صناعة النحاس بالجزائر هي من بين الحرف اليدوية التي مازالت تتحدى الزمن من أجل البقاء والحفاظ على هويتها ورونقها الجمالي. يخيل لك وأنت تتجول بين أزقة القصبة الضيقة وكأنك في سوق النحاس حيث يتوزع عدد لا يستهان به من محلات صناعة وبيع النحاس. ما أن تتصفح إحدى القطع النحاسية منها حتى يخيل لك أن صاحبها من خريجي المدرسة العليا للهندسة نظرا للتقنيات الرفيعة والمتميزة التي صممت بها مختلف التحف النحاسية من إبريق الشاي وسينية القهوة وطاسة الحمام التي كانت ترافق العروس في اليوم الذي يسبق حفل زفافها، وغيرها من الأواني التي مازالت بعض العائلات الجزائرية تحفظ بها في بيتها. هذه الحرفة التي توارثتها الأجيال أبا عن جد تمثل مصدر رزق الكثير من الحرفيين، على الرغم من ضآلة مردودها المالي لدرجة لا تضمن احتياجات هؤلاء المبدعين في هذه الحرفة التي تتطلب جهدا ومهارة وصبرا كبيرا لإنجاز تحف فنية آية في الجمال بنقوشها الرائعة المشكلة من زخارف هندسية متنوعة. ورغم أن العديد من الجزائريين أداروا ظهورهم لهذه الحرفة، إلا أن الفئة القليلة التي تقدر أهمية هذا الموروث الشعبي الأصيل تحاول جاهدة الحفاظ على بقائها واستمرارها والعمل على إخراجها من نفقها المظلم. لكن السؤال الذي يطرح نفسه هو: هل سيبقى هذا الموروث الثقافي صامدا أمام قوة الآلة التي اقتحمت ميدان هذه الحرفة؟ مهنة النحاس تستنجد فهل من منقذ المكان دار الحرف التقليدية بباب الوادي، المهنة حرفي في صناعة النحاس، دخلنا محله المتواضع، كانت أرجاؤه توحي بانه حرفي محترف ومحنك وخبير بعالم النحاس. إنه دريس زولو أحد مهندسي زخرفة النحاس بالجزائر العاصمة الذي تعلم على يد المهندس الأكبر الذي تخرج على يده العديد من حرفيي النحاس بحي القصبة العتيق وهو زولو محمد. سألناه عن واقع هذه الحرفة اليوم، سؤال عاد بذاكرة دريس إلى العام 1967 حين كان طفلا صغيرا لا يتجاوز 12 سنة، حيث كان والده رحمه الله يأخذه معه إلى محله هناك بحي القصبة، ليعلمه مهنة تكون سنده في وقت الشدة ومصدر رزقه. عن هذه الحرفة أوضح دريس أن أحبال صوته تقطعت من شدة الحديث عن معاناة الحرفي ليس فقط الذين يشتغلون في مادة النحاس، قائلا'' إن هذه الحرفة أقل ما يقال عنها إنها مهددة بالاندثار والضياع نتيجة اللامبالاة، وعدم الاعتناء بها، إن حرفة النحاس عرفت ركودا مقارنة مع الدول العربية مثل تونس والمغرب، فالحرفي في هذه البلدان يوفر له كل شيء ما عليه سوى التشمير على سواعده وإخراج القطع المتعددة الأنواع والأشكال. الدعوة إلى استحداث بنك خاص بالحرفي وللخروج من هذه الأزمة دعا محدثنا إلى ضرورة استحداث مؤسسة بنكية لدعم الحرفي حفاظا على هذا الموروث الشعبي الأصيل الذي يشكل النسيج الفني والثقافي للبلاد وجزءا من الهوية الوطنية، مصرف يضمن للحرفي السيولة المالية التي تساعده على تخطي أزماته ويعطي له دفعا قويا لمواصلة عمله بصورة تضمن له غده. فمستقبل الحرفة مرهون بمستقبل الحرفي. وأضاف يقول ''بصفتي حرفي في ميدان النحاس فهذه الحرفة إن لم نغذها ونوفر لها عنصر الأكسجين للتنفس فسيكون مآلها الانهيار والزوال من على وجه الأرض، ونكون قد قضينا على استمرار هويتنا ونقطع حبال الود وجسور التواصل مع أجدادنا الذين نهمنا منهم هذه الصنعة التي فقدت مكانتها اليوم. تطبيق توصيات مؤتمر زرالدة الحل الوحيد للخروج من الأزمة كما طالب أصحاب الحرفة وعلى