قبر عجيب يروي قصة أشهر شهداء كلمة الحق لم يكن فقط نبي المحبة والحنان، فهو أيضا أشهر ضحايا بني إسرائيل، ضربت شهادته أفظع مثال على جرائم اليهود في حق أنبيائهم كما أخبرنا الحق جل وعلا ورسوله الكريم، فقد رفض أن تشيع الفاحشة متحديا ظلم وجبروت السلطان، فتدخلت ساقطة يهودية مستخدمة أسلحتها الأنثوية أمام ملك ضعيف لم يتردد في قطع الرأس الشريف ليقدمه مهرا لتلك الساقطة، فكانت قصة شهيد كلمة الحق . قصة نبي الله يحيى عليه السلام تستحق الوقوف عندها وتذاكرها لما تحمله من عظات وعبر، ولما تمثله من أهمية في زمن أصبح فيه الحق ضعيفا والباطل سيدا، وعندما نقترب من قضية نبي الله يحيى مع بني إسرائيل نكتشف أن الحق أشد مرارة من العلقم لكن أهل الحق لديهم الاستعداد والقناعة للتضحية بحياتهم على أن يحيدوا عن موقفهم . رأس النبي الشهيد تنضح دم حتى اليوم ونحن نبحث عن قبر هذا النبي، قادتنا قدمانا الى الجامع الأموي بدمشق، حيث يوجد مقام مهيب مكتوب أعلاه "مقام رأس نبي الله يحيى الحصور"، ومن المعروف أن المسجد الجامع أُقيم بدمشق بعد فتح بلاد الشام، في الجهة الشرقية الجنوبية من أطلال المعبد الروماني الذي أُنشئ في القرن الأول الميلادي، وأُنشئ في جدار هذا المعبد أول محراب في الإسلام مازال قائما صلى فيه الصحابة مع خالد بن الوليد وأبي عبيدة بن الجراح، القائدان اللذان فتحا دمشق، الأول عنوة والثاني صلحا، حيث أعطى خالد لسكان البلاد عهدا بالحفاظ على ممتلكاتهم ومعابدهم ومساكنهم. وفي عهد الخليفة الأموي مروان بن الحكم الذي أمر ببناء الجامع الأموي بصورته الحالية شيد المقام المنسوب لنبي الله يحيى عليه السلام، ولهذا المقام حكاية عجيبة سجلتها كتب التاريخ الإسلامي، فقد أورد إبن كثير هذه الحكاية قائلا : "ذات ليلة فزع أمير المؤمنين مروان بن الحكم على صراخ الحراس الذين أصروا على إيقاظه من نومه لإخباره بالأمر الجلل، فقد عثر العمال المكلفين بأعمال البناء والترميم في المسجد الأموي على صندوق خشبي على عمق 40 مترا أسفل صحن المعبد، وتحديدا تحت الفناء المخصص للمسجد، حيث عثر على سرداب قديم يؤدي إلى حفرة وضع بها الصندوق، فذهب أمير المؤمنين بنفسه للمكان الذي يوجد به الصندوق، وهاله ما رأى، فقد كان الصندوق مخضبا بالدماء، وعندما فتحه وجد رأسا على هيئتها الكاملة والدماء تسيل منها ساخنة، وكانت تلك الرأس لنبي الله يحيى الحصور الذي أستشهد في القرن الأول الميلادي، فأمر أمير المؤمنين بدفن الرأس الشريف وصلى عليه رفقة الحاضرين صلاة الجنازة، ثم أمر بتشييد المقام فوق مكان الدفن تماما، وأمر بصنع عمود نحاسي فوق القبر مباشرة ويمتد إلى صحن المسجد بطول 50 مترا ليظل شاهدا على موقع قبر الرأس الشريف"، وبغض النظر عن هذا الكشف الكبير، فإن الواقعة تكشف أيضا على أن أجساد الأنبياء والشهداء لا تبلى، لأنها محرمة على الدود . المسلمين والنصارى يلتفون حول ضريح النبي الشهيد ومع مرور الزمن شيد الضريح الموجود على صورته الحالية في قلب فناء المسجد الأموي، ليشهد على سماحة الاسلام وإيمانه بجميع أنبياء الله. أما الأغرب والأعجب هو أنني بمجرد اقترابي من القبر المذكور رأيت اختلاط المسلمين بالنصارى، كل يقف على القبر بطريقته، المسلمون يتلون الفاتحة على روحه ويلقون عليه السلام، أما النصارى فلم أتمكن من فك طلاسم