ما يجري في إيران.. ليس وليد لحظة طارئة.. ولا مجرد رد فعل عفوي على نتائج انتخابات قيل إنها مزورة.. ولا محض حركة احتجاجية داخلية.. ولا غضبة شارع شعر بانتقاص حق من حقوقه فقرر أن يقول لا. ما جرى أكبر من ذلك بكثير.. وأخطر ما نتصور.. هو فعل موصول بحركة انقلابية لها ما قبلها.. و لها أيضا ما بعدها.. وخطوطها تخترق الحدود الإيرانية لتبلغ عواصم ما انفكت تتربص بإرث الخميني.. وتعمل على تقويضه من الداخل بعد أن أعجزها إضرام النار فيه من الخارج. هي حركة كمنت تحت السطح.. وهناك تمت وأعدت عدتها.. ولما تهيأت لها الفرصة.. خرجت من تحت الأرض.. لتشعل النار في حافلات النقل العمومي.. وتدمر المرافق الحكومية.. وتهاجم رموز الثورة.. وتضع مستقبل إيران برمته في كف عفريت. من الغباء.. التسليم بفرضية الفعل البسيط.. أو العفوي.. فعالم اليوم تحركة الأيدي الخفية.. أكثر مما يتحرك من تلقاء نفسه.. واللعبة التي تجري هنا.. تكون خيوطها موصولة بأصابع لاعبين فعليين يجلسون على بعد آلاف الكيلومترات. إن من يحتج على مصادرة صوت انتخابي بأسلوب غوغائي.. ودون استنفاذ الوسائل القانونية.. ويقبل التعاطي مع أعقد موضوع - وهو وجود النظام ذاته - بطريقة فجة.. وبأسلوب يجلب عليه شياطين العالم.. مطعون في ولائه للثورة التي أزاحت عن صدره صخرة الشاه والشركات الاحتكارية الغربية.. وهو إن برئ من العمالة لن يبرأ من الغباء ٌٌٌ أعداء إيران كثيرون.. ولد أغلبهم يوم نزول الخميني في طهران.. أعداء في الداخل وآخرون في الخارج.. وخصوم يراقبون من وراء المحيط.. وآخرون يتربصون في الجوار القريب. قد يختلفون في التفاصيل.. لكنهم يشتركون جميعا في كره النظام الإسلامي.. والسعي لتقويض الدولة التي جسدت التحدي الحقيقي لسطوة الغرب.. والمنافس الجدي لقوى الاستكبار العالمي. استبعد أن تكون هذه الحركة الاحتجاجية بريئة أو عفوية.. فالمظاهر الجميلة قد تخفي مضامين سيئة للغاية.. وقد يكون الإصلاح مجرد عنوان لاستقطاب المغفلين والغوغاء.. ومن لا عنوان لهم أصلا. صحيح.. أن الشاه قد رحل منذ زمن بعيد.. غير أن فلوله لا تزال باقية.. ومجاهدو خلق ينتظرون خارج إيران بين تحدي البقاء واحتمال الفناء.. والغرب لا يعدم الوسيلة لإحياء الموتى.. ففي اللحظة الحاسمة يؤتى بهؤلاء من القبور.. فالمومياوات المحنطة قد تمشي وتتكلم.. تماما كما أوتي بملك أفغانستان من وراء التاريخ.. ليحكم على أنقاض طالبان؟ ٌٌٌ والذين ركبوا موجة الثورة في اللحظة الأخيرة لانطلاقها -دون إيمان بمبادئها- .. ورفعوا شعاراتها.. وتماهوا في تيارها الكاسح.. سيطلون برؤوسهم.. ليقولوا نحن هنا.. عندما يشعرون بأن الوقت قد حان ليصبحوا السادة الحقيقيين. فهل تسنى للخميني رحمه الله تطهير الثورة من المزيفين واللصوص.. أم إن زخمها صرف الأنظار عن هؤلاء الذين كبروا في أحضانها وهم ليسوا من أولادها.. كالذئب الذي يكبر وسط الحملان.. حتى إذا قويت أنيابه ارتد عليها وافترسها. ٌٌٌ أمريكا.. كما وصفها الخميني هي الشيطان الأكبر.. وهي لا تزال كذلك.. لم تتغير في جوهرها.. وهي تنفق الملايين في سبيل أن تتخلص من طيف الخميني.. وتعيد إيران إلى حظيرة البقر.. تماما كما فعلت مع حكومة مصدق. بريطانيا بدورها -وهي الأخبث من بين أعداء إيران كما وصفها المرشد الخامنئي- تمارس عداوتها باحتضان مناهضي الثورة.. والكيد لها من وراء حجاب.. وكذلك تفعل فرنسا وألمانيا.. وعموم دول الاتحاد الأوروبي. إسرائيل.. ليست بحاجة إلى تأكيد عداوتها لإيران.. وهي التي هزمت عسكريا بواسطة السلاح الإيراني.. وعرض عمقها الاستراتيجي الهش لقصف صاروخي أدخل مستوطنيها تحت الأرض لأول مرة منذ نشأتها. فهي تدعو صراحة إلى تدمير إيران وإعادتها ألف سنة إلى الوراء.. فشمعون بيريز يتمنى ''أن تختفي هذه الحكومة ويختفي الأورانيوم'' .. ونتانياهو كما باراك.. يدعوان إلى إزالة الخطر الإيراني.. وإلا تكفلت الآلة العسكرية الصهيونية بإنجاز ذلك. وجدية إسرائيل في هذا الاتجاه واضحة.. ولن تكبحها إلا قوة ردع إيرانية حقيقية. ٌٌٌ إيران بالنسبة إلى بعض العرب البائسين صداع مزمن.. في قوتها.. وديمقراطيتها التي تنأى عن التزوير.. وممانعتها.. ورفضها الانصياع للأوامر الأمريكية. لذا دخل بعضهم على خط المؤامرة.. للاستثمار إعلاميا في الأزمة.. فتلفزيوناتهم تصب الكثير من الزيت على النار.. أملا في انفلات الشارع في طهران... وخروجه عن السيطرة. فهل ينسى الإيرانيون أن تحالف النظام البعثي في العراق وأموال الخليج هو ماكان وراء الحرب التي قتلت مليون إيراني... واستنزفت القدرات المادية لإيران ثماني سنوات كاملة. ٌٌٌ أعتقد أن إيران تعرف أعداءها... كما تعرف نفسها... والدولة التي بنت كل هذه القوة... وأنجزت كل هذا التحدي ضد الغرب... لن تكون لقمة سائغة بين أنياب الوحش المتربص بها. من الخسارة فقدان إيران بإسم الإصلاح... أو خسارتها بعصا نظام قد يفكر في حفظ نفسه بأسلوب قمعي يختبئ في عباءة دينية. فالإسلام ينشد الحرية... ويصونها... ويحارب القمع ولو تم باسم الله... والنظام الإسلامي في إيران لن يكون إستثناء في هذا. صحيح أن مايحدث الآن في إيران... يختفي وراء ضباب كثيف من الغموض وشح المعلومات ومن تأني السلطات الإيرانية في دفع أوحال القاع إلى السطح... لكن لن يمضي وقت طويل حتى تسقط الأقنعة... وحينها سنعرف أن الصراع بين الغرب والإسلام يتجلى بأكثر من صورة.