لسان زميلهم دريس زولو تطبيق ولو 50 بالمائة من التوصيات التي انبثقت عن مؤتمر زرالدة الذي نظم أيام 20 -21-23 نوفمبر 2009 والذي تمحور موضوعه حول ''مستقبل الحرفي في الجزائر''. ويعد هذا المؤتمر منعرجا مهما من جملة اللقاءات والمؤتمرات التي نظمت في الجزائر نظرا لأهمية الأفكار المطروحة على طاولة المحادثات التي بادر بها المتخصصون، وكذا البعد الإستراتيجي الذي طبع المحاور التي نقشت خلال أيام المؤتمر الثلاثة. مؤكدا في السياق ذاته أن الإرادة السياسية موجودة تنتظر من يترجمها على أرض الواقع. ويقول دريس الحرفي إنه يعمل طول حياته دون أي امتياز فهو لا يملك بطاقة الضمان الاجتماعي كبقية العمال ولا يستطيع الاشتراك حتى في الصندوق الوطني لغير الأجراء، لأن دخله السنوي لا يسمح له بالقيام بذلك، فهو بالكاد يؤمن قوت عياله اليومي، تحدث كل هذه المشاكل والوزارة المسؤولة عن القطاع في غفلة عنا. تكوين الشباب في الحرفة مرهون بتوفير المادة الأولية وعن إمكانية تكوين الشباب في هذه الحرفة وإنشاء جيل يحمل مشعلها في المستقبل، أكد دريس أنه تلقى الكثير من الطلبات من قبل شباب يودون تعلم هذه الحرفة التي تعبر عن الأصالة خاصة إذا علمنا، يضيف زولو، أن صناعة النحاس بالطريقة اليدوية بدأت تشهد طريقها نحو الزوال في ظل غياب الدعم، الأمر الذي ساهم، حسبه، في اختلال توازن الحرف التقليدية في بلادنا، والتي كانت منتشرة انتشارا واسعا في أزقة القصبة، حيث كانت هذه الأخيرة فيما مضى منبعا للحرف التقليدية على اختلاف أشكالها وأنواعها. مخطئ، يضيف دريس، من يقول إن شباب الجزائر لا يملك أي اهتمام بتعلم الحرف، كما يعتقد البعض، إنما الجزائر تتوفر على طاقة إبداعية تنتظر من يفتح لها مجالا لتفجر طاقاتها المكنونة لتقدم إبداعا لا مثيل له. حتى لا تضيع الأواني النحاسية العتيقة أكملنا سيرنا وكانت وجهتنا هذه المرة نحو حي القصبة منبع حرفة النحاس في زمن ليس ببعيد، حيث وجدنا بعضا من رواد هذه الحرفة الذين بقوا أوفياء لها. إنه شيخ النحاسين ''بن ميرة'' الذي يقبع في محله بشارع الأستاذ صويلح ''رو دلاكصبة'' سابقا بأعالي القصبة، والذي بقي وفيا لهذه الحرفة على الرغم من أنه بلغ من العمر عتيا، ومازال يمارسها بكل حب وافتخار ويحاول قدر المستطاع الحفاظ عليها ومنعها من الاندثار. غير بعيد عن محل بن ميرة وجدنا عبد الحميد، شاب في مقتبل العمر، تحدث إلينا بحسرة وهو يحاول إعادة الأواني النحاسية القديمة بريقها عن طريق صيانتها، هذه القطع تحصل عليها عبد الحميد عن طريق شرائها من النسوة، وكذا عن طريق البحث عنها في أماكن مختلفة. وهو يروي لنا قصته مع حرفة النحاس قائلا ''يا حسراه على النحاس في أزقة القصبة حيث كانت تعج بصناعه، لكن اليوم وأمام زحف الآلة التي تطبع أشكالا من الأواني اختصارا للوقت ولفائدة اقتصادية، عوض نقشها باليد كما عهدناها في السابق، انهارت هذه الحرفة، وأنا في هذا المحل المتواضع أحاول قدر المستطاع إرجاع بريق تلك الأواني التي أشتريها من بعض الزبونات اللواتي فضلن بيعها وربح بعض الدنانير أحسن من رميها في زبالة الحي، آخذها وأعيد صيانتها و بيعها من جديد''. ويوضح لنا محدثنا أن سبب اختياره لهذه الحرفة لم يكن بهدف الربح وإنما حفاظا على حرفة النحاس اليدوي من الزوال ''إن اختياري لهذه المهنة ليس لأنها تدر علي بالأرباح إنما حتى لا تضيع الأواني النحاسية العتيقة''.