الكلمات التي يرددونها، لكنها على أقرب تقدير عبارات وجمل أنجيلية، لكن ما يمكن تسجيله هو أنه لا يسمح للنصارى بالدخول إلى المسجد بأقدامهم دون إجبارهم على ارتداء جوارب خاصة حرصا على طهارة المكان، أما النساء بجميع دياناتهن فيتم إجبارهن على تغطية رؤوسهن وأجسادهن، حيث يحظر دخول أي إمرأة سافرة إلي هذا المكان، لكن لا يصل أحد إلى هذا المكان إلا وقصة النبي يحيى تتردد في مخيلته كواحدة من أعظم قصص البشرية . أحب فأحبته كل الكائنات نبي الله يحي هو إبن نبي الله زكريا عليهما السلام، ولد استجابة لدعاء زكريا لله أن يرزقه الذرية الصالحة فجعل آية مولده ألا يكلم الناس ثلاث ليال سويا، وقد كان يحيى نبيا وحصورا ومن الصالحين، كما كان بارا تقيا ورعا منذ صباه. وقد شهد الحق عز وجل ليحي أنه لم يجعل له من قبل شبيها ولا مثيلا، وهو النبي الذي قال الحق عنه: "وَحَنَانًا مِّن لَّدُنَّا "، ومثلما أوتي الخضر علما من لدن الله، أوتي يحيي حنانا من لدن الله، والعلم مفهوم، والحنان هو العلم الشمولي الذي يشيع في نسيجه حب عميق للكائنات ورحمة بها، كأن الحنان درجة من درجات الحب الذي ينبع من العلم. ولقد كان يحيي في الأنبياء نموذجا لا مثيل له في النسك والزهد والحب الإلهي .. كان يحب كل الكائنات، وأحبه الناس وأحبته الطيور والوحوش والصحاري والجبال، ثم أهدرت دمه كلمة حق قالها في بلاط ملك ظالم، بشأن أمر يتصل براقصة بغي . يحكم قومه في صباه ولد يحيي عليه السلام .. وكان ميلاده معجزة .. فقد جاء لأبيه زكريا بعد عمر طال حتى يئس الشيخ من الذرية .. وجاء بعد دعوة نقية تحرك بها قلب النبي زكريا . فجاءت طفولته عليه السلام غريبة عن دنيا الأطفال .. كان معظم الأطفال يمارسون اللهو، أما هو فكان جادا طوال الوقت .. كان بعض الأطفال يتسلى بتعذيب الحيوانات، وكان يحيي يطعم الحيوانات والطيور من طعامه رحمة بها، وحنانا عليها، ويبقى هو بغير طعام .. أو يأكل من أوراق الشجر أو ثمارها . وكلما كبر يحيى في السن زاد النور في وجهه وامتلأ قلبه بالحكمة وحب الله والمعرفة والسلام، وكان يحيى يحب القراءة، وكان يقرأ في العلم من طفولته .. فلما صار صبيا نادته رحمة ربه: "يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا" . فصدر الأمر ليحيى وهو صبي أن يأخذ الكتاب بقوة، بمعنى أن يدرس الكتاب بإحكام، كتاب الشريعة، ورزقه الله الإقبال على معرفة الشريعة والقضاء بين الناس وهو صبي .. كان أعلم الناس وأشدهم حكمة في زمانه، درس الشريعة دراسة كاملة، ولهذا السبب آتاه الله الحكم وهو صبي .. كان يحكم بين الناس، ويبين لهم أسرار الدين، ويعرفهم طريق الصواب ويحذرهم من طريق الخطأ . وكبر يحيى فزاد علمه، وزادت رحمته، وزاد حنانه بوالديه والناس والمخلوقات والطيور والأشجار .. حتى عم حنانه الدنيا وملأها بالرحمة .. كان يدعو الناس إلى التوبة من الذنوب، وكان يدعو الله لهم .. ولم يكن هناك إنسان يكره يحيى أو يتمنى له الضرر، كان محبوبا لحنانه وزكاته وتقواه وعلمه وفضله .. ثم زاد يحيى على ذلك بالتنسك . طريق النبوة كان يحيي إذا وقف بين الناس ليدعوهم إلى الله أبكاهم من الحب والخشوع .. وأثر في قلوبهم بصدق الكلمات وكونها قريبة العهد من الله وعلى عهد الله، وخرج يحيى ذات صباح على الناس الذين امتلأ المسجد بهم، ووقف قائلا : إن الله عز وجل أمرني بكلمات أعمل بها وآمركم أن تعملوا بها .. أن تعبدوا الله وحده بلا شريك له.. فمن أشرك بالله وعبد غيره فهو مثل عبد اشتراه سيده فراح يعمل ويؤدي ثمن عمله لسيد غير سيده .. أيكم يحب أن يكون عبده كذلك ..؟