء يخصني، في الملبس، وفي الحديث، وفي رائحة العطور التي أضعها، أين يمكنني أن أقول أن أكثر من أربعين رجلا بينهم العزاب والمتزوجون كان يركضون ورائي من بيتي القريب من مركز البريد، لفرط ذلكم العطر الفتّان. كما أني صرت انبساطية جدا مع زملائي في المركز لدرجة أنهم لم يهضموا تغيري السريع أبدا، وبت ثرثارة لا تمل الكلام، ومجترئة لا يشق لها غبار، ولعلي كنت على شفا من الانحراف المتطرف. لا أنكر أن مزاجي المنقلب، قد أنشب أقاويلا متضاربة ، وإشاعات الصيف الحارّ، ولعل البلدة كلها كانت لا تنام إلا على ذكري . ولما كان كل رجل يمني نفسه بأنه السبب في انقلاب مزاجي وهيئتي، كان صاحب الصوت هو الشخص الوحيد الذي يمكنه أن يفخر بذلك، وإن كانت هذه الحقيقية جاءت متأخرة للأسف، إذ أني كنت أماطل نفسي وأكابر أن يكون صوت لشخص مجهول لم أره يوما قط، أن يمتلكني بأسرى ويقلب حياتي رأسا على عقب. بعد مرور شهور معدودة ، ولما كنت أزعم أن السعادة لن تبارحني أبدا، فجأة ذات يوم، توقف ذلك الصوت عن الانبعاث مترنما، وأمضيت النهار منقبضة القلب، وخاطري يسرح هائما على وجهه في صحراء قاحلة، حتى أنني اجترأت أخطاء متكررة بحق زبائن كثر، وكنت في أهبة الاستعداد أن أكشرّ على أنيابي، إذا ما لامني أحد على ما فعلت، وكأني كنت متربصة بالشرّ بشراهة نهمة، وأنىّ لي أنني قذفت في أحدهم سجلا ثقيلا شجّ رأسه ولولا تدخل رب العمل ولمّلمل الموضوع بطريقة لبقة جدا، لكنت أمضيت هذه الأوقات داخل زنزانة. لقد كنت متوترة، وأمر بنوبة عصبية قاتلة وكان كلما يمر الوقت بلا ذلك الصوت ، يزداد الأمر سوءا وعصيانا، لم أك أرقد بالكافية الضرورية إلا قهرا، وسدّت شهيتي في البداية تجاه الأكل فالكلام، ولما أدركت بعد تقصي شديد عن صاحب الصوت، بحيث سألت نفرا كثيرا من أولئك الذين يحسبون على العامة المنسحقة ، وتبيّن أن أحدهم لم يسمع بذلك الصوت، بل لم يبصر أحد يترنم طيلة تلك الشهور المنصرمة، بدأت شهيتي تنسد على كل شيء ، انطلاقا من العمل ، والموضة ، والبهرجة ، والجاه ، وبالكاد أستطيع تطريز المناديل المذيلة بالدانتيل. ما يفزعني الآن، أنني أخشى أن أكون قد توهمت ذلك الصوت جزافا، وكما ذكر كل الذين سألتهم بأنه لا وجود لصوت مترنم، مقسمين أنهم كانوا يحضرون إلى مركز البريد كل يوم وطيلة أعوام لا تحصى ولم يكونوا ليلتقوا بسعيد الحظ ذاك. لي الآن أكثر من شهرين منعزلة على الحياة عامة، وكأني استقلت من الحياة أيضا، وليس بمستطاع أي شيء في العالم أن يريحني ويعيدني إلى ما كنت إليه إلا ذلكم الصوت المربك الساحر، وإني أخشى أن أموت تحسرا وكمدا دون أجهر بهذا الألم لشخص ما، كما أني لا أعبأ إن تحولت في نظر العالم كله مجنونة، ولو أستطيع شراء ذلك الصوت بثروتي كلها لما تأخرت ساعة واحدة، ما جدوى الثروة بلا صوت يحملك إلى حيث يجب أن تكون؟ إني لشد ما أخاف أن أفقد صوتي ذات يوم للأبد، حينها لن يسمعني أحد وأموت بغيظي البغيض.