تمثل الحرف اليدوية في شكلها العام زخما ثقافيا ينطق بعظمة الماضي وإبداع الأجداد، وهي منتشرة في الأوساط الشعبية تفنن فيها روادها واتخذوها مصدرا لرزقهم يعيلون بها أفراد أسرتهم، هذه الحرف وإن قلّت، إن لم نقل بدأت تعرف طريقها نحو الزوال في يومنا الحالي بسبب تخلي الجيل الجديد عنها، إلا أن القصبة التي عرفت ميلاد هذه الحرف اليدوية لازالت تشهد لها بالبقاء بسب التسميات التي احتفظت بها بعض حوماتها وزنيقاتها كزنيقة النحاسيين'' وزنيقة '' العرايس '' زنيقة الجلد '' و'' زنيقة الصندوق''. عرفت الحرف اليدوية منعرجا آخر حيث تطورت لتصبح فنا قائما بذاته بعد أن جابت تلك القطع التي تفنن فيها أصحابها أركان الدنيا بفضل الرحلات التي قام بها الإنسان منذ القدم، حيث أدخلت على هذه القطع رتوشات معينة كلما حلت ببلد ما لتنسب إلى أهل تلك المنطقة وتعرف باسمها كأن نقول مثلا ''الشاشية الجزائرية'' و'' الشاشية المغربية'' أي نفس القطعة مع إضافة اسم البلد. ومع تعاقب الزمن بدأت هذه الحرف تعرف تدريجيا طريقها نحو الزوال والجزائر واحدة من البلدان التي أهملت هذا القطاع بعد أن كانت من البلدان الصانعة للتحف والمنتوجات الحرفية. ولنأخذ على سبيل المثال قصبة الجزائر العاصمة التي كانت فيما مضى منبعا للحرف التقليدية على اختلاف أشكالها لدرجة أن سكان الجزائر القديمة كانوا يقسمون '' القصبة'' حسب صنف الحرفة التي تشتهر بها كل ''حومة'' من ''حوماتها'' ك ''زنيقة النحاسيين''، ''العرايس ''زنيقة الجلد'' و''زنيقة الصندوق''... وقد عرفت هذه الحرف ازدهارا كبيرا في فترة ما قبل الاحتلال الفرنسي وتوارثتها أجيال الاستقلال فيما بعد، غير أن الجيل الجيد جيل ما بعد الاستقلال أهمل هذه الحرفة. والسؤال المطروح هنا ما مآل هذه الحرف اليوم، وماذا تبقى منها في زمن العولمة؟ ولمعرفة واقع الحرف أو الصناعات التقليدية بهذه المنطقة العتيدة قامت ''الحوار'' بجولة ميدانية قادتها إلى أعماق القصبة قصد الوقوف على وضعية الحرف اليدوية وما تبقى من الحرفيين. من زنيقة الجلد إلى زنيقة النحاسين.. ما تبقى من الحرف المكان شارع القصبة قديما أو ما يعرف اليوم بشارع الأستاذ صوالح بالقصبة العليا، حيث وجدنا عمي محمود بالهادي مرابضا رفقة صهره بمحله الكائن هناك مجلدا بالصبر، ورغم ضيق المكان إلا أن قلبه اتسع لنا واحتوانا بكل فرح وترحاب. اشتهر عمي محمود بصناعة الجلد حيث أبدعت أنامله التي تنبعث منها رائحة الجلد وتلونت بواسطة المواد الملونة التي تدخل في صناعة الجلد بطريقة يدوية، أشكالا متعددة غاية في الإتقان تسر الناظر إليها. ورغم هذا يقول عمي محمود ''راح كل شيء ما بقى والو''. عاد بنا عمي محمود وهو يروي لنا بداياته الأولى مع حرفة الجلد إلى 40 سنة، حيث كان شابا يافعا يساعد والده في هذا المحل ويتعلم صنعة ''لقد تعلمت هذه الحرفة بتشجيع من طرف الوالد وأصبحت جزءا من حياتنا. ومن كثرة اعتزازنا بها كنا لا يمضي يوم واحد إلا وأضفينا عليها لمسة معينة، فضلا على أنها كانت مصدر رزقنا وقوت عيالنا والحمد لله أننا حافظنا على هذه المهنة التي ورثناها جدا عن اب''. ومن القصبة العليا كانت وجهتنا الموالية