يواصل فرانسيس فوكوياما تحت عنوان لا ديمقراطية بدون ديمقراطيين التأكيد على أن منطق العلوم الطبيعية الحديثة لا يملك في حد ذاته قوة مستقلة عن البشر الذين يريدون استخدام العلوم الطبيعية لتذليل الطبقية من أجل إشباع حاجياتهم أو تأمين أنفسهم من أخطارها، أما العلوم في حد ذاتها سواء في صورة الإنتاج الآلي أو التنظيم المنطقي للعمالة فلا تصنع غير الإمكانات التكنولوجية التي تحددها القوانين الأساسية للطبيعة، فالرغبة الإنسانية هي التي تدفع بالبشر إلى استغلال هذه الإمكانات ولا يعني بها الرغبة في إشباع مجموعة محدودة من الاحتياجات الطبيعية وإنما يعني بها تلك الرغبة الشديدة المرنة ذات الاحتمالات المتزايدة دوما. وبعبارة أخرى يقول صاحب الكتاب إن هذه الآلية هي ضرب من التفسير الماركسي للتاريخ، يؤدي في النهاية إلى نتيجة غير ماركسية، فرغبة الإنسان في الإنتاج والاستهلاك هي التي تدفعه إلى الهجرة من الريف إلى المدينة، وإلى العمل في المصانع الكبيرة أو الإدارات البيروقراطية الكبيرة دون العمل في الريف، أو بيع طاقته لمن يعرض الأجر الأعلى دون الاستمرار في صفة آبائه، وإلى نيل حظ من التعليم والإذعان لمواعيد العمل. غير أن نمط المجتمع الذي يسمح للناس بإنتاج واستهلاك أكبر قدر من السلع على أساس من المساواة الكاملة ليس بالنمط الشيوعي كما قال ماركس، وإنما هو النمط الرأسمالي، وقد وصف ماركس ذلك في المجلد الثالث من رأس المال، أما نظرية التحديث فقد قالت إن الانسان في جوهره حيوان اقتصادي تتحكم فيه الرغبة والعقل، فإن المسار الجدلي للتطور التاريخي هو مسار مماثل بدرجة كبيرة بالنسبة لمختلف المجتمعات والثقافات البشرية، وقد بدأت بدرجة كبيرة بالنسبة لمختلف المجتمعات والثقافات البشرية، وقد بدت هذه النظرية عام 1990 أكثر جاذبية مما كانت عليه قبل خمسة عشر عاما أو عشرين، فيما هاجمتها الدوائر الأكاديمية هجوما عنيفا، فمعظم الدول التي نجحت في تحقيق التنمية الاقتصادية العالية غدت الآن مماثلة، وتزداد أوجه الشبه فيما بينها، ورغم توفر أساليب متنوعة يمكن أن تتبناها الدول للوصول إلى نهاية التاريخ اللبيرالي الرأسمالي وهو اتجاه تتبناه الدول الآخذة في التحديث، وهنا يذهب فرانسيس فوكوياما إلى القول بأن نظرية التحديث مثل سائر النظريات الاقتصادية في مجال التاريخ غير كافية تماما، وهي صحيحة بقدر ما يكون الانسان كائنا اقتصاديا تتحكم فيه مقتضيات النمو الاقتصادي والمنطق الصناعي، وتكمن قوتها التي لا يمكن إنكارها في الحقيقة أن البشر خاصة في حال تجمعهم يتصرفون بالفعل خلال الشطر الأكبر في حياتهم بتأثير مثل هذه البواعث، وهنا يشير الكاتب إلى أن ثمة مظاهر أخرى للبواعث البشرية لاصلة لها بالاقتصاد، وهنا نجد جذور فترات الانقطاع في التاريخ وأغلب الحروب بين البشر والانفجار الفجائي للعواطف الدينية أو القومية أو الايديولوجية التي تأتي بأمثال هتلر والخميني، ومن اللازم أن يكون أي تاريخ عالمي حقيقي قادرا على تفسير الانقطاعات والاتجاهات غير المتوقعة، إلى جانب تفسيره لاتجاهات التطور العريفية والمتراكمة. وهنا يوضح صاحب الكتاب أنه وبناء على ما سبق ليس بوسعه تفسير ظاهرة الديمقراطية تفسيرا مقنعا لو اقتصر التفكير على الجانب الاقتصادي وحده، فالتفسير الاقتصادي للتاريخ يؤدي إلى أبواب أرض الديمقراطية اللبيرالية الموعودة دون أن نجتازها، فقد تؤدي عملية التحديث الاقتصادي إلى تغييرات اجتماعية واسعة النطاق كتحويل المجتمعات القبلية والزراعية إلى مجتمعات حضرية متعلمة من الطبقة الوسطى، فتنشئ بذلك الظروف