، وآمركم بالصلاة لأن الله ينظر إلى عبده وهو يصلي، ما لم يلتفت عن صلاته .. فإذا صليتم فاخشعوا .. وآمركم بالصيام .. فإن مثل ذلك كمثل رجل معه صرة من مسك جميل الرائحة، كلما سار هذا الرجل فاحت منه رائحة المسك المعطر، وآمركم بذكر الله عز وجل كثيرا، فإن مثل ذلك كمثل رجل طلبه أعداؤه فأسرع لحصن حصين فأغلقه عليه .. وأعظم الحصون ذكر الله .. ولا نجاة بغير هذا الحصن. مكانة يحيى عليه السلام يذكر العلماء فضل يحيى ويوردون لذلك أمثلة كثيرة، فقد كان يحيى معاصرا لعيسى وقريبه من جهة الأم "ابن خالة أمه"، وتروي السنة أن يحيى وعيسى التقيا يوما، فقال عيسى ليحيي : استغفر لي يا يحيى .. أنت خير مني. قال يحيي: استغفر لي يا عيسى .. أنت خير مني . قال عيسى: بل أنت خير مني .. سلمت على نفسي وسلم الله عليك . وتشير هذه القصة إلى فضل يحيى حين سلم الله عليه يوم ولد ويوم يموت ويوم يبعث حيا، ويقال أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج على أصحابه يوما فوجدهم يتذاكرون فضل الأنبياء، قال قائل: موسى كليم الله، وقال قائل: عيسى روح الله وكلمته، وقال قائل: إبراهيم خليل الله، ومضى الصحابة يتحدثون عن الأنبياء، فتدخل الرسول عليه الصلاة والسلام حين رآهم لا يذكرون يحيي قائلا : " أين الشهيد ابن الشهيد؟ يلبس الوبر ويأكل الشجر مخافة الذنب، أين يحيي بن زكريا؟" مواجهة الطاغية وثمن كلمة الحق كان أحد ملوك الزمان الذي عاش فيه نبي الله يحي طاغية ضيق العقل غبي القلب يستبد برأيه، وكان الفساد منتشرا في بلاطه .. وكان يسمع أنباء متفرقة عن يحيى فيدهش لأن الناس يحبون أحدا بهذا القدر، وهو ملك ورغم ذلك لا يحبه أحد. وكان الملك يريد الزواج من ابنة أخيه، حيث أعجبه جمالها، وهي أيضا طمعت بالملك، وشجعتها أمها على ذلك، وكانوا يعلمون أن هذا حرام في دينهم، فأرد الملك أن يأخذ الإذن من يحيى عليه السلام، فذهبوا يستفتون يحيى ويغرونه بالأموال ليستثني الملك، ولم يكن لدى الفتاة أي حرج من الزواج المحرم، لأنها كانت راقصة فاجرة، لكن يحيى عليه السلام أعلن أمام الناس تحريم زواج البنت من عمها، حتى يعلم الناس – إن فعلها الملك - أن هذا انحراف، فغضب الملك وأضطر صاغرا الإحجام عن هذه الزيجة، لكن الفتاة كانت لاتزال طامعة في الملك، وفي إحدى الليالي أخذت تلك الفتاة تغني وترقص فأرادها الملك لنفسه فأبت وقالت: إلا أن تتزوجني، فقال: كيف أتزوجك وقد نهانا يحيى؟، قالت: ائتني برأس يحيى مهرا لي، وأغرته إغراء شديدا فأمر في حينه بإحضار رأس يحيى له، فذهب الجنود ودخلوا على يحيى وهو يصلي في المحراب وقتلوه وفصلوا رأسه عن جسده، وقدموا رأسه على صحن للملك، فقدم الملك هذا الصحن إلى الفتاة البغي، فخاطبت تلك الفاجرة الرأس الشريف المقطوع قائلة : "أنى لك أن تحرم زواجي بالملك"، فأنطق الله الرأس قائلا : "زواج باطل .. زواج باطل"، فأخرجت هذه البغي دبوسا كانت تحكم به شعرها وأغرسته في لسان النبي الشهيد، ولم تمر أيام حتى تم الإعلان عن هذا الزواج الحرام والباطل شرعا دون أن يحرك أحد من بني إسرائيل ساكنا.