01-ذات شتاء بارد..وفي يوم كئيب ماطر، كنت أحمل همومي مسافرا، وكأني على كفّ ريح أركب الأشياء من خلف الأشياء، وأنا أقصد العاصمة، دخلتها الصّبح باكرا، وما دخلتها إلا بشقّ الأنفس، وقد بذلت جهدا لأدخلها كجذوة نار في ليلة مظلمة، أدلف بالرّوح وراء السّحب، أتوارى في الأروقة تخطفني الآهات، أتعارك مع المارة تدفعني المناكب، وعيون الرّفض ترمقني، أشدو مرتهنا للحزن والأسى، وأطلب وسيلة نقل في غير طائل،أمواج بشريّة لا انتهاء لها، حشد ترامت أطرافه هنا وهناك، صخب تعالت مطالبهم، في هذه الزّحمة الكل ينشد الرحلة، ولا مناص من تلك المحنة، سحب تتحرّك كقطعان من النّعاج، كباش تتناطع، تيوس تكشف عن عوراتها دون خجل ولا حياء، مدرّعات حالكة السّواد تقتحم الميدان، جحفل من مارد الجراد يحتل الأرصفة، يا أيّها البحر الغاضب رويدك.. ! أنا أسافر في أضلعي.. أتوضأ بدموع الصّبر، وما عاد في القلب صبر.. تاهت في الطوابير الأقدام، ولم نعد نحتمل تلك الأقدام، تشتمني الوجوه العابسة، تقذفني سهام الألفاظ النابية، فلا أجد إلا الصّمت ملجأ، والعمود الكهربائي متكأ، أصمت وأصمت، ثم أفزع منتفضا، الحافلة.. الحافلة.. أركض مع الراكضين فإذا ما توقفت.. أحشر نفسي في هذا الحشر، فتنطلق المركبة قبل أن تتوقف،وأتراجع قليلا إلى الوراء فتتعالى الزفرات والآهات، ونبض القلوب المتعبات، وفي الأجوبة يغرّد سؤالي المتعب، وأنا أشكو لحالهم ولحالي، وأنتعش على أهازيج من الشتائم المجلجلة، فأشتم مع الشاتمين شتائم لا أعرف لها معنى ولا مبنى، وأدفع بالتي هي أخشن جموع الغاضبين، وأركض في كل اتجاه، ويفتح الله علينا وهو خير الفاتحين. 02- فجأة.. تتوقف الحافلة أمامي وكنت في هذه المرّة من الزّاهدين في طلبها، يجرفني السيل إليها فأتهيأ للصعود، ويجذبني إليه بقوة المسعود، فأتهاوى كالعود، ثم أتمايل وأتحايل، وإذا بي أحشر في الممر حشرا، فيلتصق جسدي بالأجساد التصاقا، وتلتف السّاق بالساق، ولا ندري أين المساق ! فقد صرنا والحمد لله جسدا واحدا، إذا تألم فرد تداعت له سائر الأفراد بالصيّاح، والدعوة إلي الكفاح، وقد استبيح المال والعرض، وأنا تائه في أمواج رفضتها السّماء والأرض، وننزل في محطة الخروبة، بجيوب ممزّقة منفوضة، خيوطها إلى الخارج معروضة، أرسل أصابعي مرتجفة، وأنا أقف على الرّصيف، كالشّبح المخيف، وانتبه مذعورا، وأصيح بأعلى صوتي أنا منكوب.! ضاعت نقودي.! ، وفيما أنا أتألم أكتشف بأنّ في جيبي الخلفي حافظة..! فأسأل لمن تكون؟ وصرت أهمس إلى نفسي وأتساءل، فتتعالى قهقهات الرّفاق، وأنا أتمشى معهم في الزقاق، لديك حافظة نساء.! فزعت، وحركتها يمنة ويسرى وأخفيتها للتو مندهشا، لما اكتشفت كومة من الأوراق النقديّة، وحليّ من الذهب الخالص، بات الأمر لدي مستغربا، فاعتزمت فعل شيء لأجنب نفسي تهمة انتشال ممتلكات الركاب، وما عساني أفعل؟ يا الهي، تكتمت، وركبت براق الأمل إلى رحلة أخرى، إذ امتطيت الصّمت حتى الإنحاء، ململما أشلاء حروفي على جثة الشوق، إني أحببتها قبل أن أراها وأشعر اللحظة بنبض القلب الحالم يحلم، إنّها هي..تلك الفتاة الجملية التي حميتها، موظفة بوزارة الداخلية، هرعت إلى مقصورة الهاتف مندهشا، وتحدثت إليها بصوت خافت، أسألها متأسّفا، هل ضاع منك شيء، نعم ..نعم..من يكون المتحدّث؟ أنا المولود أستاذ، أرجوك سيّدي الاحتفاظ بأوراقي أتنازل لك عن المال ..! أرجوك، أنا في الانتظار..! وأنا مثلك سيّدتي قد ضاعت أوراقي فتقول: أنا لست سيّدة، أنا آنسة..!آه..أوراقك ضاعت.؟ ربما تكون حافظة نقودك وأوراقك في حوزتي ..! أتمنى ذلك، أرجوك سيّدي مساعدتي على استرجاع وثائقي الخاصّة، قلت: أين يكون اللقاء لتبادل المسروقات؟ تعالت قهقهاتها وهي تقول: أهلا بك ضيفا في المنزل، الأسرة تتشرف بحضورك، فأين أنت؟ قلت أمام المكتبة الوطنية، قالت: انتظر .. وما هي إلا دقائق، حتى تحرّكت سيّارة فاخرة لتتوقف، وتتفحّص الوجوه من تحت نظارات سوداء، فأمعن النظر فيها، وإذا بها تفتح الباب ،إنها هي . .! 03- أتقدم منتشيا فتدعوني والثغر باسما، فأحيّيها على استحياء، أنت الآنسة..سعاد ؟! فتجيب: أنا هي .! وأنت سي المولود؟! أهز رأسي مبتسما أنا هو..! تهللت آيات وجهها النضر وهي تقول: تمهل سيّدي.. فلم العجلة؟ عندما تركب السيّارة وتستوي جالسا، حينها يمكنك أن تفاوض على المسروقات ولربّما تسترجع أكثر ما ضاع منك.. فتضحك والدتها بصوت جهور وهي تقول: سنتناول معا طعام الفطور و تسترجع ما ضاع منك، ركبت تحت إلحاحهما وتحرّك القلب مع عجلات السيّارة، واهتزت المشاعر، وسكن حبّها شغاف القل ، إذ تجلجل الفرح في الأضلاع محتشدا، وتغرّبت أحرف اللغة في ألسنتنا، وغازل العشق أشرعتي، آه .. لكم كانت كلماتها عذبة، وتفكيرها راقيا، تجاذبنا أطراف الحديث، وكأنّها تعرفني من قبل وأعرفها،ولمّا توقفت السيّارة، دلفنا باب المنزل، أزاحت النظارات السوداء فرحت أطرح الهم وأنضح التعب وأسخر من نفسي، تناولنا مشروبات وتبادلنا الحافظات كانت تقول: هذه مفاجأة عجيبة، فأقول: وا لصدفة أعجب آه.. حدث اللقاء ونتمنى من الله أن يكون طريقا إلى السّعادة ، فتهزّ الأمّ رأسها مبتسمة في رفق وكأنّها تهمس إلينا.. هي سعيدة بهذا اللقاء، وإن القلب ليحدّثها بشيء تخفيه الأقدار، فأنكس رأسي مستغرقا في تفكير عميق، وأخاطب النفس.. أنا الخجول أكتم الطلب، ادع قلبي لكل صالحة، فذوبي أيّتها الجميلة في قهوتي سكرا، لعمرك إنّ حبك مشكل ومشكل طارئ.. وفجأة أستفيق على صوتها الندي تدعوني إلى مائدة الطعام، وقضيت يوما جميلا وتوالت الأيام وأنا أمنّي النفس، وأتسلى بهذا الحبّ وأتردّد على البيت عاشقا معشوقا فخاطبا، أنزوي خلف المتاهات والقلب ظامئ، أحلامها تسير في أضلعي، حبّها يسكنني، وأجمل الحب ما تأتي به الصدف، تتدعم علاقاتنا العاطفية وتزداد مع الأيام عمقا