يذهب فرانسيس فوكوياما في هذا الجزء من كتابه ''نهاية التاريخ وخاتم البشر'' إلى مناقشة نظرية الواقعية التي يقول عنها إنها ترجع الافتقار إلى الإحساس بالأمن والعدوان والحرب إلى احتمالات دائمة في النظام الدولي، وأن هذا الوضع وضع إنساني ولا سبيل لتغييره بظهور أشكال وأنماط معينة من المجتمعات الإنسانية، بالنظر إلى امتداد جذوره إلى الطبيعة البشرية الثابتة، ويشير الواقعيون في سعيهم لإثبات صحة زعمهم في انتشار الحروب منذ التاريخ منذ المواقع الدموية الأولى إلى الحربين العالميتين في القرون الماضية. ويشير فوكوياما أيضا إلى أن الواقعية في أنقى صورها تحاول استبعاد كل الاعتبارات الخاصة بالسياسة الداخلية، وأن تستنتج احتمالات الحروب من بنية نظام الدولة وحدها، وكما قال أحد الواقعيين ''إن الصراع منتشر بين الدول لأن النظام الدولي يحدث حوافز قوية على العدوان، فالدول تسعى في ظل حال من الفوضى إلى زيادة قوتها على قدر الإمكان بالنسبة لقوة الدول الأخرى''. في نفس السياق يقول الكاتب إن صعوبة حفظ السلام في الأنظمة التاريخية للدولة يعكس حقيقة أن دولا معينة تسعى إلى ما هو ''أكثر'' من مجرد الحفاظ على الذات، فهي كالأفراد تسعى إلى نيل الاعتراف بقدرها أو كرامتها على أساس قوامها الأسر الحاكمة أو الدين أو القومية أو الايديولوجية، ثم تضطر دول أخرى إما للإذعان أو الدخول في حرب، فالأساس النهائي للحرب بين الدول إذاً هو الكرامة لا الحفاظ على الذات. ويرى فوكوياما هنا أنه بما أن التاريخ الإنساني بدأ بمعركة دموية من أجل المنزلة فإن الصراع الدولي يبدأ بصراع بين الدول من أجل نيل الاعتراف، وهو المصدر الأصلي للإمبرالية وعلى ذلك لا يسع الواقعي أن يستنتج شيئا على الإطلاق من الحقائق المجردة الخاصة بتقسيم السلطة داخل نظام الدولة، إذاً مثل هذه المعلومات يكون لها معنى في حالة واحدة فقط هي أن يفترض الواقعي افتراضات معينة بصدد طبيعة المجتمعات المكونة للنظام وهي أن بعض هذه المجتمعات على الأقل تسعى إلى نيل الاعتراف أكثر مما تسعى إلى مجرد الحفاظ على الذات. وفي سياق آخر، يشير صاحب الكتاب إلى أن الدول لا تسعى وراء القوة في حد ذاتها، وإنما تسعى وراء غايات متنوعة تمليها مفاهيم الشرعية، ومثل هذه المفاهيم هي قيود قوية على السعي وراء القوة من أجل القوة والدول التي تتجاهل اعتبارات الشرعية لابد أن تدفع الثمن جراء هذا التجاهل. وهنا يعطينا فوكوياما أفضل مثل على العلاقة بين القوة والمفاهيم الشرعية، والمتمثل في أوروبا الشرقية، ذلك أن عامي 1989 و1990 شهدا أكبر التغيرات العظيمة التي عرفها ميزان القوى في فترات السلم، وذلك حين تحلل حلف وارسو وظهرت ألمانيا الموحدة في وسط أوروبا لم يحدث أي تغير في الميدان المادي للقوى فما من دبابة واحدة دمرت من قتال ولا تحولت دبابة عن موقعها نتيجة لأمر واحد فحسب، وهو التغير في معايير الشرعية. فإذا ضاعت سمعة النظام الشيوعي في دولة إثر دولة من دول أوروبا الشرقية، وإذا لم يكن لدى السوفييت أنفسهم من الثقة بالنفس ما يسمح باسترجاع امبراطوريتهم بالقوة، تحللت رابطة حلف وارسو بسرعة أكبر مما كانت ستحلل بها في حمى حرب حقيقية، وما من قيمة لعدد ما تملكه الدولة من الدبابات والطائرات إن كان جنودها وطياروها عازفين عن ركوبها واستخدامها ضد من يقال لهم إنهم أعداء دولتهم، أو إن كانوا عازفيون عن إطلاق النار على متظاهرين مدنيين لحماية النظام الذي يخدمونه في الظاهر، فالشرعية إذاً تمثل ''قوة الضعفاء'' أما الواقعيون الذين لا يأخذون في اعتبارهم غير القدرات دون النوايا فيجدون أنفسهم حائرين أمام هذا التغير الراديكالي في النوايا. كذلك يوضح فوكوياما أن بعض الواقعيين حاولوا التقليل من شأن الدلائل التجريبية الفذة على حقيقة أن الحروب لا تنشأ بين الديمقراطيات الليبرالية، فذهبوا إلى أن الديمقراطيات الليبيرالية إما أنها غير متجاورة فهي بالتالي