المادية اللازمة للديمقراطية، غير أن هذه العملية لا تفسر الديمقراطية ذاتها لأن الديمقراطية لا يختارها الناس في أغلب الأحيان لأسباب اقتصادية، فأولى الثورات الديمقراطية الكبرى وهما الثورتان الأمريكية والفرنسية قامتا وقت بزوغ فجر الثورة الصناعية في إنجلترا وقبل تحديث الاقتصاد في أمريكا وفرنسا، وعلى هذا يرى الباحث أنه لا يمكن أن يكون احتضانهما لمباديء حقوق الانسان متأثرا بعملية التصنيع وهنا يشير فرانسيس فوكوياما إلى أن قرار أمريكا إعلان الاستقلال ومحاربة بريطانيا من أجل إقامة نظام ديمقراطي جديد لا يمكن تفسيره بأنه كان يسعى إلى كفاءة اقتصادية، بل كان اختيار الرخاء دون الحرية اختيارا معروفا في ذلك الوقت، كما صار معروفا في تاريخ الأزمنة الماضية وهو ما تبناه أصحاب المزارع المحافظون الذين عارضوا استقلال الولاياتالمتحدةالامريكية ومما سبق ذكره يرى صاحب كتاب نهاية التاريخ خاتم البشر أن كل ذلك يوحي بأنه لم يقطع بعد شوطا كبيرا في محاولته فهم أساس الثورة اللبيرالية التي تعم العالم أو أساس أي تاريخ عالمي بشكل خلفية هذه الثورة حيث أن العالم الاقتصادي الحديث هو بناء ضخم مهيب، يملك الشطر الاعظم من الحياة في قبضته الحديدية، غير أن المسار الذي اتخذه ليس متاخما لمسار التاريخ نفسه، ولا هو بالكافي بالقول ما إذا كنا وصلنا إلى نهاية التاريخ، وهنا يؤكد الباحث أنه من الأفضل هنا الاعتماد لا على كارل ماركس وثرات علم الاجتماع الذي تمخض عن نظرته الاقتصادية لتحدي كانط فيكتب تاريخا عالميا، ذلك أن فهم هيجل لآلية المسار التاريخي هو أعمق بكثير من فهم ماركس، أو فهم أي من علماء الاجتماع المعاصرين، وقد ذهب هيجل إلى أن المحرك الرئيسي لتاريخ البشر ليس هو العلوم الطبيعية الحديثة أو النمو المطرد في الرغبات الذي يدفع بهذه العلوم إلى الأمام وإنما هو حافز غير اقتصادي بالمرة، أسماه بالسعي من أجل نيل الاعتراف والتقدير. والتاريخ العالمي الذي كتبه هيجل يعتبر مكملا لآلية التاريخ، غير أنه يمكن فهم الانسان بمعنى أوسع أن نفهم الانسان من حيث هو إنسان ويتيح لنا أن نفهم الانقطاعات والحروب والانفجارات المفاجئة اللاعقلانية خلال المجرى الهادئ للنمو الاقتصادي التي ميزت التاريخ البشري. في سياق آخر يرى فرانسيس فوكوياما أنه إذا تم التسليم بأن الطبيعة البشرية ليست ثابتة ومكتملة إلى الابد وإنما تنشأ في طيات الزمن التاريخي، فلا يعنينا من الحاجة إلى الحديث عن الطبيعة وإنما الحديث عن الطبيعة البشرية سواء باعتبارها إطارا تتم فيه عملية خلق الانسان لنفسه أو باعتبارها نقطة نهاية أو الغاية التي يبدو أن التطور التاريخي الإنساني يتجه صوبها وربما يضيف صاحب الكتاب أنه في النهاية من المستحيل الحديث عن التاريخ بل الحديث عن تاريخ عالمي دون الإشارة إلى معيار دائم يتجاوز التاريخ، ذلك أن التاريخ ليس معطى أو ليس مجرد قائمة بكل أحداث الماضي وإنما هو محاولة جادة للتجريد وتميّز الاحداث المهمة عن غير المهمة. وفي آخر هذا المبحث يخلص فوكوياما إلى أنه لن يكون بوسعنا مناقشة المستقبل البعيد للديمقراطية اللبيرالية مادام اقتصر التركيز على الأدلة العلمية التي يوفرها العالم المعاصر ،وإنما يجب تحديد وبصراحة وصورة مباشرة طبيعة المعايير المجاوزة للتاريخ التي يقيم على أساسها سلامة أو فساد أي نظام حكم أو أي نظام اجتماعي. وهنا يذهب كوجيف إلى أننا وصلنا إلى نهاية التاريخ لأن الحياة في ظل دولة عالمية متناسقة هي حياة مرضية تماما لمواطنيها، وبعبارة أخرى فإن العالم اللبيرالي الديمقراطي خال من التناقضات.