القصبة الوسطى وبالضبط ب ''عين المزوقة'' شارع حسين بورحلة حاليا، حيث وجدنا ما تبقى من صناعة النحاس. ''بن ميرة'' الذي برع في صناعة ''النحاس'' والذي أبدع وتفنن في إخراج تحف فنية جميلة كما وجدنا أيضا في هذه المنطقة الأثرية من بقي وفيا لصناعة ''الصندوق'' المزركش بألوانه الباهية التي زادت من رونقه و جماله الأخاذ الذي كان يرافق '' عروس الجزائر القديمة'' حيث توضع فيه جهاز عرسها ليقوم فيما بعد مقام الخزانة في وقتنا الحالي، حيث أجمعوا هؤلاء الحرفيين أن هذه ''الصنعة'' بدأت تعرف تقهقرا في الآونة الأخيرة لأسباب عدة. ''الصندوق'' المزركش بألوانه الباهية التي زادته رونقا وجمالا، صندوق كانت تحمل فيه ''العروس قديما أغراضها الخاصة من الحلي والمجوهرات''. وأكد لنا بن ميرة أن هذه '' الحرفة '' بدأت تعرف تقهقرا في الآونة الأخيرة لأسباب عدة، في مقدمتها، كما يقول، لا مبالاة الجزائريين بأهمية هذه التحف المصنوعة من النحاس وتفضيلهم التحف المصنوعة من السيراميك. حرفة هجرها أهلها بسبب غزو الآسيوي السوق الجزائرية ونحن نتجول في أرجاء القصبة التقينا بالشاب عادل الذي كان يمتهن حرفة ''الفخار'' إلا أنه ما فتئ أن غادر محله لأنه ببساطة لم يعد يدر عليه المال الكافي وأن الحرفة لم تعد لها مكانة كما في السابق. يقول محدثنا ''أنا أعيش في زمن السرعة وأرى أقراني يكسبون أموالا طائلة، أما أنا فتخندقت داخل محلي الصغير علّ وعسى يأتي أحدهم ليشتري مني بضاعتي المكدسة و التي تعبت لأجلها وإن بعتها فثمنها لا يساوي ربع الجهد الذي بذلته من أجل إخراجها كقطعة فنية جاهزة. في الحقيقة الإنتاج الصيني غزا السوق الجزائرية''. هذا الطرح أيده أيضا عمي سحنون حاند الذي غير نشاطه كحرفي في صناعة النحاس ليتوجه إلى جمع القطع الأثرية من مختلف مناطق الوطن ويعيد بيعها من جديد. وفي هذا يقول سحنون ''لقد تركت حرفتي مضطرا غير راغب بسبب ركود هذه الحرف التي لم تعد كسابق عهدها حيث كانت القصبة تعج بدكاكينها التي تنشط في حرف مختلفة''. وأضاف متحسرا ''القصبة اليوم أضحت موحشة بعدما أوصدت أبواب محلاتها وهجرها أبناؤها الحرفيون إلى غير رجعة، منهم من وافتهم المنية ومنهم من اتجه إلى مزاولة أعمال أخرى''. الحرف اليدوية تستغيث.. نظرا لأهمية الحرف التقليدية التي تلعب دورا فعالا في جلب السياح إلى المنطقة، حيث تسعى الدول الرائدة في مجال السياحة مثل تونس ومصر، والمغرب واليابان والصين، التي تحتوي على زخم ثقافي ضارب في التاريخ، إلى استغلال هذه الحرف في يومنا من خلال المحافظة على هذا الموروث الثقافي المادي نظرا لتهافت السائح الأجنبي عليه، دعا كل من عمي محمود وسحنون إلى ضرورة إعادة الاعتبار للحرف اليدوية التي من شانها استقطاب السياح المحليين والأجانب من خلال اعتماد آلية جديدة لإنقاذ الحرف اليدوية من الاندثار. وفي ظل غياب إستراتجية تعنى بالحرف اليدوية الجزائرية خاصة تلك التي تشتهر بها قصبة العاصمة نظرا للخصوصية التي تميزها عن باقي الحرف اليدوية المنتشرة عبر القطر الوطني، تبقى هذه الحرف عرضة للضياع والاندثار نتيجة الإهمال والتهافت على المنتجات المستوردة من الدول الأجنبية .