وتلاحما، حتى صرنا نفكر في أمر الزواج ونهيئ أنفسنا لذلك اليوم الموعود، وقد حدّدنا المواعيد وكانت تؤجّل.. متعللة بشتىّ الذرائع والحجج، وأنا لا أرفض لها طلبا، إنّما أشعر بالإحراج من هذا التأجيل، فأنا أعيش هذه التجربة العاطفيّة ولأوّل مرّة، لكنّها تجربة مقرونة بالإحباط وبالشعور بالدونيّة فهي فاتنة جمال، تنحدر من أسرة ثريّة، وأنا بسيط من عائلة فقيرة، غير وسيم أسناني مفككة، أنفي طويل، جبهتي مسطحة بارزة، عيوني غائرة، أشعر بأنّها تتجاهلني أحيانا عندما أكون مع الرّفاق، وتدرك بذكائها اللمّاح بانيّ لأ أعترض على ذاك السلوك، صوّر بدأت ترتسم في المخيّلة يطغى عليها البهوت ، ربّما أصابني بعض الضّعف، فأصيبت نبراتي بالخمود، أنا أنتظر أن يضمّنا عش الزوجيّة، ونسعد بذلك اليوم، هي تفرح باللقاء وتبتهج بعد إقفاءات. 04 -هذا الصيف اعتزمنا عقد القران، وشعرت بشيء يرتب في الخفاء، لم تكن لي قدرة الرجال الأشدّاء على مواجهة المخاوف، قرأت أحرف السراب في أعينها، جرح نابض يؤلمني، صار حبّها انكسارات في مرايا الرّوح وسيف الآهات مرتعد، يا أيّها الحب المدفون في ذلك الجرح إني رأيتك تعصرني كثمار الليمون، ها أنا ذا جئت وجاء الأهل ونزلنا ضيوفا، فيا ليتها تمضي إلي وعدها، أغنية تهاجر من شفاه عاشقين، تختفي في هدهدة الزبد، أجل.. بعد العصر لما زرنا دارها لم نجدها! ولم نجد الأهل، البيت موصود.. هل حل بهم هم وزالت أفراحهم؟ الأمر مستغرب ! أبهذه السّهولة تغيب؟! ماذا حدث ؟ أسئلتي عراك مع النفس تسليها ابتسامة طائشة، وأنا أقف أطوف على الدّار متألما، وأمي وأختي وجارتي وخروفي وهواتفي .. وو .. ينتظرون، أصرخ ..توهمت حبا.! توهمت عمرا! توهمت شبابا! ،توهمت رياضا تفوح عطرا .! زرعت فجرا فكان شوكا وكانت أفعى مجلجلة..آه.. تدور في النفس الدروب كالبقايا المهملة، عبثا أدور وأدور ولا أخطو قيد أنملة.. هل صار الحبّ تجارة؟ هل صار الزواج لعبة ممسرحة، أوّاه صممنا الآذان عن كل عذب وشغلنا بهذا اللون من الحبّ الكاذب، أصابني ضعف وإحباط، كحلت جفني بالحروف، ولم يفهم وجعي القلم فأكتب الحكاية بدمع من لهب، ترحل السعادة في زحمة الأفراح وتفتح الجراح.. تجلدني .. يا ليتها كانت صادقة في حبها! أبعد العشق تخدعني وتوخز الجسم باللسعات؟! داست أحلامي فامتطيت الصّمت خاشعا والوجه مخجول أذبح العمر غربانا لهجرها وأكاذيب النساء عار كغباوة الرجال، إني أكتب اسمها على دفتر الأموات، و لم يبق من ذكراها في مخيلتي سوى طيف باسم خجول من يوم الحشر، يستولي على فمي الذهول ، تتراجف شفتاي وقد اغرورقت عيناي عندما سمعتهم يقولون: رحلت إلى الدانمار مع زوجها وأطفالها الثلاثة.. يا للسخريّة ويا للعار! هي متزوّجة ولها أطفال؟! غفرانك ربي .! الأمر صار أكثر استغرابا ونذالة لذلك سارعت إلى طيّ الصّفحة والحزن في الأضلاع محتشدا.. و لساني يهتف..إني عشقتها ويا ليتني...!!