عاجزة عن محاربة بعضها البعض أو أنها اضطرت إلى التعاون فيما بينها لإحساسها بخطر مشترك يتهددها من قبل الديمقراطيات غير الليبرالية، ويعني ذلك أن العلاقات السلمية بين أعداء تقليديين كبريطانيا وفرنساوألمانيا منذ عام 1945 لا يفسر التزامها المشترك بالديمقراطية الليبرالية، وإنما يفسر خوفها المشترك من الاتحاد السوفياتي الذي دفعها إلى الانخراط في الحلف الأطلسي والمجموعة الأوروبية. وهنا يؤكد فوكوياما أنه لا يتسنى لنا الخروج بمثل هذه النتيجة إلا إذا أصررنا على اعتبار الدول مجرد ''كرات بلياردو'' وتحويل الأنظار عما يحدث في الداخل، والواقع أن هناك دولا يمكن تفسير علاقاتها السلمية في المقام الأول على ضوء وجود خطر مشترك أكبر فإن زال الخطر عادت إلى العداوة فيما بينها. وهنا يعطي مثالا بسوريا والعراق اللتان تحالفتا فيما بينهما خلال فترات الصراع مع إسرائيل وتحاربتا بلا هوادة في كل الفترات الأخرى تقريبا، أما عن الديمقراطيات المتحالفة ضد الاتحاد السوفياتي خلال الحرب الباردة فلم يكن هناك هذا العداء فيما بينها وهنا يطرح فوكوياما سؤاله على النحو التالي: من في فرنسا أو المانيا المعاصرة ينتظر فرصة عبور الرايف حتى يغتصب أرضا جديدة أو ينتقم لمظالم قديمة؟ كذلك يشير إلى أن هناك الحدود بين الولاياتالمتحدةوكندا هي بعرض القارة، ظلت قرابة قرن بلا وسائل دفاعية رغم فراغ القوة الذي تمثله كندا، وهنا يرى صاحب الكتاب أنه لكي يكون الواقعي أمينا مع نفسه فعليه أن ينصح الو.م.أ باحتلال كندا، منتهزة فرصة انتهاء الحرب الباردة، شريطة أن يكون هذا الواقعي أمريكيا والواقع أن القول بأن النظام الأوروبي وليد الحرب الباردة سيعود إلى سلوك القوى العظمى في التنافس فيما بينها على نحو ما كان سائدا في القرن التاسع عشر. قول يتجاهل الطابع البرجوازي الخالص للحياة في أوروبا اليوم، فالنظام الدولي الفوضوي في أوروبا الليبرالية لا يشجع على نشوء مشاعر الشك وعدم الاطمئنان إلى المستقبل، وذلك بالنظر إلى معظم الدول الأوروبية يفهم بعضها البعض على نحو جيد للغاية. ومع ذلك يرى فوكوياما أن أوروبا البرجوازية هذه هي نفسها التي عرفت الحرب المدمرة خلال حياة الكثيرين ممن لا يزالون اليوم على قيد الحياة، فالامبريالية والحروب لم تختف بنشوء المجتمع البرجوازي، بل إن أشد الحروب ضراوة وتدميرا في التاريخ حدثت في واقع الأمر بعد الثورة البرجوازية، فكيف يمكننا تفسير هذا؟ وهنا يعود فوكوياما إلى تفسير ''شمبتر'' بقوله: إن الامبريالية هي نوع من عودة ظهور صفات الأسلاف ومن مخلفات مرحلة سابقة من التطور الاجتماعي للبشر ''وهي عنصر ناجم عن الأحوال المعيشية لا في الحاضر ولكن في الماضي أو على حد تعبير التفسير الاقتصادي للتاريخ، ناجم عن العلاقات الإنتاجية التي كانت سائدة في الماضي لا في الحاضر''. ورغم أن أوروبا مرت بسلسلة من الثورات البرجوازية، فإن طبقاتها الحاكمة ظلت إلى نهاية الحرب العالمية الأولى من الأرستوقراطية التي لم تحل التجارة لديها مفاهيم المجد والعظمة القوميين، ومن الممكن أن ترث السلالة الديمقراطية أخلاقيات الحرب عن المجتمعات الارستقراطية فتبرز هذه الأخلاقيات إلى السطح في أوقات الأزمات واتقاد الحماسة. يرى فوكوياما أن تفسير ''شمبتر'' لاستمرار الامبريالية والحروب كحالة من حالات عودة ظهور صفات موروثة عن المجتمعات الارستقراطية ينبغي أن نضيف إليه تفسيرا آخر مستمدا بصورة مباشرة من تاريخ ''الكرامة''. ذلك أن تلك الكرامة يمكن أن تأخذ صورة النزعة القومية فيما بين الأشكال العتيقة للاعتراف التي يمثلها الطموح الديني أو طموح الأسر الحاكمة وبين الحل الحديث بكل معنى الكلمة الذي تجده في الدولة العامة والمتجانسة فللقومية علاقة كبيرة بالحروب التي شهدها القرن وعودتها إلى الظهور في الاتحاد السوفياتي وأوروبا الشرقية هي ما يهدد سلام أوروبا في عصر ما بعد انقضاء أمد الشيوعية. يتبع...